أدى اشتداد قبضة حزب "القانون والعدالة"، القومي المحافظ في وراسو، إلى تشققات في الحكومة الائتلافية البولندية، بخروج حزب محافظ صغير منها، إثر تمرير البرلمان البولندي مساء الأربعاء الماضي قانون الإعلام المثير للجدل، بعد أن أحكم قبضته على النظام القضائي.
عنونت "غازيتا ويبوركزا"، إحدى الصحف البولندية، الصراع على الحكم باعتباره "انقلاب دولة على الليبرالية"، وسط انتقادات محلية وأوروبية للمسار المتشدد الذي يقود من خلاله الحزب المعروف اختصاراً بـ"بي آي إس" البلاد، إلى ما يسمّى "حياة غير ليبرالية". ويتذرع الحزب القومي المتشدد بأنه ينتهج تلك السياسات "للتخلص من الإرث الشيوعي للحكم"، رغم مرور أكثر من 30 سنة على التحول الذي شهدته وارسو.
في الجوهر، فإن رجال الحكم من اليمين المحافظ يتجهون أكثر نحو إرساء نظام حكم يرى الحكومة مسؤولة عن قيم واتجاهات المجتمع واختيارات أفراده، وعليه تتبنى المزيد من مركزة السلطات، وبينها القضائية والإعلامية والاجتماعية، وتجريم الإجهاض حتى ولو كان لأسباب طبية، ما خلق صورة عن أن حزب "العدالة والقانون" يروج لنموذج يخلط بين "القيم الدينية" للبلاد، ومحاولة الطرق على المشاعر القومية، باعتبارها مهمة الدولة.
ومنذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019، تسارعت وتيرة الاتجاه المعادي لليبرالية في بولندا، كما يجري في المجر بزعامة رئيس وزرائها المثير للجدل، فيكتور أوربان. في تلك الانتخابات، حقق القوميون المحافظون في "العدالة والقانون"، بزعامة رئيس الحزب ياروسلاف كازينسكي، سابقة بحصولهم على أكثر من 43 في المائة من الأصوات. ورغم ذلك، لم يستطع تحقيق الأغلبية البرلمانية (232 من بين 460) نائباً لتشكيل حكومة منفرداً، فبحث له عن شركاء في معسكر اليمين، ليجد ضالته في حزبين صغيرين، حزب "تضامن بولندا" (سوليدارنا بولسكا) المعادي للاتحاد الأوروبي، وبزعامة وزير عدل مثير للجدل هو زبيغنيو زيوبرو، وحزب أقرب إلى الوسطية المحافظة، "الاتفاق" (بوروزوميني)، بزعامة ياروسلاف غوين، المستقيل أو المقال.
مساء الأربعاء الماضي، وبعد تمرير مجلس النواب لقانون يحظر تملك الأجانب لوسائل الإعلام، والهدف قناة تلفزيونية تحظى بشعبية كبيرة، هي قناة "تي في أن" المملوكة لشبكة "ديسكوفري" الأميركية، انفرطت الأغلبية البرلمانية، بعد استقالة، أو إقالة كما تذهب الحكومة، لنائب رئيسها، وزعيم حزب "الاتفاق" (12 مقعداً) ياروسلاف غوين. ويعتقد على نطاق واسع أن رئيس الحكومة البولندية ماتيوز مورافيكس يقع في الواقع تحت تأثير ونفوذ كبيرين من زعيم حزبه ياروسلاف كازينسكي.
والقناة المستهدفة، على عكس القناة الرسمية TVP (تلفزيون بولندا)، التي تحولت إلى ناطق باسم الحزب الحاكم، كانت تنقل جلسات البرلمان، وتقدم في سياستها التحريرية انتقادات دائمة لحكومة التشدد القومي، ليست وحدها التي يصوّب عليها "قانون الإعلام" بل العديد من وسائل الإعلام المستقلة، وهو ما أثار حفيظة داخلية وخارجية، وصلت حدّ انتقاد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أمس الخميس، ما يجري في وارسو.
وعلى الرغم من أن قانون الإعلام هو الذي فجر الائتلاف الحاكم، إلا أن قوانين كثيرة أخرى أثارت قلقاً طيلة الأشهر الماضية، حتى بين اليمين المعتدل، ومن بينها قانون "الإصلاح الضريبي" الذي يساعد حزب "القانون والاعتدال" على تمويل سياساته الشعبوية القائمة على دعم الأسر التي تنجب المزيد من الأطفال، ودعم الطبقات المؤيدة لتوجهات الحزب، وهو ما عده الاتحاد الأوروبي خروجاً عن الليبرالية التي تستند إليها أنظمة حكم النادي الأوروبي.
وتحول الحزب القومي إلى حكم الأقلية، بعد حجب التأييد له من 12 برلمانياً، يضع الساحة السياسية البولندية أمام انقسام حاد، سيضطر حزب "القانون والعدالة" إلى جمع أغلبية في كل مرة يريد فيها التشريع في السياسة.
وتعيش بولندا ما يشبه حالة روسية في مزاوجة المال بالسياسة، حيث الصراع على حرية وسائل الإعلام يتزايد، مع تزايد هيمنة طبقات رجال الأعمال، وخصوصاً مجموعة "بي كي أن أورلين" النفطية (PKN Orlen)، التي تزايد نفوذها في وسائل الإعلام واحتكار الصحافة ووسائل الإعلام، ما دفع بوارسو إلى التراجع من رقم 18 (2015) نحو المرتبة 64 في مؤشر حرية الصحافة من أصل 180 دولة.
ورغم محاولات الأميركيين التأكيد على أهمية بولندا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلاقاتهما المشتركة، وفقاً لما ذهب إليه بلينكن الأربعاء، معقباً على ما يجري وعلى تشدد وارسو في قضية أخرى تتعلق بتقييد إمكانية طلب اليهود وأحفادهم استرداد ممتلكاتهم من فترة "الهولوكوست"، فإن الخشية هي من ذهاب حكومة التشدد القومي نحو انفتاح أكثر على الصين وروسيا، رغم ادعاء الحزب أن قانون الإعلام الجديد جاء لمواجهة الدولتين و"لحماية المجتمع البولندي" من تأثيرهما. ومن الجدير ذكره أن علاقة واشنطن بوارسو كانت في أفضل حالاتها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، قبل أن تبرد بمجيء جو بايدن، واهتمامه أكثر بالعلاقة مع برلين ودول الشمال، وهو ما يزعج حكام وارسو، الذين لا يروق لهم الحديث الأميركي عن "القيم الديمقراطية".
وفي كل الأحوال، تظهر الاستطلاعات الأخيرة في بولندا أن "حزب القانون والعدالة" اليميني المتشدد في حالة تراجع إلى نحو 36 في المائة (من 43.6 في المائة بانتخابات 2019)، مع تقدم ملحوظ لمصلحة حزب "منصة المواطنين " (PO)، بزعامة رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي السابق، اليبرالي دونالد توسك، إلى 26 في المائة.
ولا يبدو الحزب الحاكم في عجلة من أمره للذهاب نحو انتخابات مبكرة (العادية مقررة في 2023) خلال العام الحالي. ويقدّر مراقبون أوروبيون استمرار حكم "القانون" من خلال تحالفات لحظية، وخصوصاً أن الخريف المقبل سيشهد تمريراً نهائياً لقانون الإصلاح الضريبي والاجتماعي، ليمكنه من السيطرة أكثر على مفاصل الحكم.
ولكن، الجلبة والفوضى التي أحدثها تصويت مساء الأربعاء الماضي على قانون الإعلام، ربما تضطر قيادة الحزب إلى الدخول في مساومات وتنازلات هنا وهناك لكسب الأغلبية، وهو ما يقرأه البعض مزيداً من إضعاف لمكانته بين نواة ناخبيه الأيديولوجيين في الجناح القومي المتشدد، الذين يراهنون على قيام الحزب بإعادة تشكيل الدولة البولندية بناء على الفكر القومي الديني المتشدد في محافظته. وذلك كله لن يمر بسهولة في علاقة البلد مع عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسل، حيث يرى ساسته أن وارسو، وغيرها في شرق ووسط القارة، يتجهون أكثر نحو التحلل من قيم ومبادئ المعسكر الأوروبي، وعلى الأبواب تحضر مسألة صرف الأموال التي خصصها الأوروبيون لإعادة إنعاش الاقتصاد بعد أزمة كورونا، ما سيفتح السجال مجدداً حول إمكانية معاقبة بولندا مثلما تتعالى الأصوات المطالبة بمعاقبة المجر.