بين المسار الدستوري الذي يجب أن تسلكه عملية انتقال السلطة في الولايات المتحدة، والذي لا يزال يعرقله الرئيس دونالد ترامب، الخاسر في انتخابات 3 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وضرورة انطلاق فريق الرئيس المنتخب جو بايدن عملياً لفهم ما غاب عن الإدارة الديمقراطية لأربع سنوات في الوكالات الفيدرالية، يسير بايدن بين ألغام كثيرة يزرعها البيت الأبيض في طريقه، محترساً من أيّ زلّة قدم، قد تؤثر على المسار القضائي الذي ينوي ترامب اتباعه للتمسك بالسلطة. على الرغم من ذلك، يعمل الرئيس الأميركي الفائز في الانتخابات، بمنطق مهني عالي المستوى. وإذا ما حُيّدت أجندته السياسية جانباً، فإنه يحاول ضخّ عقودٍ من الخبرة في الكونغرس وفي واشنطن وإلى جانب الرئيس السابق باراك أوباما، لتفادي التأخير في الولوج إلى الوكالات الفيدرالية، من دون استنفار الطرف الآخر.
من جهته، يبدو ترامب، الذي حاز على أصوات أكثر من 70 مليون أميركي في انتخابات 2020، مجدداً، وكأنه يعمل من منطلق عداوة وتعنت شخصي، عبر عدم تسهيل مهمة الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب. وإذا كان ذلك يعكس قلّة مهنية عالية أيضاً، وغير مسبوقة في التاريخ الأميركي، فإن خطرها يكمن في أنها تأتي في ظرف استثنائي تعيش فيه البلاد في ظلّ أزمة كورونا، وتحديات هائلة. ولا يزال ترامب وجمهوره، وهم نصف الأميركيين تقريباً، يضعون العرقلة، في خانة مواجهة "سرقة الانتخابات"، فيما يحاول الجمهوريون "اللعب على الحبلين"، عبر الصمت أحياناً، ومواصلتهم التأكيد على حقّ الرئيس الخاسر في استكمال معاركه القضائية حول أصوات بعض الولايات، أحياناً أخرى. لكن الخشية الأكبر، هي أن تكون هذه العرقلة، مبنية على أجندة خفيّة، لاسيما بعد تكديس ترامب لموظفين موالين له في البنتاغون. واستبعد فريق بايدن، في أحاديث للصحافة الأميركية، أن يعطي ترامب الضوء الأخضر هذا الأسبوع لتسهيل العملية الانتقالية رسمياً.
يخشى بايدن أن تؤثر تحركاته على المسار القضائي الذي ينوي ترامب اتباعه للتمسك بالسلطة
ويمنع البيت الأبيض الإدارة الأميركية من التعاون رسمياً مع بايدن، فيما ترفض إدارة الخدمات العامة، التي تقودها إميلي مورفي، المعينة من ترامب، حتى الآن، إرسال رسالة مصادقة على فوز بايدن في الانتخابات، لبدء العملية الانتقالية، ما يعني أن فريق بايدن الانتقالي، الذي يشرف عليه صديقه تيد كوفمان، لن يتمكن قبل ذلك من دخول المباني الحكومية والحصول على المعلومات.
على الرغم من ذلك، أكد بايدن يوم الثلاثاء الماضي، بدء العمل على المرحلة الانتقالية، وقام بتعيين 500 شخص في ما يعرف بـ"فريق مراجعة الوكالات"، وهم أشخاص سيعملون بشكل تطوعي، لجمع المعلومات حول عمل الإدارات والوكالات الفيدرالية، عن طريق "المواربة"، أي من خلف الستار، وبطريقة غير رسمية، من دون لقاء أي من المسؤولين والموظفين الحكوميين الحاليين. وهؤلاء الأشخاص، ليسوا موعودين بأي وظيفة حكومية بعد تنصيب بايدن، إلا أن سيرهم الذاتية تسمح بالإضاءة على أولويات الرئيس المنتخب، وأجندته، كما أن من بينهم من سيحظى على الأرجح لاحقاً بفرصة البقاء في الإدارة الجديدة، ضمن الفريق الرسمي لبايدن ونائبته كامالا هاريس.
في موازاة ذلك، سرّع بايدن أول من أمس الأربعاء، من وتيرة العملية الانتقالية، عبر إعلان تعيين الديمقراطي المتمرس، رون (رونالد) كلين، لشغل منصب كبير موظفي البيت الأبيض، وهو أول تعيين له في إدارته، فيما من المتوقع الإعلان عن تعيينات رسمية أخرى، قبل نهاية الشهر الحالي. ومنصب كلين تناوب عليه في عهد ترامب كلّ من مارك ميدوز، وميك مولفاني، وجون كيلي ورينس بريبوس. وقال بايدن في بيان صادر عن فريقه الانتقالي إن "الخبرة العميقة والمتنوّعة لرون كلين، وقدرته على العمل مع الناس من جميع الأطياف السياسية، هي بالضبط ما أحتاج إليه في كبير موظفي البيت الأبيض في هذا الوقت الذي نواجه فيه أزمة ونعمل على إعادة توحيد بلادنا". وأضاف "كان عمل رون قيّماً جداً على مدى السنوات العديدة التي عملنا فيها معاً". ويشغل كلين (59 عاماً) منذ العام 2009 منصب مدير مكتب بايدن عندما كان الأخير نائباً لأوباما، كما عمل سابقاً في مكتب بايدن عندما كان رئيساً للجنة القضائية في مجلس الشيوخ، ثم تولى منصب مدير مكتب نائب الرئيس آل غور. وفي عهد أوباما، تولى تنظيم عملية تعامل البيت الأبيض مع أزمة إيبولا في 2014، وتعرفه الصحافة باسم "مستر إيبولا". من جهته، وصف كلين تعيينه في المنصب بأنه "شرف حياة"، مضيفاً "أنتظر بفارغ الصبر أن أساعد الرئيس ونائبة الرئيس المنتخبة في جمع فريق موهوب ومتنوع للعمل في البيت الأبيض، والانصراف إلى تطبيق برنامجهما الطموح من أجل التغيير، والسعي إلى رأب الانقسامات في بلدنا". وأثار اختيار كلين ارتياحاً لدى الديمقراطيين، مثل السيناتورة إليزابيث وارين التي اعتبرت انه "خيار ممتاز"، لأن كلين "يدرك حجم الأزمة الصحية والاقتصادية ولديه خبرة في إدارة الفريق المقبل".
ويعتبر منصب كبير موظفي البيت الأبيض، من أهم المناصب غير المنتخبة في واشنطن، وهو لا يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ. وساعد كلين، المرشح الديمقراطي للرئاسة في العام 2000، آل غور، في معركة إعادة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا إثر الانتخابات في ذلك العام. وهو غرّد العام الماضي، أن "الناس تدعوني لتخطي أزمة عدّ الأصوات" في فلوريدا، والتي فاز على أثرها جورج بوش الابن بالرئاسة، مضيفاً "بصراحة لا أستطيع تخطيها، ولا أظن أني سأتخطاها يوماً". ومن الأسماء المرشحة أيضاً لمواقع مؤثرة في البيت الأبيض، مايك دونيلون الذي ساهم في صياغة استراتيجية حملة بايدن، وستيف ريشيتي، رئيس الحملة.
وبالعودة إلى فريق الحملة الانتقالية، فقد أكدت مصادر منه لـ"واشنطن بوست"، أنهم يعملون عبر قنوات غير رسمية لفهم ما يجري في الحكومة، والتواصل مع مراكز الأبحاث، والمجموعات العُمّالية، ولكن لاسيما أيضاً مع موظفين سابقين عملوا في الوكالات الفيدرالية، من بينهم العديد ممن قدموا استقالاتهم في عهد ترامب، نتيجة إحباطهم من سوء إدارته. وأشار موقع "بوليتيكو"، إلى أن فريق بايدن يقول إن لائحته، والتي أصبحت علنية، تمثل التزاماً للجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، على الرغم من "بعض التشاؤم" لدى هذا الجناح من أجندة الرئيس المنتخب، فيما يبدو أن مواجهة تغير المناخ هي أيضاً من أولوياته.
التوجه الليبرالي، يعكسه أيضاً الدور الكبير الذي يلعبه تيد كوفمان، إلى جانب بايدن، وهو الرجل الذي يُنظر إليه بأنه حلقة الوصل بين الديمقراطيين المعتدلين، والأكثر ليبرالية داخل الحزب. هذا الدور، سيكون مفصلياً في إدارة الشأن الاقتصادي الداخلي، مع وعود بايدن برفع الحدّ الأدنى للأجور، وتسهيل تمويل ومساعدة المجتمعات الأكثر تهميشاً، وهو ما قد يجد تصلباً من الجمهوريين في مجلس الشيوخ. وحول ذلك، قال مسؤول في فريق بايدن، إن الرئيس المنتخب سيستمع إلى نصائح لجنة استشارية من الحزبين، تضم سيندي ماكين، زوجة السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين.
تحتجز الخارجية الأميركية برقيات تهنئة دولية لبايدن، كما تمنع عنه التقارير الاستخبارية
أما في ملف العلاقات الخارجية، فواصل الرئيس المنتخب أمس، تلقي التهنئة بفوزه بالانتخابات من رؤساء وقادة دول أجنبية، وهم رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون ورئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوغا، وكذلك رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن. وكان بايدن تلقى أيضاً اتصالين من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو. وطمأن بايدن حلفاء الولايات المتحدة في سيول وسيدني وطوكيو، واعداً بالإبقاء على اتفاقيات الدفاع المشترك، وإصلاح العلاقات بعد التوتر في عهد ترامب، وذلك غداة اتصالات هاتفية مع قادة أوروبيين وتأكيده أنّ "أميركا عادت". وتضمنت مكالمة بايدن مع سوغا تحذيراً واضحاً من الأخير بأن "الوضع الأمني يزداد خطورة" في جميع أنحاء المنطقة، وفقًا لنص المكالمة الذي نشره مسؤولون يابانيون، فيما أكد بايدن "التزامه العميق الدفاع عن اليابان" والالتزامات الناشئة عن الاتفاقيات المستمرة بين البلدين منذ عقود، على ما أعلن فريقه الانتقالي. وفي خطوة من المرجح أن تثير احتجاج بكين، ذكرت معلومات أن بايدن أكد أن هذا الالتزام الدفاعي يمتد إلى سينكاكو، وهي سلسلة الجزر غير المأهولة التي تطالب بها كل من اليابان والصين، وتشكّل نقطة مواجهة محتملة منذ عقود. وفي مكالمة منفصلة مع مون، كشفت معلومات أنّ بايدن وصف التحالف بين بلاده وكوريا الجنوبية بأنه "محور الأمن والازدهار" في المنطقة، وتعهد بالعمل معا لمواجهة "التحديات المشتركة" مثل كوريا الشمالية وتغير المناخ.
ويعرقل ترامب أيضاً نشاط بايدن على الصعيد الخارجي. وذكر موقع "سي أن أن"، أن مجموعة من برقيات التهنئة وجهت للرئيس المنتخب من زعماء دوليين، لا تزال تحتجزها وزارة الخارجية وترفض إطلاعه عليها، ولذلك يعمل بايدن على التواصل مع هؤلاء الزعماء عبر خطوط غير رسمية، غير محمية، وتفتقد للوجستيات وخدمة الترجمة، وقد تكون معرضة للقرصنة أو التجسس. كما أن الرئيس المنتخب محرومٌ من الاطلاع على التقارير الاستخبارية اليومية، التي هي من حقّه. وسعى زعماء دوليون للتواصل مع دبلوماسيين في عهد أوباما، لمعرفة كيفية التواصل مع بايدن. وفي موقف لافت أمس، قال السيناتور الجمهوري، جايمس لانكفورد، الذي يرأس لجنة الأمن الوطني والشؤون الحكومية في الكونغرس، إنه لا يمانع في حصول بايدن على هذه التقارير اليومية، وإنه سيتخذ الإجراءات المناسبة إذا لم يحصل ذلك مع بداية الأسبوع المقبل. وأضاف أنه بدأ يتحرك حول هذه المسألة.