ليست المواقف التي اتخذتها فرنسا في مقاربة انفجار الأوضاع في فلسطين المحتلة، والحرب الطاحنة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الحالي بعد عملية حركة "حماس" في غلاف القطاع، بمُفاجئة كلياً، إذ تُكمل إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، عهدين لسلفيه، نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، في اعتبار القضية الفلسطينية ثانوية في السياسة الخارجية الفرنسية، التي أصبحت متماهية جداً مع الأجندة الأميركية، ومتواطئة مع القضايا التي تركّز عليها.
ويأتي ذلك، رغم النفوذ التاريخي لفرنسا في الشرق الأوسط ومصالحها مع العالم الإسلامي وشعوبه، ما يجعل التساؤل بديهياً في ما إذا كانت باريس تخطئ في حساباتها مرة أخرى، ما قد يجعلها تخسر موطئ قدم جديد، بعد أفريقيا، أم ترى لها فرصة اليوم لفرض نفسها كلاعب مركزي في صراع يبدو طويلاً ومفصلياً في الشرق الأوسط.
القضية الفلسطينية من منظور فرنسي
واتخذ ماكرون والحكومة الفرنسية، مواقف اعتبرت منحازة بالكامل لإسرائيل، منذ بداية جولة الحرب الجديدة في غزة، وتتسم بالتخبط والتناقضات، إلى جانب محاولة ترهيب أي أصوات مناصرة للقضية الفلسطينية ومنع التظاهرات المنددة بالعدوان على غزة. ولن تدخل هذه المواقف التاريخ باعتبارها استثنائية، إذ تدخل ضمن مسار متصاعد تتخذه فرنسا منذ سنوات في الانحياز لإسرائيل، لكن الرئيس الفرنسي ذهب أبعد من ذلك، حين اقترح، من إسرائيل الثلاثاء الماضي، توسيع "التحالف الدولي ضد داعش" ليشمل قتال حركة "حماس"، ما فجّر موجة انتقادات له وسط اتهامات لباريس، ليس فقط بالتماهي مع الاحتلال وتغطية مجازره بحق أهالي قطاع غزة، بل المزايدة الكارثية.
موقف باريس نتاج تقييم خاطئ بأن القضية الفلسطينية ماتت
في المقابل، فإن جان لوك ميلانشون، زعيم اليسار الراديكالي في فرنسا وحزب "فرنسا غير الخاضعة"، الذي يغرّد خارج السرب الفرنسي الرسمي في الانحياز لإسرائيل، ليس وحده من أطلق التساؤل، بعد اقتراح ماكرون على الهواء مباشرة، بأنه "لا يفهم ماذا يقول هذا الرجل، وما إذا كان سمعه جيداً"، في إشارة إلى الرئيس الفرنسي واقتراح التحالف العسكري ضد "حماس". إذ برأي الجالية المسلمة في فرنسا والكثيرين من شعوب العالم العربي، فإن باريس قد ذهبت بعيداً جداً، وتخلت بشكل فاقع عن سياسة التوازن، ولو الشكلي واللفظي، التي رفعت رايتها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ورغم تقديم الإليزيه "توضيحات" بشأن التصريح، إلا أن الترويج لمثل هذه الخطة، لم يُفهم هدف الرئاسة من ورائه، وما إذا كانت ترى أن الطرح قد يعزّز مكانتها في المنطقة، فيما تتهشّم صورتها كقوة استعمارية سابقة وصاحبة نفوذ واسع في أفريقيا.
وتعيد مواقف ماكرون التي قد تفسّر بالارتجال والتخبط، بين دعم العدوان على غزة والتأكيد على حقّ إسرائيل "في الدفاع عن نفسها" تارة، وبين الاكتفاء بمقاربة حرب غزة من زاوية "إنسانية" تارة أخرى، مع دفن الرأس في الرمال في ما خصّ أصل الصراع وقضية الاحتلال، التذكير بتراجع القضية الفلسطينية في أجندة السياسة الخارجية الفرنسية.
وبدأ ذلك منذ السنوات الأخيرة من عهد الرئيس اليميني الراحل جاك شيراك، مروراً بساركوزي ثم هولاند اللذين تحولت سياستهما في المنطقة إلى التركيز على دول الخليج والصفقات التسليحية معها، وهي فترة أيضاً اتسمت بمشاركة فرنسا في التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي على ليبيا لإسقاط حكم معمر القذافي، ثم الحرب على "داعش" في العراق وسورية، وتحول العلاقة بين فرنسا والعالم الإسلامي إلى علاقة مصالح عسكرية وأمنية ومالية، ترتكز على نسج العلاقات الخاصة مع قادة هذه الدول، وإغفال تنامي الغضب الشعبي لدى الشعوب، ثم بروز ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في فرنسا، كقضية مركزية، اتخذت أبعاداً مختلفة على مدار السنوات الماضية.
ومن الممكن الحديث في هذا الإطار أيضاً، عن تراجع دور المؤسسات الرسمية في فرنسا، والدور التقليدي للخارجية (كيه دورسيه)، ما قابلته أدوار متضاربة أحياناً لـ"المستشارين" الحكوميين والرئاسيين، الذين يحيطون بصنّاع القرار في باريس، وأحياناً يرسمونه، وحيث ينشط اللوبي اليهودي والإسرائيلي، والتيار الداعم لإسرائيل.
ميلانشون واليسار الراديكالي يغردان خارج السرب
واستغل زعيم "فرنسا غير الخاضعة"، ميلانشون، الذي حلّ ثالثاً في الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية العام الماضي، "شطحات" الرئاسة في هذا البند الخارجي، لتظهير موقفه التقليدي الداعم للقضية الفلسطينية وحلّ الدولتين ورفض اعتبار "حماس" إرهابية. وساهم ذلك في التعبئة في الشارع للمناصرين للقضية الفلسطينية، ورفدهم بموقف رسمي لكتلة برلمانية مهمة، ما عزّزه ميلانشون بعد تحرّره من تحالف "نوبس" اليساري والبيئي. إذ أعلن الحزب الاشتراكي الفرنسي، تعليق المشاركة في اجتماعات التحالف الذي يضم أيضاً البيئيين والشيوعيين في البرلمان، على خلفية رفض ميلانشون توصيف "حماس" إرهابية. وفي موقف الطرفين، أيضاً، غايات انتخابية، إذ يأمل ميلانشون الذي يخوض انتخابات أوروبية العام المقبل، منفرداً، ويعتقد بأنه بإمكانه هزيمة الماكرونيين واليمين المتطرف في رئاسيات 2027، وفي أي انتخابات مقبلة، في جذب حوالي 6 ملايين مسلم في فرنسا، التي تضمّ فقط 550 ألف يهودي (أكبر جالية يهودية في أوروبا).
وجاءت كلمة رئيسة كتلة حزب "فرنسا غير الخاضعة" في الجمعية الوطنية ماتيلد بانو قبل أيام لتصوب بشكل واضح على الموقف الرسمي الفرنسي، إذ قالت "إن هذه الأوقات المأساوية التي نمر بها تدعونا إلى التحلي بالشجاعة من أجل السلام، وعدم الاستسلام لتصعيد الحرب المميت. لكن بدلاً من إظهار هذه الشجاعة، أظهرتم دعماً غير مشروط للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة. قلتم: "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". ثم أضفتم في الأيام الأخيرة، وفي مواجهة فظاعة العقاب الجماعي الذي يتعرض له جميع السكان الفلسطينيين، فإن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها... ولكن... وفقاً للقانون الدولي. لكن الملاحظة واضحة. القانون الدولي لا يُحترم. إن ما يحدث في غزة يجب أن يصدم إحساسنا الإنساني. نحن نتحدث بمواجهة مقبرة".
تراجعت قضية فلسطين في أجندة فرنسا منذ أواخر سنوات شيراك
ومما قالته بانو أيضاً: "الفلسطينيون ليسوا مجموعة من الإحصائيات، أو كائنات زائدة عن العدد. وهذه النظرة العنصرية العميقة هي التي تضفي الشرعية على المذبحة". وتوجهت إلى رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن بالقول: "لقد أصبحت فرنسا، التي كانت ذات يوم صوت السلام في جميع أنحاء العالم، دولة منحازة بين أيديكم. منحازة إلى الولايات المتحدة الأميركية والحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي تروج للحرب".
ورغم محاولة باريس احتواء شطحات ماكرون والتصريح "كل يوم بيومه" بما خصّ أحداث غزة، إلا أن المقاربة الفرنسية الرسمية السائدة للعدوان لا تعدو كونها نتاج سنوات طويلة من التقييم الخاطئ في دوائر القرار الفرنسية، بأن القضية الفلسطينية ماتت.
في 2016، كتب السفير الفرنسي السابق إيف أوبان دو لا ميسوزيير، في دورية "التقاءات متوسطية"، تعليقاً على انتفاضة القدس في الأراضي المحتلة، أو الهبة الشعبية نصرة للقدس والمسجد الأقصى، أن القضية الفلسطينية التي لم يذكرها، لا الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ولا هولاند ولا حتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاباتهم في الأمم المتحدة في ذلك العام، "فقدت مركزيتها"، بحسب اعتقاد الدول الكبرى، وأن الدبلوماسيين والاستراتيجيين الفرنسيين، باتوا يرون أنه يمكن التعاطي مع هذا الصراع على أنه "منخفض الخطر"، ويمكن التعامل معه فقط "من خلال تدخل القوات الإسرائيلية على الأرض".
وحذّر لا ميسوزيير في ذلك العام، من أن العدوان الإسرائيلي على غزة في 2014، ثم الهبة الشعبية، يدلان على أن احتقاناً فلسطينياً قوياً يتبلور، وأن "حماس" ومعها فصائل أخرى (قال إنها متطرفة) بدأت تتخذ مواقف أكثر راديكالية، وتقوي قدراتها، وتعزز نفوذها في الضفة الغربية، لكنه لفت إلى أن كل ذلك يجري بـ"بعد وطني" لإنهاء الاحتلال.
وإذ شرح المواقف المتعاقبة للرؤساء الفرنسيين، منذ شارل ديغول، وكيفية مقاربتهم للقضية، رغم التعاون مع إسرائيل، من منظور "هندسة دبلوماسية" للمواقف المتوازنة نسبياً في أوروبا ثم داخل الاتحاد الأوروبي لحلّ الدولتين، إلا أنه رأى أن ذلك تراجع جداً في عهد هولاند الذي لامس بحذر المسألة، في وقت كانت المجتمعات الأوروبية أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية.
اليوم، يجد ماكرون نفسه، مجدداً، في مواجهة قضية لطالما حاول التنصل منها واعتبارها منتهية، منذ وصوله للحكم، ثم تأكيد رئيس حكومته الأسبق جان كاستكس أن القدس "عاصمة أبدية" لإسرائيل. وإذ يتحرّر ماكرون، المبتدئ رغم عهدين في السياسة، من عبء أي انتخابات مقبلة، فإنه يتعامل مع الملف بإسقاط "محاربة الإرهاب" (وما يسمى في الغرب بالإسلام المتطرف) الذي عاصره في عهده، على قضية مركزية في المنطقة.