بوتين في الصين: اختبار مبدأ "شراكة بلا حدود"

16 مايو 2024
شي وبوتين خلال لقائهما في بكين، أكتوبر الماضي (فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في زيارة تاريخية إلى الصين، يهدف الرئيس الروسي بوتين لتعزيز العلاقات مع بكين، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والتجاري واستخدام العملات الوطنية، في ظل الضغوط الغربية والحرب على أوكرانيا.
- بوتين يعبر عن دعمه للمقترحات الصينية لتسوية النزاع في أوكرانيا بشكل سلمي، مؤكدًا على ضرورة مراعاة مصالح جميع الأطراف، بما في ذلك روسيا، لتحقيق تسوية شاملة وعادلة.
- العلاقات بين روسيا والصين تشهد تطورًا ملحوظًا، مع تحديات تواجه بوتين في إقناع الصين بدعم الآلة العسكرية الروسية، فيما تسعى الصين للموازنة بين دعم روسيا وتجنب العقوبات الغربية.

بعيداً عن الشعارات الرنانة حول دور روسيا والصين في بناء "عالم متعدد الأقطاب على أنقاض نظام الأحادية القطبية الآيل للسقوط"، وصعود "الجنوب العالمي" مقابل تراجع "الغرب الجماعي"، يحل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الصين اليوم الخميس وغداً الجمعة، في زيارة تشكل اختباراً جدياً لاستمرار البلدين في تمتين مبدأ "شراكة بلا حدود"، في ظل تحديات عالمية كبيرة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، والتغيرات الجذرية في علاقات روسيا الخارجية، والضغوط المتزايدة على الصين لتحديد موقف أكثر وضوحاً في موضوع الحرب على أوكرانيا والالتزام بالعقوبات الغربية القاسية المفروضة على روسيا.

ومن المقرر أن يلتقي بوتين في الصين بنظيره شي جين بينغ، في وقت تخضع فيه العلاقات بين البلدين لتدقيق كبير من الدول الغربية على خلفية موقف بكين من الحرب الأوكرانية والاتهامات التي وُجهت لها بشأن الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على موسكو. وتأتي الزيارة في إطار احتفاء البلدين هذا العام بالذكرى الـ75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، كما تأتي في أعقاب جولة أوروبية للرئيس الصيني تعهّد فيها بأن بلاده سوف تسيطر على تدفق السلع ذات الاستخدام المزدوج، التي لطالما أثارت مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. ويؤكد اختيار بوتين الصين كوجهة خارجية أولى له في ولايته الخامسة على رهان الكرملين المتزايد على بكين كشريك استراتيجي في الحرب مع الغرب.

بوتين في الصين: رغبة بتعزيز التعاون

وتكشف تشكيلة الوفد الروسي الضخم خلال حلول بوتين في الصين عن رغبة روسيا في تعزيز التعاون مع الصين، والمحافظة عليها كواحدة من أهم شرايين الحياة لتمكين الاقتصاد الروسي من مواجهة تأثير العقوبات الغربية، عبر الاستعاضة عن أوروبا بالصين لبيع منتجات الطاقة والخامات الروسية اللازمة لتمويل الحرب في أوكرانيا. وفي هذا الإطار، أشار مساعد الرئيس الروسي للشؤون الخارجية يوري أوشاكوف، للصحافيين أمس الأول الثلاثاء، إلى التطور التدريجي للعلاقات الروسية الصينية، وذكر أنه "بالنسبة للصين، أصبحت روسيا في عام 2023 الشريك التجاري الرابع مع بلوغ التبادل التجاري، وفقاً للبيانات الروسية، 227.8 مليار دولار". ولفت إلى أن "حوالي 90 في المائة من المدفوعات بين الدولتين تتم بالفعل بالعملات الوطنية".

وعشية حلول بوتين في الصين قال الرئيس الروسي إن موسكو تعتبر المقترحات الصينية للتسوية السلمية في أوكرانيا واقعية وبنّاءة، معتبراً في الوقت نفسه أن هذه المبادرات لا تلقى دعماً لدى كييف والغرب. وقال بوتين، في حوار مع وكالة شينخوا الصينية نُشر نصه على موقع الكرملين فجر أمس الأربعاء، إن "الأفكار والمقترحات المنصوص عليها في الخطة الصينية (للتسوية في أوكرانيا التي نُشرت في فبراير/شباط 2023) تدل على النية الصادقة من أصدقائنا الصينيين للمساهمة في تحقيق استقرار الوضع". وأكد بوتين أن روسيا تتمنى تحقيق "تسوية شاملة ومستديمة وعادلة" للنزاع في أوكرانيا بأساليب سلمية، قائلاً: "نحن منفتحون على الحوار بشأن أوكرانيا، ولكنه يجب أن تراعي المفاوضات مصالح جميع الدول التي لها ضلوع في النزاع، بما في ذلك مصالحنا". وطالب بأن تتناول المفاوضات قضية الاستقرار العالمي والضمانات الأمنية لأوكرانيا وروسيا على حد سواء، على أن تكون الضمانات "موثوقة". من جهة أخرى، أعلن بوتين أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين روسيا والصين تتطور بوتيرة سريعة وتُظهر صموداً أمام التحديات الخارجية.

بوتين: نحن منفتحون على الحوار بشأن أوكرانيا، ولكن يجب أن تراعي المفاوضات مصالح جميع الدول التي لها ضلوع في النزاع، بما في ذلك مصالحنا

ويبدو أن روسيا تراهن على الاستمرار في الحصول على التقنيات الحديثة والرقائق وغيرها من المواد اللازمة لمواصلة إنتاج الأسلحة الروسية. وتكفي الإشارة إلى أنه في العام الماضي، جاء حوالي 89 في المائة من الواردات "ذات الأولوية القصوى" اللازمة لإنتاج الأسلحة الروسية من الصين، وفقاً لتحليل للبيانات الجمركية أعده ناثانيال شير، الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وكشف التحليل أن الواردات تشمل كل شيء تقريباً بدءاً من الأدوات الآلية المستخدمة في بناء المعدات العسكرية إلى الأجهزة البصرية وأجهزة الاستشعار الإلكترونية ومعدات الاتصالات.

وتشير البيانات الجمركية المتاحة للعامة إلى أن الصين تصدّر كل شهر ما قيمته أكثر من 300 مليون دولار من المنتجات ذات الاستخدام المزدوج التي حددتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والمملكة المتحدة، باعتبارها عناصر "ذات أولوية عالية" ضرورية لإنتاج الأسلحة الروسية. وعلى الرغم من أن قيمة الصادرات تراجعت من ذروة تجاوزت 600 مليون دولار في ديسمبر/كانون الأول 2023، تظل الصين أكبر مورد لروسيا لهذه المنتجات الخاضعة للرقابة. والعناصر ذات الأولوية العالية عبارة عن خمسين منتجاً ثنائي الاستخدام يعد ضرورياً لتصنيع الأسلحة مثل الصواريخ والطائرات من دون طيار والدبابات، والعديد منها عبارة عن منتجات تفتقر روسيا إلى القدرة على إنتاجها محلياً مثل الإلكترونيات الدقيقة، والأدوات الآلية، ومعدات الاتصالات، والرادارات، والأجهزة البصرية، وأجهزة الاستشعار، وغيرها من المنتجات. وتتداخل غالبية البضائع المدرجة في قائمة الأولويات العالية مع العناصر التي كشف المسؤولون الأميركيون في أوائل إبريل/نيسان الماضي أن الصين تبيعها لروسيا.

ومن المؤكد أن قدرة روسيا على مواصلة غزوها لأوكرانيا تعتمد إلى حد كبير على قدرتها على الحصول على المدخلات اللازمة لتشغيل آلتها الحربية. وعلى الرغم من أن روسيا تمكنت من تكثيف إنتاج المدفعية وقذائفها، إلا أن قدرتها على إنتاج منتجات متخصصة مثل الإلكترونيات الدقيقة والأجهزة البصرية لا تزال غير كافية، وتقتصر قدرات صناعة الرقائق في روسيا، على وجه الخصوص، على تكنولوجيا 65 نانومتر التي يبلغ عمرها عقوداً من الزمن. وبالتالي، لعبت الصادرات الصينية دوراً رئيسياً في دعم المجهود الحربي لموسكو، وارتفع اعتماد روسيا على الصين في المنتجات ذات الأولوية العالية من 32 في المائة عام 2021 إلى 89 في المائة عام 2023.

وكانت أشباه الموصلات ومعدات الاتصالات والأدوات الآلية من بين أكبر فئات الصادرات الصينية إلى روسيا المشمولة ضمن قائمة مراقبة الصادرات ذات الأولوية العالية عام 2023، وشكلت الأدوات الآلية وحدها ما يقرب من 40 في المائة من الزيادة السنوية في الصادرات الصينية ذات الاستخدام المزدوج. ويسعى بوتين إلى إيجاد حلول للتخفيف من التزام الصين بالعقوبات الثانوية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الحزمة الثانية عشرة، ما أدى إلى تردد عدد من المصارف الصينية في قبول المدفوعات بالدولار من روسيا، ما تسبب في تراجع الصادرات الصينية إلى روسيا في مارس/آذار الماضي قرابة 14 في المائة على أساس سنوي.

 

مهمة بوتين في الصين غير سهلة

وعلى الرغم من رفع موسكو وبكين شعارات بناء عالم متعدد الأقطاب، والحد من الهيمنة الأميركية، فإن مهمة بوتين في الصين لن تكون سهلة في إقناع نظيره الصيني بمواصلة تزويد الآلة العسكرية الروسية بالتقنيات "مزدوجة الاستخدام"، نظراً للمخاطر الكبيرة على الاقتصاد الصيني. تكفي الاشارة إلى أن التجارة بين الصين والولايات المتحدة بلغت في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى نوفمبر 2023 ما قيمته 670 مليار دولار، وفقاً للبيانات الصادرة عن الإدارة العامة للجمارك الصينية، التي ذكرت أن التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي بلغ 782.9 مليار دولار في 2023. وتمثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سوقاً أكبر بكثير من السوق الروسية، ناهيك عن الاستثمارات المتبادلة بين الطرفين، وهي عوامل مهمة لمحافظة الصين على معدلات النمو الاقتصادي العالية.

مهمة بوتين في الصين لن تكون سهلة في إقناع نظيره الصيني بمواصلة تزويد الآلة العسكرية الروسية بالتقنيات مزدوجة الاستخدام

وفي السياق، قال الخبير الاقتصادي الصيني تشي جيانغ، لـ"العربي الجديد"، إن العقوبات الغربية على روسيا، أثّرت بطبيعة الحال على التبادلات الثنائية بين البلدين. ولفت إلى أنه خلال الشهرين الماضيين تم تعليق نحو 80 في المائة من تسوية المدفوعات (باليوان الصيني) بين بكين وموسكو بسبب العقوبات، لذلك يتطلع الجانبان إلى إنشاء قنوات جديدة لإتمام المدفوعات بمعزل عن تأثير التدقيق الغربي بما يخدم المصالح المشتركة. وأشار تشي جيانغ إلى أنه خلال العام الماضي وصلت التجارة الثنائية بين البلدين إلى 240 مليار دولار، بزيادة 26 في المائة على أساس سنوي، لكن سرعان ما تباطأ معدل النمو على أساس سنوي إلى 4.7 في المائة في الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، وأرجع ذلك إلى تأثير العقوبات الغربية على موسكو، واستهداف عدد من الشركات الصينية التي لديها تعاملات تجارية مع روسيا.

وخرجت الصين كأكبر المستفيدين من الغزو الروسي على أوكرانيا، فإضافة إلى "الدرس المجاني" لما يمكن أن يُقدم عليه الغرب في حال توتر الأوضاع في تايوان وبحر الصين الجنوبي مع الولايات المتحدة وحلفائها، زادت صادراتها إلى روسيا، وحصلت على تخفيضات كبيرة في أسعار الطاقة والمعادن. لكن الاستمرار في السير على الخط المشدود الفاصل بين روسيا والغرب صعب ومحفوف بالمخاطر، فانهيار روسيا يقوّي الولايات المتحدة في صراع مؤجل مع الصين، ومواصلة دعم روسيا قد يعرّض الاقتصاد الصيني لضربة موجعة.

اعتماد روسي على الصين

وفي ظل الأوضاع الحالية، يزداد اعتماد روسيا على الصين، وتنتقل مع الزمن إلى "الشريك الأصغر" في العلاقة، على الرغم من الحساسية التاريخية بين البلدين، والتي أدت إلى قطيعة في العهد السوفييتي، فروسيا تحتاج الدعم الصيني سياسياً، والمصدر الأساسي للأموال لتمويل الحرب، وكثيرا من المكونات التقنية لصناعة الأسلحة. ومع تحول الأوضاع على الأرض عسكريا لصالح روسيا يبدو أن بوتين يريد إقناع شي بأن التحالف معه أفضل، وربما يقدّم بوتين في الصين لـ"الصديق والعزيز" شي عروضاً إضافية مغرية لتشجيعه على المخاطرة والاستمرار في مبدأ "شراكة بلا حدود". ولكن الجواب سيبقى رهنا لتقديرات بكين حول مصالحها الاستراتيجية، وحجم الضغوط الغربية.

وتعليقاً على حلول بوتين في الصين رأى الباحث الصيني في العلاقات الدولية وانغ تشي بينغ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هناك مصلحة مشتركة بين بكين وموسكو في تأكيد متانة العلاقات بينهما، في ظل الضغوط الغربية والتدقيق المستمر على أشكال ومسارات التعاون بين البلدين. لذلك من المنتظر، حسب قوله، أن يكون ملف تعزيز الشراكة الاستراتيجية بينهما، خصوصاً مجال التعاون الاقتصادي في مواجهة العزلة الدولية، على رأس جدول الأعمال الذي سوف يناقشه الرئيسان.

ولفت إلى أن الصين تولي أهمية كبيرة للجانب الاقتصادي من الزيارة على حساب البعد السياسي، باعتبار أن موقف الصين ثابت بشأن الأزمة الأوكرانية، فهي لم تدعم علناً غزو الجيش الروسي لأوكرانيا قبل أكثر من عامين، لكنها في الوقت نفسه لم تدن الهجوم على الرغم من الضغوط التي مورست عليها، وبدلاً من ذلك دعت جميع الأطراف إلى ضبط النفس وقدّمت نفسها كوسيط في الأزمة، وبالتالي فإن هذا الموقف غير قابل للمساومة، حسب قوله. وتابع: عدا ذلك تحتاج الصين إلى المزيد من واردات الطاقة الروسية الرخيصة، في ظل انخفاض أسعار الموارد الطبيعية بسبب العقوبات، ويشمل ذلك استمرار تدفق شحنات الغاز المرسلة عبر خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي من الجهة الشرقية.

جين توي: الرئيس الروسي يعاني من عزلة دولية بسبب حربه في أوكرانيا، لذلك تُعتبر زيارته إلى الصين فرصة لإبراز نفسه كقائد قوي

في المقابل، رأى أستاذ الدراسات السياسية السابق في جامعة تايبيه الوطنية، جين توي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الرئيس الروسي يعاني من عزلة دولية بسبب حربه في أوكرانيا، لذلك تُعتبر زيارته إلى الصين فرصة لإبراز نفسه كقائد قوي يحظى بدعم قوة وازنة على الساحة الدولية بحجم الصين. وأضاف: من هنا يمكن فهم مدى حاجة بوتين إلى بكين في هذا التوقيت الحرج، على خلاف الصين التي لا تبدو مكترثة بصورة الرئيس الروسي ومكانته أمام العالم، بقدر ما يهمها تحقيق مصالحها التجارية والاقتصادية، بدليل أنها توقفت أخيراً عن توريد معدات عسكرية إلى موسكو، خوفاً من العقوبات الغربية. لكنه لفت إلى أن ذلك لم يمنع بكين من دعم النظام الروسي بوسائل مختلفة، سواء عبر القنوات الدبلوماسية في مجلس الأمن، أو عبر شراء النفط الروسي وتوريد المعدات ذات الاستخدام المزدوج التي تخدم الصناعة العسكرية الروسية، وهي وسائل أثارت مخاوف الغرب، حسب قوله. وأشار إلى أن فرض المزيد من العقوبات الغربية على روسيا جعلها تعتمد بشكل متزايد على الصين اقتصادياً، لذلك من المرجح أن تكون زيارة بوتين إلى بكين مدفوعة برغبة روسية في الالتفاف على العقوبات، وليس تطلعاً صينياً لموازنة الضغوط الأميركية.