منذ اندلاع المعارك لاحتلالها في مايو/ أيار الماضي، يتصدر اسم مدينة باخموت، شرقي أوكرانيا، عناوين الأنباء تارة، ويغيب تارة أخرى، للتركيز على أوضاع جبهات أخرى أكثر اشتعالاً. وبعيداً عن أهميتها الاستراتيجية من عدمها، فقد حملت المعارك حول المدينة رمزية سياسية كبيرة.
فروسيا ترغب بتحقيق إنجاز عسكري يفتح على إنهاء إخفاقات متتالية وعجز عن تحقيق أهم أهداف غزوها لأوكرانيا، المتمثل في السيطرة على منطقة دونباس (التي تضم لوغانسك ودونيتسك)، وتسويق "استرداد أرتيوموفيسك (الاسم السوفييتي الذي عُرفت به باخموت بين عامي 1924 و2016)"، على أنه نصر تاريخي.
وفي المقابل، تعمل كييف على تصوير المدينة على أنها أيقونة الصمود في وجه الغزو الروسي والمعركة الأكثر أهمية لوقف التقدم الروسي.
ومنذ أشهر يجادل خبراء في أهمية المدينة العسكرية للطرفين الروسي والأوكراني، ما دفعهما إلى تكبد خسائر بآلاف الجنود. ويؤكد فريق من الخبراء أن استيلاء روسيا على باخموت، الواقعة على بعد 90 كيلومتراً شمال شرقي مدينة دونيتسك، يمثل بداية لإحكام السيطرة على كامل مقاطعة دونيتسك، نظراً إلى أنها ستوقف الضربات في عمق المناطق الواقعة تحت سيطرة الانفصاليين الأوكرانيين منذ عام 2014.
كما أن موقع باخموت قرب عقدة مواصلات يوقف إيصال المساعدات إلى كراماتورسك وسلافيانسك، ويزيد احتمال سقوط آخر مدينتين كبيرتين بيد الشرعية الأوكرانية في مقاطعة دونيتسك، بسرعة أكبر.
تمسك أوكرانيا بالمقاومة في باخموت
وتبرر حجج هذا الفريق إصرار الروس على الهجوم واستخدام كافة الوسائل، عبر تنفيذ سياسة "الأرض المحروقة"، التي سوّت معظم أبنية المدينة بالأرض، والدفع بالقوات النظامية ومرتزقة "فاغنر"، ومواصلة محاولات التقدّم مهما كبرت الخسائر، في موازاة تمسك الجانب الأوكراني بالمقاومة على الرغم من كل الخسائر.
في المقابل، يرى فريق آخر أن لا أهمية استراتيجية للمدينة، وأن الصراع يدور أساساً حول رمزية سياسية، وأنه كان يجب على أوكرانيا ترتيب دفاعاتها حول كراماتورسك وسلافيانسك، والتحضير لهجوم الربيع، وعدم التضحية بعدد كبير من الجنود في معركة محسومة لصالح روسيا، ولا أهمية استراتيجية لها مقارنة بما يتم التحضير له في الأشهر المقبلة من قبل الطرفين.
لكن فريقاً ثالثاً يرى أن أوكرانيا تتمسك بباخموت، وقبلها سوليدار، من أجل إيقاف الجيش الروسي من جهة، ومنح قوات أوكرانية أخرى فرصة للتدريب على الأسلحة الغربية الحديثة من جهة أخرى.
تتمسك أوكرانيا بباخموت من أجل تجهيز قواتها عسكرياً
وكشفت نائبة وزير الدفاع الأوكراني هانا ماليار، أن القوات الروسية تزيد الضغط في اتجاه باخموت. وذكرت في قناتها على "تيليغرام"، مساء أمس الأول الأربعاء: "تستمر المعارك الشديدة. العدو يزج عدداً كبيراً من الأفراد والأسلحة والمعدات العسكرية في المعركة، في محاولة لاختراق دفاعنا، ويتكبد خسائر كبيرة، لكنه لا يتراجع عن خططه".
وبعد نحو أسبوعين من إعلان روسيا السيطرة على مدينة سوليدار، أقرّت أوكرانيا الأربعاء بسقوط المدينة وانسحاب قواتها منها. وذكرت وزارة الدفاع الأوكرانية أن خط الجبهة من جهة الشمال الشرقي لمدينة باخموت لم يشهد تغيرات، وأن القوات المسلحة الأوكرانية صدّت هجمات القوات الروسية في منطقة روزدوليفكا (18 كيلومتراً شمال شرقي باخموت) وكراسنا غورا (7 كيلومترات، شمال باخموت).
وفي تقريره اليومي، ذكر المعهد الأميركي لدراسة الحرب الأربعاء، أن القوات الروسية تقدمت الثلاثاء الماضي، غربي قرية كليشوفكا (7 كيلومترات جنوب غربي باخموت)، وتقوم بعمليات عسكرية في اتجاه بلدة إيفانوفسكي، بهدف قطع الطريق السريع الرابط بين باخموت وكونستانتينوفكا.
بعد فشل الجيش الروسي في السيطرة على باخموت، في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين، قفزت قوات "فاغنر" إلى سطح المشهد في معارك السيطرة على باخموت في شهر يوليو/تموز الماضي، وهاجمتها من الجنوب، وبالتزامن تحرك الجيش الروسي من الشمال باتجاه قرية أوبيني ومدينة سوليدار. وحسب محللين عسكريين، فإن الهدف حينها تمثل في إطباق الحصار على سوليدار وباخموت وقطعهما عن باقي مناطق دونيتسك الواقعة تحت سيطرة الجانب الأوكراني.
ولم تحقق القوات الروسية أي تقدم، وفي 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بدأت "فاغنر" حملة جديدة واحتلت قرية إيفانغورود على بعد كيلومترين من باخموت، وشنّت هجوماً على المدينة من جهة الجنوب الشرقي.
وبعد نحو أسبوع، احتل مرتزقة "فاغنر" قرية أوبنيني في مسعى لتطويق باخموت، وهي المهمة التي عجز عنها الجيش الروسي. وبدا أن التكتيكات العسكرية تنطلق من الزج بقوات "فاغنر" لقتال شوارع والاستيلاء على القرى والمدن، ولاحقاً تقدم الجيش الروسي في القرى والمدن المدمرة، وهو ما حصل في سوليدار.
دور "فاغنر" في المعارك
وحسب تقرير صادر عن الاستخبارات العسكرية الأوكرانية عن القتال في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن قوات "فاغنر" تتقدم في مجموعات متنقلة تضم حوالي 12 شخصاً يستخدمون القذائف الصاروخية والطائرات من دون طيار للاستطلاع، وغالباً ما تفقد هذه الوحدات المشكلة من المساجين السابقين كامل أعضائها أو 80 في المائة منهم على الأقل، ولكنهم يمهدون الطريق لجنود أكثر خبرة في الموجة التالية من الهجوم.
مؤسس "فاغنر" بدأ يفقد مصداقيته في نظر بوتين
ومع التغييرات الجديدة في وزارة الدفاع، بدا أن الكرملين في طريقه إلى إنهاء الاعتماد على قوات "فاغنر" حسب محللي معهد دراسة الحرب الأميركي. وفي تقرير عن المعهد الاثنين الماضي قال محللون إن مؤسس "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، بدأ يفقد مصداقيته في نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد محاولات فاشلة للاستيلاء على باخموت.
عشية زيارته إلى الولايات المتحدة في نهاية العام الماضي، حرص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على زيارة باخموت على الرغم من احتدام المعارك فيها. وفي واشنطن سلط زيلينسكي الضوء على أهمية باخموت، وقارن المعركة الدائرة حول المدينة بمعركة ساراتوغا، التي شكلت نقطة تحول في حرب الاستقلال الأميركية.
وقال إن معركة باخموت "ستغير مسار حربنا في سبيل الاستقلال ومن أجل الحرية"، وزاد أن" الكفاح من أجل إبقاء السيطرة عليها (باخموت) كان معركة الدفاع عن حرية العالم".
وبعيداً عن المعارك على الأرض تدور معركة أخرى حول التسميات والمصطلحات، ففي الأسابيع الأخيرة، بات المراسلون العسكريون الروس يذكرون اسم "أرتيوموفيسك" بكثرة للإشارة إلى مدينة باخموت، في استخدام لاسم المدينة في الفترة السوفييتية منذ 1924 وحتى عام 2016.
وفي هذه الفترة تكنّت المدينة باسمها نسبة للقب القائد الشيوعي فيودور سيرغييف، صديق الزعيم جوزف ستالين، وهو "أرتيوم". وتأسست باخموت التي حملت اسم النهر الذي يقطعها في عام 1571، وبلغ عدد سكانها قبل بدء الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط الماضي، نحو 70 ألفاً لم يبق منهم إلا عدة آلاف، يعيشون في ظروف صعبة للغاية في ظل انعدام المواد الغذائية والماء والكهرباء.