في حلقة جديدة من مسلسل تعطيل القوتين النوويتين العظميين، روسيا والولايات المتحدة، لمختلف الاتفاقيات في مجالات الأمن والرقابة المتبادلة ومنع الانتشار، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمس الخميس، على قانون سحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، التي وقعتها روسيا في عام 1996 وصدقت عليها في عام 2000.
وكان من المفترض أن تصبح الوثيقة الأداة القانونية الدولية الرئيسية لمنع كافة أنواع التجارب النووية، إلا أن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ على نحو كامل حتى اليوم بسبب عزوف ثمان، من أصل 44 دولة موقعة، عن التصديق عليها.
وبذلك، تضاف معاهدة حظر التجارب النووية إلى قائمة أبرز الاتفاقيات المعطل مفعولها في السنوات الأخيرة، مثل معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى واتفاقية السماوات المفتوحة اللتين انسحبت منهما واشنطن في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ومعاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية "ستارت-3" التي علقت موسكو مشاركتها فيها في بداية العام الحالي.
وكان بوتين أعلن، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أنه "ليس مستعداً للقول ما إذا كان ينبغي استئناف التجارب أم لا"، مشيدا بتطوير صواريخ جديدة عالية القوة يمكنها حمل رؤوس حربية نووية.
قسطنطين بلوخين: إلغاء التصديق هو خطوة رمزية ترمي إلى استعادة العدالة التاريخية
مع ذلك، يتفق خبراء في الأمن والعلاقات الدولية على أن سحب روسيا تصديقها على معاهدة حظر التجارب النووية، شأنه في ذلك شأن تعطيل الاتفاقيات الأخرى في السنوات الأخيرة، لن يؤدي تلقائياً إلى إجراء القوى العظمى تجارب نووية جديدة أو إلى مزيد من احتدام سباق التسلح.
سبب سحب التصديق الروسي
في السياق، يعتبر الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية قسطنطين بلوخين أن سحب روسيا تصديقها على معاهدة منع التجارب النووية يأتي بمثابة رد سياسي رمزي على عزوف الولايات المتحدة عن التصديق على المعاهدة ذاتها.
ويقول بلوخين في حديث لـ"العربي الجديد" إن "إلغاء التصديق هو خطوة رمزية ترمي إلى استعادة العدالة التاريخية من جهة إقدام روسيا على سحب التصديق، إذ إن الولايات المتحدة لم تصدق على المعاهدة من أساسها. كما لا يجوز النظر إلى المعاهدة على أنها ثنائية، كونها كانت تضم 44 بلداً لم يصدق بعضها عليها أيضاً، ما يعني أنها عاطلة على أرض الواقع".
ومع ذلك، لا يستبعد بلوخين احتمال أن يلي سحب التصديق إجراء روسيا تجربة تحت سطح الأرض، على غرار تلك التي أجرتها الولايات المتحدة بالتزامن مع شروع روسيا في الانسحاب من المعاهدة.
وكانت الإدارة الوطنية الأميركية للأمن النووي قد كشفت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن إجراء تجارب في ميدان تجارب نووية بالتزامن مع مصادقة مجلس الدوما (النواب) الروسي على سحب التصديق على معاهدة التجارب النووية، علماً أن الولايات المتحدة وقعت على المعاهدة في عام 1996 من دون أن تصدق عليها حتى الآن.
لا تجارب نووية روسية
من جهته، يجزم أستاذ العلوم السياسية في "معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية" كيريل كوكتيش أن روسيا لن تسارع إلى إجراء تجارب نووية، معتبراً في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أنه "في المرحلة الراهنة، لن تترتب على سحب التصديق أي تداعيات، بل هذا رد على الاستعدادات الأميركية لإجراء تجارب نووية محتملة لتوفير أرضية للرد عليها في حال وقوعها، ولكن روسيا لن يكون لها بأي حال من الأحوال السبق في إجراء تجارب نووية".
كيريل كوكتيش: روسيا لن تسارع إلى إجراء تجارب نووية
من جهته، يرى الخبير الروسي في الأمن الدولي ألكسندر كولبين أن السنوات الأخيرة شهدت نوعاً من "الجائحة" في مجال الرقابة على الأسلحة النووية في ظل هدم جميع الاتفاقات تقريباً بين الاتحاد السوفييتي ووريثته روسيا من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، وسط تآكل الآليات متعددة الجوانب للرقابة.
وفي مقال بعنوان "لماذا خسرت الرقابة على الأسلحة النووية وماذا بعد؟" نشر في موقع مجلة "روسيا في السياسة العالمية"، يقلّل كولبين من أهمية الإجماع في المزاعم أن الاتفاقات الثنائية الروسية الأميركية كانت تحمل على أكتافها "الاستقرار الاستراتيجي"، وأنه لن يبقى بعدها ما يردع العالم من سباق جديد للتسلح النووي.
ومع ذلك، يقرّ بأن هذه "الجائحة" ليست نتيجة لانتشار فيروس جانبي ما، بل هي أقرب إلى مرض وراثي، إذ بقي طيف كامل من الدول وأهم القضايا الأمنية خارج إطار "رقصة التانغو الثنائية" الأميركية الروسية على مدى العقدين الماضيين، وسط تحول الحجة حول الأهمية الخاصة لـ"الرقابة الثنائية" إلى شعار لا يضع الوقائع الجديدة في الحسبان، وهو ما يؤكده "النفوق" السريع وغير المؤلم نسبياً لكافة الاتفاقات الثنائية السابقة.
ويأتي توقيع بوتين على قانون سحب التصديق بعد مرور نحو أسبوع على مصادقة مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي، في نهاية أكتوبر الماضي، بإجماع 156 صوتاً، على قانون سحب روسيا التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
وكتب البرلمانيون الروس في مذكرتهم المصاحبة للقانون: "يظهر عدم وفاء الولايات المتحدة والصين ومصر وإسرائيل وإيران والهند وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (الاسم الرسمي لكوريا الشمالية) وباكستان بالإجراءات الحكومية الداخلية اللازمة لدخول المعاهدة حيز التنفيذ، أنها غير مستعدة لتحمل الطيف الكامل من الالتزامات النابعة من المعاهدة، وتضطر روسيا الاتحادية لاتخاذ إجراءات جوابية من شأنها تحقيق استقرار في التوازن قياساً بحجم الالتزامات بموجب المعاهدة".
وأعرب المشرّعون عن قناعتهم بأن تحقيق هدف منع انتشار السلاح النووي لا يبدو ممكناً في الظروف الدولية الراهنة، نظراً لمواقف وصفوها بـ"هدامة" يتبناها عدد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة، خالصين إلى أن إلغاء التصديق يأتي رداً بالمثل يستعيد تكافؤ الدول في هذا المجال.
وأكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، هو الآخر، أن سحب التصديق على المعاهدة يحقق تكافؤاً في مجال إجراء التجارب النووية بين موسكو وواشنطن، التي لم تصدق على هذه الوثيقة، مشدّداً على أن سحب روسيا التصديق لا يعني عزمها على إجراء تجارب نووية.