استمع إلى الملخص
- اليمين المتطرف يركز على تقليص الهجرة وإعطاء الأولوية للفرنسيين، بينما يدعو اليسار إلى سياسات أكثر انفتاحاً وتسامحاً تجاه المهاجرين والحفاظ على التقديمات الاجتماعية.
- السياسة الخارجية تبرز في برنامج اليسار بالتركيز على القضية الفلسطينية وحقوق الإنسان، في حين يتخذ اليمين المتطرف موقفاً مؤيداً لإسرائيل، مع توقعات بتحولات كبيرة قد تؤدي إلى أزمة سياسية.
الانقسام السياسي في فرنسا هذه الأيام عمودي، يندر أن عاشت الجمهورية الخامسة مثيلاً له. يظهر ذلك تحديداً في البرنامجين الانتخابيين لتحالف الجبهة الشعبية الجديدة، اليسارية، وحزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف، والمتحالف مع رئيس حزب الجمهوريين، إريك سيوتي، علماً أنه كان حزباً وسطياً منذ عهد شارل ديغول الذي أرسى الجمهورية الخامسة عام 1958. وقبيل الانتخابات الفرنسية للمنافسة على مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمان) الـ577، والمقررة غداً الأحد، يبرز برنامجان مفصّلان في الاقتصاد والسياسة الداخلية والبيئة والمجتمع والهجرة والعلمانية والحقوق الفردية وحقوق المرأة وغيرها، وسط جزء أصغر بكثير مخصص للسياسة الخارجية، والتي لم تكن يوماً تهم الناخب الفرنسي بقدر ما تنال اهتمامه اليوم.
فالركن الأساسي للجبهة اليسارية، أي حزب فرنسا الأبية بقيادة جان لوك ميلانشون، جعل موضوع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شعاره الانتخابي الرئيسي في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي جرت في 9 يونيو/حزيران الحالي، ما اضطره إلى تقديم تنازلات عميقة بشأن هذا الشعار، من أجل إنشاء "الجبهة الشعبية الجديدة"، والتحالف مع أحزاب كل من الاشتراكي والخضر والشيوعي.
في غضون ذلك تشير استطلاعات الرأي إلى أن نسبة مؤيّدي اليمين المتطرف في الانتخابات الفرنسية المقبلة تقدر بنحو 35.5 في المائة من الناخبين مقابل 29.5 في المائة لليسار و19.4 في المائة لتحالف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "معاً من أجل الجمهورية" وحزبه "النهضة". وتوحي هذه التقديرات بأن فرنسا تقف ربما على عتبة أسوأ السيناريوهات، عقب الانتخابات الفرنسية المقبلة، في طليعتها التعايش بين ماكرون واليمين المتطرف أو الجبهة اليسارية، وفقاً لما سيؤول إليه تجيير الأصوات في الدورة الثانية في الانتخابات الفرنسية أو تعذر حصول أي من القوتين على غالبية مطلقة، ما من شأنه أن يؤدي إلى أزمة سياسية مفتوحة وعرقلة وجمود على مستوى البلاد.
إذ ما تحققت هذه الاستطلاعات، ولم يتسنّ لتحالف ماكرون إعادة ترميم مواقعه، فإن المنافسة في الانتخابات الفرنسية المبكرة، في 30 يونيو/ حزيران بدورتها الأولى والسابع من يوليو/ تموز المقبل في دورتها الثانية، ستكون محصورة بين نقيضين: "التجمع الوطني" ويمثل اليمين المتطرف، و"الجبهة الشعبية الجديدة" التي ينضوي في إطارها القوى اليسارية بما فيها اليسار الراديكالي.
برنامجان متناقضان في الانتخابات الفرنسية
لكل من القوتين تصور مغاير لدرب التطور الذي ينبغي أن تسير عليه فرنسا بعد الانتخابات الفرنسية وفي السنوات المقبلة، لكنهما تلتقيان عند ضرورة إحلال قطيعة تامة مع سياسات ماكرون منذ توليه الرئاسة عام 2017 (ولاية أولى، ثم ولاية ثانية في 2022)، خصوصاً أنهما تتغذيان من حالة الرفض الشعبي لشخص الرئيس ونهجه. لكن في الحقيقة، لا يبدو التجمع الوطني اليميني مختلفاً فعلاً في برنامجه الاقتصادي عن التحالف الحاكم، ذلك أنه يبقى منحازاً إلى رجال الأعمال والأثرياء.
ونظراً لقصر مدة الحملة الانتخابية التي أعقبت القرار المفاجئ لماكرون بحل البرلمان الفرنسي على ضوء الصفعة القاسية التي تلقاها حزب النهضة بالانتخابات الأوروبية، في التاسع من يونيو الماضي، بنيله ما يناهز 15 في المائة من الأصوات، توجب على كل من الطرفين بذل الجهد لإنجاز برنامج يفصل المحاور الرئيسية لسياساته البديلة.
يبرز التنافر في البرنامجين الانتخابيين في مواضيع الهجرة والأمن والتقديمات الاجتماعية
أبرز ما يمكن التوقف عنده لإظهار مدى التنافر على صعيد البرنامجين مواضيع الهجرة والأمن وطريقة التعاطي مع التقديمات الاجتماعية، إلى جانب عدد من القضايا المتصلة بالسياسة الخارجية، خصوصاً الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والحرب على أوكرانيا.
من المعروف أن "التجمع الوطني" بنى شعبيته على يد رئيسته السابقة مارين لوبان، وقبلها والدها جان ماري لوبان، على تأجيج الحقد والرفض لكل ما هو مختلف ووافد وغير متأصل في المجتمع الفرنسي، محملاً إياه بعبثية تامة كامل المسؤولية عمّا يشوب المجتمع الفرنسي من آفات وجريمة. لذا فإن البرنامج الذي عرضه رئيس الحزب وقائد الحملة الانتخابية لـ"التجمع الوطني" جوردان بارديلا، السبت الماضي، ينص بمجمله على ضرورة إعطاء الأولوية لما هو فرنسي في كافة المجالات، ومنها مثلاً سوق العمل والسكن والتعليم وغيرها، وعلى التمييز بين الفرنسيين من خلال منع من هم من أصول أجنبية وحملة جنسية ثانية غير الفرنسية من تولي عدد من الوظائف الحساسة، وعدد هؤلاء يبلغ حوالي خمسة ملايين، أي تقنين التمييز بين الفرنسيين أنفسهم.
كما يخصص حيزاً مهماً لموضوع الهجرة التي يشدّد على ضرورة تقليصها إلى أقصى قدر، وعلى ضرورة اعتماد قانون طارئ يقضي بإلغاء "حق الأرض"، والذي يجيز للمولودين على الأراضي الفرنسية حق اكتساب الجنسية الفرنسية. ويمثّل إلغاء هذا الحق باستمرار أحد المحاور المفصلية في طروحات اليمين المتطرف. وينصّ البرنامج كذلك على ضرورة تسهيل إجراءات طرد الأجانب المخلّين بالأمن من فرنسا، وتشديد إجراءات جمع الشمل لأسر المهاجرين، وتجريد رؤساء المحافظات من صلاحية منح المهاجرين غير النظاميين إقامات على الأراضي الفرنسية.
في مواجهة هذا النهج الانطوائي يقضي برنامج "الجبهة الشعبية الجديدة" المؤلف من أكثر من 140 بنداً مفصلين في 23 صفحة، فضلاً عن 10 صفحات تشرح طريقة تمويل البرنامج، موزعين على ثلاث مراحل (أول 15 يوماً من الحكم والأيام المائة الأولى، ثم الأشهر التي تلي تلك المرحلة)، بإلغاء مجمل القوانين التي أقرّت في عهد ماكرون في مجال الهجرة واللجوء إلى فرنسا. كما ينص على إنشاء إطار نظامي وآمن للهجرة، إلى جانب منح إقامات للعمال غير النظاميين وذوي طلاب المؤسسات التعليمية في فرنسا.
ويأتي هذا الطرح في أعقاب نقاشات داخلية بين أطراف التحالف اليساري الذين حافظوا على تمسكهم بالمبادئ الإنسانية والانفتاح على الآخر ومساعدته، رغم الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يستغلها اليمين المتطرف واليمين عموماً لاستعداء المهاجرين.
منطق يميني وآخر يساري
المنطق نفسه ينسحب على القضايا الأخرى، إذ يدعو اليمين المتطرف إلى حجب التقديمات الاجتماعية عن غير الفرنسيين وحصر الطبابة المجانية بالحالات الطارئة، بينما يدعو اليسار للإبقاء عليها. أما في ما يتعلق بنظام التقاعد، فيريد برنامج عمل "الجبهة الشعبية الجديدة" إلغاء قانون إصلاح نظام التقاعد الذي أقره البرلمان الفرنسي، العام الماضي، حين رفَع سن التقاعد من 60 سنة إلى 67 سنة. أما "التجمع الوطني" فيدعو للعمل تدريجياً إلى إعادة سن التقاعد إلى 62 سنة.
في مجال السكن يشدّد "التجمع الوطني" على أن حق الحصول على مسكن شعبي ينبغي أن يقتصر على الفرنسيين، بينما يرى تحالف الجبهة الشعبية الجديدة أن هناك ضرورة ملحة لزيادة المساكن الشعبية ووضعها بتصرف العائلات محدودة الدخل، ورفع مستوى مساعدات السكن للمستفيدين منها وفقاً لمداخيلهم.
ويظهر الانقسام العمودي بين برنامجي اليسار واليمين المتحالف مع اليمين المتطرف، في مواضيع العلمانية، التي ينص عليها الدستور الفرنسي. يريد "التجمع الوطني" حظر الحجاب كلياً في فرنسا، صيانة لمبدأ العلمانية كما يفهمها، واستحداث قوانين تعاقب من يمارس ضغوطاً أو أعمال ترهيب دينية، وإقصاء التلامذة "المتطرفين" نهائياً عن المؤسسات التعليمية. في المقابل يدعو "الجبهة الشعبية الجديدة" في مشروعه لصيانة العلمانية مع ضمان أمن وسلامة أماكن العبادة ومعاقبة المتسببين بأعمال عنصرية ومعادية للإسلام وللسامية.
تحظى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بمكانة خاصة في برنامج اليسار
على صعيد قضايا السياسة الخارجية، تحظى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بمكانة خاصة، إذ يؤكد اليمين المتطرف الذي بات خلافاً لتوجهه التاريخي المعادي للسامية، من أشد مؤيدي إسرائيل، إلى عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الظرف الحالي. في المقابل يؤكد تحالف الجبهة الشعبية الجديدة الاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية والعمل على إطلاق المحتجزين لدى حركة حماس والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. يأتي ذلك عقب تعرّض حزب فرنسا الأبية لضغوط الحاجة إلى التحالف مع أطراف يسارية لا تشاركه موقفه المؤيد للقضية الفلسطينية، علماً أن حزب ميلانشون جعل من غزة شعاراً انتخابياً رئيسياً لحملته في الانتخابات الأوروبية التي فاز فيها بما يناهز الـ10 في المائة، ما تسببت في زيادة الحملة ضد الحزب، والتي تتهمه بأنه حزب معادٍ للسامية.
بناء على ذلك، يرد في برنامج "الجبهة الشعبية الجديدة" تصنيف هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأنها "مجازر إرهابية". في المقابل، ينص البرنامج على إعلان وقف إطلاق نار فوري في القطاع، والقطيعة مع دعم الحكومة الفرنسية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لا بل فرض عقوبات على تلك الحكومة، وفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وتعليق برنامج التعاون بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل إلى حين التزام تل أبيب بحقوق الإنسان، مع فقرة تشدد على صيانة سيادة لبنان (في وجه الاعتداءات الإسرائيلية بحسب ما يُفهم من السياق). كذلك يلتزم برنامج اليسار بتنفيذ أحكام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة الإسرائيلية وقادة في حركة حماس. الأهم في هذا السياق ما ينص عليه المشروع السياسي لليسار، حول الاعتراف الفوري من فرنسا، في حال حكمها، بالدولة الفلسطينية على أساس قرارات الأمم المتحدة، ثم توفير الظروف لإجراء انتخابات حرة في فلسطين تحت رقابة دولية.
في موازاة ذلك فإن أبرز الانتقادات التي تواجه الشق الداخلي من برنامج جبهة اليسار تكلفته الاقتصادية المرتفعة، في ظل مديونية كبيرة وأزمة اقتصادية عميقة. أما برنامج "التجمع الوطني" فيوصف بأنه مجموعة من الوعود الواهية التي سرعان ما ستثبت عدم جدواها، خصوصاً أن هذا البرنامج يخلو من أي أرقام وتقديرات لكلفة تطبيقه. كما يقترن بتشكيك في كفاءات كوادر "التجمع الوطني" في الاضطلاع بشؤون إدارة فرنسا نظراً لافتقارهم للتجربة في هذا المجال.