لم يكن مفاجئاً حصول رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على أغلبية مؤيدة له في جلسة التصويت على الثقة التي عُقدت، مساء اليوم الإثنين، بشكل سرّي وامتدّت من الساعة السادسة بتوقيت غرينتش حتى الثامنة.
وحصل جونسون على 211 صوتاً مؤيداً مقابل 184 معارضاً. كثير من النوّاب المحافظين توقّعوا هذا الفوز، بمن فيهم المتمرّدون عليه. إلا أن المفاجئ كان ربما مسارعة بعض النوّاب في مشاركة الرأي العام بتصويتهم ضد جونسون غير عابئين بالسرية المحيطة بالتصويت.
وفي هذه الخطوة "العلنية" والمبكّرة التي سبقت الإعلان عن النتيجة بساعتين، تمكن قراءة رغبتهم في إعلان موقفهم بغضّ النظر عما ستفضي إليه نتيجة التصويت. أي أن جونسون، الذي كان سبّاقاً في مطالبة البريطانيين بالتعايش مع فيروس كوفيد-19، مطالب اليوم ربما بالتعايش مع فكرة أنه زعيم حزب لا يحظى بإجماع أعضائه. عدا عن أن الفوز الحسابي المتعلّق بالأرقام لن يشكّل فوزاً سياسياً كالذي حصل عليه جونسون في انتخابات العام 2019.
وسبق لتيريزا ماي أن نجت من حجب الثقة في تصويت مشابه عام 2018، إلا أنها قدّمت استقالتها بعد ستة أشهر فقط. وقد يجادل جونسون وحلفاؤه بشأن هذا "الفوز" مقلّلين من أهمية نسبة الأصوات القليلة التي أحدثت الفرق، إلا أن حقيقة الأمر أن جونسون لم يفز، بل نجا مؤقتاً فقط، ولن تحمل له الأشهر القادمة اطمئناناً سياسياً كاملاً على الأرجح.
سبق لتيريزا ماي أن نجت من حجب الثقة في تصويت مشابه عام 2018 إلا أنها قدّمت استقالتها بعد ستة أشهر فقط
صحيح أن "حزب المحافظين" حصل على ما يقارب 14 مليون صوت في الانتخابات الأخيرة، لكن هذا الرقم تراجع اليوم بكل تأكيد، وبقاء جونسون في منصبه لم يعد يخصّه وحده، بل يخصّ مستقبل الحزب السياسي أيضاً، ومعظم أعضائه يعرفون أنهم فقدوا ثقة الناخبين خلال السنوات الثلاث الماضية، واليوم يجدون أنفسهم في مواجهة ملفّات محلية لم تتعامل معها الحكومة كما ينبغي. فارتفاع تكلفة المعيشة يرهق البريطانيين أكثر بكثير من "حفلات داونينغ ستريت"، وربما لن يعنيهم ما إذا كان رئيس الحكومة التي فشلت حتى الآن في مواجهة هذا الملف الخطير هو أول رئيس للوزراء يخرق القانون. ما يعنيهم أكثر هو أن جونسون لم يستخدم حتى الآن الملفّات الداخلية في تحويل الأنظار عن أخطائه المتتالية.
بمعنى أنه حتى هذه اللحظة، لم يجعل من الأزمات الداخلية العالقة أولوية أو حتى غطاء يخفي وراءه خرقه القانون أو "تضليله" البرلمان أو تقرير "سو غراي" الذين يدينه بشدّة. لم يستخدم سوى الأزمات الدولية كالغزو الروسي على أوكرانيا وبروتوكول أيرلندا الشمالية وخطّة رواندا المثيرة للجدل.
اليوم، في عزّ "مأزقه" مع هذا التصويت، وفي الوقت الذي كانت كل وسائل الإعلام البريطانية المسموعة والمرئية والمقروءة منشغلة بمستقبله السياسي، كان مكتب جونسون في "داونينغ ستريت" يرسل عبر البريد الإلكتروني مواجز إخبارية للصحافيين عن نشاطاته. ولم تتضمّن تلك النشاطات أي حديث عن التصويت أو عن برنامج جديد ينوي جونسون المضي فيه لو نجا من العزل السياسي.
الخبر الصحافي الأول كان عن اتصال هاتفي جمعه بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث "أجريا حواراً معمّقاً عن معركة أوكرانيا المستمرة ضد العدوان الروسي في دونيتسك ولوغانسك". ثم سُرّب، في وقت لاحق من اليوم، بعض ما جاء في الاجتماع المغلق الذي جمع جونسون بنوّاب "حزبه قبيل ساعات من التصويت، حيث قال جونسون: "ليست هذه اللحظة المناسبة"، مضيفاً، بحسب التسريبات، أن الرئيس زيلينسكي قال له هذا الصباح: "أريد مملكة متحدة قوية". ما أثار ردود فعل غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي من الإيحاء الذي لمّح إليه جونسون عن أن المملكة المتحدة ستكون قوية فقط في حال كان هو رئيس حكومتها.
أما الخبر الثاني الذي حرص "داونينغ ستريت" على تعميمه على الصحافيين، فكان عن اجتماع جمع رئيس الوزراء بنظيرته الإستونية كاجا كلاس، ودار فيه الحديث عن كيفية تعزيز شركاء الناتو التحالف قبل قمة الشهر الجاري. كما جدّد بوريس جونسون التزام المملكة المتحدة بأمن إستونيا واستقرارها، والذي سيتّضح من خلال إرسال بريطانيا مجموعة قتالية إضافية. كل هذا يؤشّر إلى أن جونسون لا يعتبر الأزمات الداخلية غطاء "سميكاً" بما فيه الكفاية ليحرف عبره الأنظار عن الفضائح التي تلاحقه.
إلا أن ملايين البريطانيين قد لا يهتمون في نهاية يومهم الشاقّ بتلك الاجتماعات "المهمة" أو الاتصالات الهاتفية التي تعزّز موقف المملكة المتحدة وموقعها على الساحة الدولية، على الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي. ما يهمّ ملايين البريطانيين هو أن يتمكنّوا في نهاية يومهم الشاقّ من متابعة الأخبار تلك من دون أن تعيقهم هموم فواتير الكهرباء الباهظة أو القلق المتصاعد من غلاء المعيشة والضرائب المرتفعة.
من جهة أخرى، يعطي تصويت اليوم فكرة أفضل وأوضح عن مدى السلطة التي لا يزال يتمتّع بها جونسون في حزبه. وهذا الفارق البسيط يعطي مؤشّراً أكثر دقة من الأشهر الستة الفائتة حول فقدانه سلطته ومصداقيته، رغم كل "الإنجازات" الأخرى التي يحاول لفت الأنظار عبرها.
هذه الملفات الخارجية التي يصنّفها جونسون في لائحة "إنجازاته" هي الملفات ذاتها التي استخدمها خلال السنوات الماضية كتنازلات للمتشدّدين في حزبه لينجو من حجب الثقة. السؤال اليوم هو كيف سيتعاطى جونسون مع هذه الشؤون خلال الأشهر القادمة، خاصة أن نجاته في تصويت اليوم لن تعتبر بعد الآن فرصة جديدة بالنسبة إلى مستقبله السياسي. فقد جونسون كل الفرص الممكنة منذ جائحة كورونا وتفضيله الاقتصاد على أرواح الملايين وتأخره في فرض إجراءات لمكافحة الوباء. ثم خرقه تلك الإجراءات والقوانين التي وضعها هو بنفسه، وإقامته تجمعات "ضخمة" في مقرّه في حين كان ملايين المقيمين في بريطانيا سجناء في بيوتهم تحت طائلة المسؤولية.
ثم الغرامة التي حصل عليها من الشرطة، وكان رئيس الوزراء الأول في تاريخ المملكة المتحدة الذي تثبت التحقيقات خرقه القانون. ثم تقرير "سو غراي" الذي وإن لم يطالب بتنحيه، إلا أن الحقائق التي قدّمها كانت "مهينة" بشكل أو بآخر لشخص رئيس الوزراء الذي بدا غير مبالٍ، ويفتقر للحد الأدنى من المسؤولية، وغارقا في الفوضى، ولا تزال آثار النبيذ الأحمر على جدران مقرّه، هذا عدا عن شكاوى سوء المعاملة التي أعلن عنها عمّال النظافة في "داونينغ ستريت".
إنها لحظة سيئة بالنسبة لبوريس جونسون وصعبة للغاية. فاز اليوم بالتصويت إلا أنه خسر في القيادة. ومن يعتقد أنه قد يستقيل كما فعلت تيريزا ماي قبله، فهذا الاعتقاد يتناقض مع مسيرته "الانتهازية"، هو الذي لم تدفعه صفة "الكاذب" و"المنافق" للاستقالة قبل أشهر. يبقى أن "فوزه" اليوم لم يكن ساحقاً بالضبط كما أشارت التوقّعات، إضافة إلى أن التصويت على الثقة هو دائماً أسوأ ما قد يواجهه القادة السياسيون.