مع أنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن كانت تتوقع خطوة الضم الروسية هذه في شرق أوكرانيا، فإنّ إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عنها رسمياً الجمعة وضع واشنطن أمام أمر واقع عنيد لا تقوى على إزاحته بقدر ما ترفض قبوله والتسليم به. والأخطر أنّ الكرملين شمله بمظلة روسيا النووية. في البداية لم يؤخذ تلويحه بالنووي على محمل الجدّ. لكن تزايد متاعبه الداخلية وممانعة الشارع الروسي التعبئة في وقت يتطلع فيه الكرملين إلى التصعيد، قد يحمله بالنهاية "على ترجمة تهديده" بحسب تقديرات أميركية أدلى بها السناتور السابق سام نان ورئيس هيئة الأركان السابق الجنرال مايك مولر.
وبذلك برزت معادلة فرضت تغيير الحسابات أو تعديلها بالحد الأدنى. انعكس ذلك في استطلاعات الرأي العام التي كشفت عن أنّ 60% من الأميركيين باتوا مؤيدين لحل دبلوماسي لحرب أوكرانيا، كان سبق وطرحته جهات مختلفة من بينها هنري كيسنجر، انطوى ضمناً أو صراحة على مطالبة أوكرانيا بـ"الليونة" في الوصول إلى تسوية، كما انعكس على صعيد خطاب الإدارة التي تباطأت في تزويد كييف بالأسلحة اللازمة والمحدودة بمداها. وقد تجلى أيضاً في إبداء الإدارة حرصها على "تجنب" حرب عالمية ثالثة.
هذا الحرص "سمح لبوتين بتحديد الرد الذي يختاره واختبار عزم واشنطن"، كما تقول كوري شاك مديرة قسم السياسة الخارجية والدفاع في مؤسسة "أميركان إنتربرايز إنستيتيوت" للدراسات في واشنطن. وتضيف أنّ مثل هذا الخلل في مقاربة الممارسة الروسية يعود إلى "غياب استراتيجية أميركية"، تعوّض عنها الإدارة بخطاب يضخّم قدراتها كما فعلت في تهديد الصين بـ"القوة العسكرية لو اجتاحت تايوان".
برزت معادلة فرضت تغيير الحسابات أو تعديلها بالحد الأدنى. انعكس ذلك في استطلاعات الرأي العام التي كشفت عن أنّ 60% من الأميركيين باتوا مؤيدين لحل دبلوماسي لحرب أوكرانيا
مثل هذه القراءات وغيرها تتوالى في لحظة ينعقد فيها إجماع على أمرين: أنّ حرب أوكرانيا تعقدت بعد الضم وصارت مفتوحة على الزمن، وثانياً أنها ومعها الوضع الدولي قد دخلا مرحلة عصيبة. الأسئلة التي أثارتها كبيرة وباقية بلا إجابة، الأهم من بينها: ماذا بعد الضم والتهديد بالنووي؟ مأزق إدارة بايدن إزاء هذه التطورات أنّ خياراتها قليلة وغير مضمونة الفعالية. أقله في المدى المنظور. قدراتها تبقى في حدود عدم الاعتراف بالضم كما بالاستمرار في تزويد أوكرانيا بالسلاح من دون ربط ذلك باستردادها لكامل أراضيها، فهذا موضوع تقاربه واشنطن بعناية فائقة مراعاة لحساسية بعض الأوروبيين تجاه الالتزام المفتوح، خصوصاً بعد الانتخابات الإيطالية الأخيرة التي جاءت بتكتل غير متحمس للحرب الأوكرانية؛ خاصة الوجه القيادي فيه جيورجيا ميلوني التي سبق لها أن أعربت عن انحيازها للرئيس بوتين وخطه.
خيار تصعيد العقوبات لم تأت الإدارة حتى الآن على سيرته. شمولها لكل قطاع الطاقة الروسية يخرّب العلاقات مع حلفاء وأطراف دولية تحتاجها واشنطن في الوقت الحاضر وبما يقتضي تحاشي زيادة التنافر معها، وبشكل خاص الصين، التي تبقى الطرف الأهم والأكثر تأثيراً على الكرملين.
الرهان في ذلك على أنّ التحدي المطروح اختبار للعالم وخصوصاً دوله الكبرى. الحديث الجدي عن نووي ولو تكتيكي – أكثر قوة من قنبلة هيروشيما التي بلغت 15 كيلوطن وأقل من 100 ألف كيلوطن TNT– لا بد وأن تكون له تداعيات خطيرة على صعيد انفلات حبل التسلح النووي في العالم، ناهيك عن استخدامه.
فهل يتحرك العالم وبالذات الصين للحيلولة دون الوصول إلى هذا الانفلات؟ ثمة اعتقاد بأنّ بكين التي أعربت لبوتين عن "قلقها" من الحرب أثناء قمة طشقند الأخيرة قد تذهب في نقطة ما إلى حد الضغط على بوتين في النووي. مصلحتها أن تساعد في حماية منع انتشار أسلحة الدمار في آسيا. لكن مسألة معارضة الضم قد تواجه واشنطن صعوبة في تسويقها بالرغم من جدارة الموضوع. فمن يغض النظر عن الضم والقضم عندما تكون إسرائيل الفاعل، بل يبارك لها بالضم ويعترف به، والجولان واحد من أمثلة كثيرة، تصبح صدقيته معطوبة في هذا المجال.