اختارت السلطة في الجزائر توقيتاً سياسياً واجتماعياً مناسباً، لضخ جرعة أمل جديدة على طريق تسوية ملف معتقلي الرأي والحراك الشعبي، البالغ عددهم أكثر من 300 معتقل. ففي خطوة مفاجئة، تسارعت منذ مساء أول من أمس الأربعاء، قرارات الإفراج والإفراج المؤقت عن عدد من الناشطين، بينهم وجوه بارزة كانت محل تحرك من قبل الأمم المتحدة، على غرار المدون زكي حناش.
ويُتوقع أن تستمر حملة الإفراجات خلال اليومين المقبلين، والتي كانت سبقتها بعض الأحكام القضائية بتبرئة ناشطين أو تخفيف الأحكام عنهم، وإلغاء أحكام أخرى.
وبالنسبة للتوقيت السياسي الذي اختارته السلطة، فهو يتعلّق بزيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، للبلاد أول من أمس الأربعاء. هذا فضلاً عن توقيت اجتماعي وهو عشية شهر رمضان (يبدأ غداً السبت). كما تأتي الخطوة في ظلّ احتقان شعبي جراء تردي الأوضاع المعيشية ومشكلات ندرة المواد التموينية كالزيت والطحين.
يُتوقع أن تستمر حملة الإفراجات خلال اليومين المقبلين
توجه جديد لدى السلطة في الجزائر؟
وبرأي الناشط السياسي وأحد الوجوه البارزة في الحراك الشعبي الجزائري، سمير بلعربي، فإن بداية الإفراج عن الناشطين بهذه الصورة المفاجئة "قد تكون مؤشرا لرغبة لدى السلطة في تغيير التوجهات الأمنية في ما يتعلق بقضية الناشطين".
وأضاف بلعربي، في حديث مع "العربي الجديد": "نتمنى أن يكون القرار المفاجئ عشية شهر رمضان، بالإفراج عن الناشطين الملاحقين بتهم المساس بالوحدة الوطنية والتجمهر غير المرخص وإحباط معنويات الجيش، وهي كلها تهم سياسية، استجابة لمطالبات سياسية بضرورة الإفراج عن معتقلي الرأي الذين يقارب عددهم الـ300 موقوف".
وتابع: "هناك تلمس لإرادة لدى بعض دوائر السلطة، بالذهاب نحو توجه جديد في مواجهة المشاكل السياسية والأمنية، لكن هذا الأمر يتوقف على ما سيأتي، لأننا شهدنا في السابق أيضاً حملة إفراجات، ولكن تبعتها حملة اعتقالات".
وقال بلعربي: "نأمل أن يستمر هذا التوجه لدى السلطة نحو التصالح مع الذات، فنحن نثمّن هذا القرار الشجاع، ونأمل أن يتبعه انفتاح سياسي وإعلامي يشعر من خلاله الجزائريون أنهم شركاء في هذا الوطن".
بلعربي: هناك تلمس لإرادة لدى بعض دوائر السلطة، بالذهاب نحو توجه جديد في مواجهة المشاكل السياسية والأمنية
الإفراج عن معتقلين جزائريين بتهم سياسية
وشملت حملة الإفراجات المتتالية منذ مساء الأربعاء، أكثر من 40 ناشطاً ومعتقل رأي جزائريا، وقد خصّت حتى الآن من تعلّقت بهم تهم ذات بعد سياسي، على غرار عرض آراء سياسية مناهضة للحكم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتهديد الوحدة الوطنية والمساس بها، وإحباط معنويات الجيش، والتجمهر غير المرخص والتحريض على التجمهر.
ولكن هذه الحملة لم تشمل الناشطين الموقوفين بتهم تتعلّق بالانتماء إلى تنظيمات تصنفها السلطات الجزائرية على أنها إرهابية، على غرار الصحافيين حسان بوراس المتهم بالانتماء لحركة رشاد (تتمركز قياداتها في الخارج وتطالب بقلب نظام الحكم)، ومحمد مولودوجي المتهم بالانتماء إلى حركة "الماك" (تطالب بانفصال منطقة القبائل).
ولا تبدو السلطة بصدد التساهل مع هذه القضايا، بسبب حساسيتها وارتباطها بالأمن القومي، فضلاً عن استمرار قيادات هذه التنظيمات في مهاجمة الجيش والأجهزة الأمنية الجزائرية.
مطالبة بغلق ملف معتقلي الحراك والرأي في الجزائر
وبقدر ما شكلت قرارات الإفراج الطارئة، مفاجأة بالنسبة لهيئة الدفاع عن معتقلي الرأي (لجنة حقوقية مدنية)، والتي كانت السلطة تصد منذ أشهر طلباتها بالإفراج عن معتقلي الرأي والناشطين الموقوفين في الجزائر، بقدر ما تتطلع الهيئة لأن تكون هذه الخطوة توجهاً جدياً نحو غلق هذا الملف الذي وضع الجزائر في الفترة الأخيرة في دائرة تصويب المنظمات الحقوقية.
شملت حملة الإفراجات المتتالية منذ مساء الأربعاء، أكثر من 40 ناشطاً ومعتقل رأي
وفي السياق، قال عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي، المحامي عبد الرحمن صالح، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "من حيث المبدأ، نحن كهيئة دفاع نرحب بهذه القرارات المفاجئة لنا، خصوصاً أننا كنا تقدمنا بالعديد من طلبات الإفراج المؤقت عن عدد كبير من الناشطين لدى المحاكم، لكنها رُفضت".
وأضاف: "في الواقع، لا يمكن أن نخمّن ما هي دوافع القرار، وما إذا كانت مرتبطة برغبة محلية من قبل السلطة بتحسين موقفها في ما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان لدى الخارج، أم أنها مرتبطة بضغوط أجنبية، ومنها زيارة وزير الخارجية الأميركي".
وتابع: "لكن نعتقد أنه من المهم بالنسبة للسلطة، غلق هذا الملف الذي يشكل وصمة عار في جبينها، بعدما طاردت كل من يخالفها الرأي".
عوامل داخلية وخارجية دفعت السلطة للإفراج عن الناشطين
وعلى الرغم من محاولة بعض المراقبين ربط حملة الإفراجات المفاجئة عن الناشطين، بالزيارات المتتالية لمسؤولين أميركيين إلى الجزائر، على غرار زيارة بلينكن أول من أمس الأربعاء، وقبلها بأسبوعين زيارة نائبته ويندي شيريمان، وقد أعلنا أنهما أثارا ملف حقوق الإنسان مع السلطات الجزائرية، فإن هذا الربط يبدو مستبعداً، لكون السلطات الجزائرية لا تبدي في الغالب اهتماماً كبيراً بالضغوط الدولية في مجال حقوق الإنسان.
هذا إضافة إلى أن الانشغال الدولي منكب في هذه الفترة على الحرب الروسية على أوكرانيا بمجموع تداعياتها الإقليمية والدولية.
لكن الخطوة يمكن أن تكون كمحصلة لتزايد الضغوط الداخلية على السلطة، خاصة من قبل أحزاب المعارضة بمختلف تياراتها، في إطار المطالبة بوقف السياسات الأمنية وحملات الاعتقالات، والتحذير من خطورة التوجه الأمني المناقض لتطلعات الجزائريين ومطالب التغيير والحريات التي رفعت في الحراك الشعبي.
طارق مراح: القرار سياسي بامتياز وبعيد كل البعد عن الخط القانوني
من جهته، اعتبر الناشط الحقوقي والمحامي طارق مراح، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "هذا القرار مهما كانت مسبباته ونواياه، هو قرار سياسي بامتياز، وبعيد كل البعد عن الخط القانوني، وفي تصورنا كحقوقيين، هناك عوامل لعبت دوراً في دفع السلطات لتخطو هذه الخطوة الجريئة".
وأوضح أن "هذه العوامل منها ما هو محلي أو وطني، ومنها ما هو مرتبط بالضغوط الدولية المتتالية على النظام السياسي؛ سواء كانت هذه الضغوط رسمية أو غير رسمية عبر المنظمات غير الحكومية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية التي ركزت في الفترة الأخيرة على الجزائر".
وعن العوامل الداخلية، قال مراح إن من بينها "سعي السلطة لتوفير متنفس، وتحويل اهتمام الرأي العام الداخلي عن بعض المشكلات الاجتماعية والمعيشية التي تغذّي الاحتقان الداخلي، وخاصة بعد الاستياء الذي عم نتيجة الإخفاق أخيراً في التأهل إلى مونديال قطر".