بريطانيا بين عالمين: ما تأثير الرفض الشعبي لعدوان غزة؟

26 أكتوبر 2023
من تظاهرة لندن السبت الماضي (العربي الجديد)
+ الخط -

تشهد الساحة البريطانية جدلاً مستمراً في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي خلّفت حتى الآن أكثر من ستة آلاف شهيد، بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل للمدنيين، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وينعكس هذا الجدل بشكل واضح بين مواقف المستوى الرسمي للحكومة البريطانية وحزب العمال المعارض ووسائل الإعلام، وبين المستوى الشعبي من خلال التظاهرات ومواقف النقابات العديدة والحراك في الجامعات.

أكبر مسيرة من أجل الحقوق الفلسطينية

وخرجت في لندن يوم السبت الماضي، تظاهرة ضد الحرب على غزة وُصفت من قبل المنظمين في حركة التضامن مع فلسطين بـ"أكبر مسيرة من أجل الحقوق الفلسطينية في التاريخ البريطاني". وكان لافتاً مشاهدة الأعداد الكبيرة للمشاركين يصلون إلى نقطة انتهاء التظاهرة في الوقت الذي كان ما زال يتوافد فيه مشاركون عند نقطة البداية على مدار ساعات، وهي مسافة تُقدّر بأربعة كيلومترات.

واكتظّت الشوارع بالمشاركين على الرغم من هطول الأمطار خلال التظاهرة. وتنوعت المشاركة بأشخاص من خلفيات وجنسيات من كل أنحاء العالم، إضافة لحضور كبير من الجاليات العربية والفلسطينيين واليهود المناهضين للصهيونيّة. كما حضر ممثلون عن عشرات النقابات البريطانية للتعبير عن رفضهم لاستمرار الحرب. كما خرجت تظاهرات أخرى في مدن عدّة شارك فيها الآلاف.


أصوات عديدة داخل "العمال" تعارض توجّه زعيم الحزب الموالي لإسرائيل

في المقابل، ما زال الموقف الرسمي البريطاني منحازاً لإسرائيل و"حقّها في الدفاع عن النفس" كما صرّح أكثر من مسؤول في الحكومة البريطانية، على رأسهم رئيسها ريشي سوناك، وعدد من الوزراء. الموقف نفسه اتخذه زعيم حزب العمال المعارض المعروف بمواقفه الموالية لإسرائيل كير ستارمر، على الرغم من وجود أصوات عديدة داخل "العمال" معارضة لتوجّه زعيم الحزب، وصلت إلى حد تقديم استقالات من الحزب من قبل أعضاء وممثلين في المجالس المحلية ونواب، الأمر الذي دفع ستارمر في الأسبوع الأخير للتأكيد في تصريحاته المتعلقة بالحرب على غزة على ضرورة "احترام القانون الدولي من قبل إسرائيل في ردّها على حماس وضرورة إدخال المساعدات الإنسانيّة لغزة".

ودعت حركة التضامن لتظاهرة جديدة السبت المقبل يُتوقع أن تكون المشاركة فيها كبيرة كما السبت الماضي، سعياً للتأثير على سياسات الحكومة البريطانية وللضغط من أجل وقف إطلاق النار.

ما تأثير التحركات الشعبية في بريطانيا؟

يقول المحاضر في جامعة ساوس في لندن، الباحث نمر سلطاني، لـ"العربي الجديد"، إنه "على الرغم من اتّساع الموقف الشعبي المناهض للحرب على غزة فهذا لا يعني بالضرورة التأثير بشكل فعلي على الحكومة البريطانية المؤيدة لإسرائيل". ويشير إلى أنه "عام 2003 خرجت أكبر تظاهرة في تاريخ بريطانيا في لندن ضد مشاركة بريطانيا في الحرب على العراق، إلا أن الحكومة بقيادة توني بلير في النهاية شاركت بخلاف الموقف الشعبي الواسع الرافض للحرب"، لكنه يضيف: "مع ذلك، يمكن للتحركات الشعبية في الشارع أن تصنع بعض التأثير".

ويرى سلطاني أن "التحركات الشعبية في الأسبوع الأخير فتحت المجال للأصوات الفلسطينية في الظهور في وسائل الإعلام البريطانية ونقل المعاناة الإنسانية في غزة، مع العلم أن وسائل الإعلام المركزية في بريطانيا لا تتأثر بحملات الضغط الشعبي كثيراً كون خطها التحريري الأساسي يتبع للمالكين، إضافة لوجود ضغط حكومي وضغط إسرائيلي في اتجاه معاكس أيضاً". ويعطي مثلاً شبكة "بي بي سي"، مشيراً إلى أن "الحكومة هي التي تعين مديرها". ويلفت إلى أن مدير الشبكة الذي عينه بوريس جونسون اضطر أخيراً للاستقالة بشبهة مساعدته لجونسون بالحصول على قرض مالي قبل التعيين.


نمر سلطاني: التحركات الشعبية فتحت المجال للأصوات الفلسطينية في الظهور بوسائل الإعلام البريطانية ونقل المعاناة في غزة

وعن أسباب ازدياد الحراك الشعبي المناهض للحرب على غزة، يلفت سلطاني إلى تقاطع قضايا سعت فيها حكومة المحافظين الحالية للتضييق على حرية التعبير قبل بداية الأحداث في غزة، مثل "قانون التظاهر وحرية التعبير الذي يستهدف الحراك الشعبي من أجل العدالة البيئية وتظاهرات حركة "حياة السود مهمة"، وقانون المقاطعة الذي يمنع المجالس المحلية من تبني المقاطعة من ضمنها مقاطعة إسرائيل، ومشروع "بريفينت" وهو مشروع أمني ضد ما يُسمى بالتطرف الذي عارضته كثير من المؤسسات الحقوقية والمدنية، ويرى كثيرون في مضامينه وتطبيقه استهدافاً للمسلمين وتشجيعاً للإسلاموفوبيا".

أما عن الأسابيع المقبلة ومستقبل التفاوت بين الشارع البريطاني والموقف الرسمي في ما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزة، خصوصاً أن بريطانيا مقبلة على انتخابات السنة المقبلة، يقول سلطاني إنه لا يوجد فرق كبير بين الحزبين الكبيرين في بريطانيا في ما يتعلق بالموقف من إسرائيل، متوقعاً عدم خروج قطاعات عديدة من المصوّتين من العرب والجاليات المسلمة والمتعاطفين مع فلسطين للتصويت.

وعكست رسالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان للشرطة في بداية الأحداث في غزة، تصورات الحكومة الحالية في التضييق على حرية التعبير في ما يتعلق بالتضامن مع فلسطين. واعتبرت في رسالتها أن التلويح بالعلم الفلسطيني قد يكون مخالفة جنائية، وكذلك بعض الهتافات المؤيدة لفلسطين. وانعكس الغضب على رسالة برافرمان في التظاهرات الشعبية، إذ تحولت الهتافات ليس فقط ضد الحرب والمطالبة بالحرية لفلسطين، بل ضد الوزيرة نفسها ورئيس الحكومة.

تفاوت بين الموقفين الرسمي والشعبي

من جهته، يؤكد عضو اللجنة الفلسطينية البريطانية مازن المصري، في حديث لـ"العربي الجديد"، التفاوت القائم بين المستوى الشعبي والرسمي البريطاني تجاه فلسطين. ويلفت إلى أن التحرك من أجل فلسطين كان منذ الأيام الأولى في بريطانيا في تظاهرة خرجت أمام السفارة الإسرائيلية في 9 أكتوبر شارك فيها أكثر من ألفي شخص، لحقتها تظاهرة شارك بها 150 ألفاً، وبعدها تظاهرة السبت الأخير بمشاركة 300 ألف شخص التي صنّفها "التظاهرة رقم 8 من ناحية الحجم في التاريخ البريطاني".


مازن المصري: الجيل الشبابي في بريطانيا متضامن أكثر مع فلسطين من السابق

ويعزو المصري هذا التضامن الكبير لأسباب عدة، منها الصور المروّعة لجرائم الاحتلال في غزة والمجازر بحق المدنيين، إضافة إلى تحولات يشهدها المجتمع البريطاني. ويقول إن "التظاهرات المتضامنة عكست الحضور الواسع والكبير للجاليات العربية والمسلمة، إضافة لأشخاص من جاليات من آسيا وأفريقيا من شعوب عاشت الاستعمار سابقاً، ويوجد نقطة التقاء مشتركة في الشعور بالتضامن". ويضيف: "رأينا حضوراً كبيراً للجيل الشبابي في الحراك الشعبي، وهذا يدل على الفجوة بين الأجيال في بريطانيا، إذ إن الجيل الشبابي متضامن أكثر مع فلسطين من الجيل السابق، وهذا له علاقة أيضاً باطّلاع الجيل الشاب على وسائل إعلام بديلة للإعلام البريطاني التقليدي المنحاز غالباً لإسرائيل".

ويشير المصري أيضاً إلى فاعلية حركات التضامن مع فلسطين طوال الوقت وليس فقط خلال الأزمات، قائلاً: "ما شهدناه هو نتاج عمل طويل لحركات التضامن هذه، وتشبيكها مع المجتمع المحلي والنقابات العديدة، إذ رأينا حضوراً واسعاً للنقابات في التظاهرات، كما كان لممثليها العديد من الكلمات في اختتام التظاهرة، وهذا يعبّر عن موقف الملايين في بريطانيا".

وعن إمكانية تأثير هذه التظاهرات على الحكومة البريطانية، يقول المصري "إن الحكومة تراقب وغيّرت من لهجتها في الأسبوع الثاني بعد انحياز كامل في الأسبوع الأول، وفي الأيام الأخيرة أصبحوا يتحدثون أكثر عن الوضع الإنساني بعدما كانوا يتهربون من هذه الأسئلة في السابق بالتعبير عن حق إسرائيل بالدفاع عن النفس". ويشير إلى أن المحافظين يراقبون أيضاً استطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات السنة المقبلة، والتي تظهر أن حظوظهم في الفوز فيها قليلة.

كذلك يلفت إلى تحول طفيف في تغطية وسائل الإعلام البريطانية تجاه الفلسطينيين في الأسبوع الأخير "بعد المجازر التي ظهرت وبعد التظاهرات. لكن الأسبوع الأول كان منحازاً لرواية الحكومة البريطانية والإسرائيلية وما يصدره الجيش الإسرائيلي من دون تحقق مما يدّعيه. كما كان واضحاً تحقير صورة الفلسطيني في الإعلام والافتراءات التي دفعتهم لاحقاً بعد فضحها للاعتذار في أكثر من حالة".

ويتوقع المصري استمرار الحراك الشعبي المناهض للحرب واتّساعه أكثر، وحصول بعض التغييرات داخل حزب العمال المعارض على ضوء الجدل الداخلي في الحزب والاستقالات والانتخابات المقبلة. ويشرح أن "العديد ممن يتظاهرون في الشوارع يصوّتون للعمال ومنهم من عمل في الحملات الانتخابية، خصوصاً أنه في الكثير من الدوائر الانتخابية في المدن الكبرى من يحسم المقاعد هي الجاليات العربيّة والمسلمة والأقليات التي غالباً تصوت للعمال، لذلك تغيير موقف الحزب بشكل أوضح ضد الحرب سيكون لمصلحته الانتخابية".

يُذكَر أيضاً أنه كانت هناك أصوات بارزة مخالفة للتوجه الرسمي البريطاني الداعم لإسرائيل، منهم النائب في مجلس العموم عن حزب المحافظين كريسبين بلانت، رئيس المركز الدولي من أجل العدالة للفلسطينيين، الذي بعث برسالة إلى سوناك قال فيها إنه ستتم ملاحقة مسؤولين في حكومته ومحاكمتهم بسبب "المساعدة والتحريض على ارتكاب جرائم حرب في غزة". وقال المركز إن على حكومة بريطانيا إدانة خروق إسرائيل للقانون الدولي وحثها على الالتزام به. وكان لهذه التصريحات صدى كبير في وسائل الإعلام.

كما كانت هناك تصريحات بارزة لرئيس الحكومة الاسكتلندية حمزة يوسف حول الوضع الإنساني في غزة، كون والدي زوجته الفلسطينية عالقين في قطاع غزة، وكانت لقضيتهما حضور إعلامي لافت، منها مقابلات مع زوجة يوسف التي طالبت بإعطاء أطفال غزة فرصة للحياة في ظل القصف الإسرائيلي بحقّهم.