انتخابات فرنسا: خريطة سياسية ثلاثية عشية أخطر استحقاق للجمهورية الخامسة

15 يونيو 2024
مارين لوبان وجوردان بارديلا في باريس، 9 يونيو 2024 (جوليان دي روزا/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فرنسا تواجه مرحلة حاسمة في تاريخها السياسي مع انتخابات برلمانية مبكرة، حيث يواجه الرئيس ماكرون تحدياً بعد نجاح "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، مما أدى إلى تفكك حزب "الجمهوريين" وتحالف اليسار في جبهة واحدة.
- تغيرات في الساحة الفرنسية تشمل انفصال ماريون ماريشال وتأييدها لـ"التجمع الوطني"، مما يعكس تغيرات في التحالفات السياسية واحتمالية تعايش بين رئيس يميني وسطي ورئيس حكومة يميني متطرف.
- اليسار الاشتراكي وحزب "فرنسا غير الخاضعة" يتحدان تحت "الجبهة الشعبية" لخوض الانتخابات ببرنامج مشترك يهدف إلى مواجهة تقدم اليمين المتطرف وتحديات الوحدة الداخلية، مع التركيز على توزيع المقاعد لضمان التمثيل في البرلمان.

تتردد في فرنسا هذه الأيام عبارة أن انتخابات 30 يونيو/ حزيران الحالي و7 يوليو/ تموز المقبل التشريعية ستكون الأخطر في تاريخ الجمهورية الخامسة 1958. فبعد مضي يومين فقط على دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتخابات برلمانية مبكرة في مسعى لتدارك الاختراق البارز الذي حقّقه "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية، انفرط عقد حزب "الجمهوريين" اليميني الذي كان ديغولياً جمهورياً، وتحالف اليسار في جبهة واحدة، ووجد حزب الرئيس، النهضة، نفسه مهدّداً بأن يصبح أضعف قوة سياسية في البرلمان المقبل، خلف كتلة اليسار وخلف المتصدر في نيّات تصويت انتخابات فرنسا المرتقبة، أي اليمين المتطرف، ومعه أطراف عديدة ممن كانت يمينية جمهورية ديغولية "معتدلة".

أعلنت ماريون ماريشال انفصالها عن حزب الاسترداد وتأييدها لـ"التجمع الوطني"

هكذا، تقف فرنسا على أعتاب ما قد يكون أول تعايش في تاريخها بين رئيس يميني وسطي ورئيس حكومة يميني متطرف سيكون جوردان بارديلا في حال عيّنه ماكرون رئيساً للوزراء بعد انتخابات فرنسا التي تعطي حزب التجمع الوطني (يرأسه بارديلا حالياً بعد مارين لوبان) نيّات تصويت تتجاوز الثلاثين في المائة.

انتخابات فرنسا تخضّ "الجمهوريين"

حزب الجمهوريين حكم فرنسا على مدى عقود متتالية، لكن قاعدته بدأت تتقلص في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الذي تولى الرئاسة بين عامي 2007 و2012، ومن ثم استمرت شعبيته في التراجع، بحيث بات من أحزاب الأقلية عقب فوز ماكرون بأولى ولايتيه الرئاسيتين عام 2022. عانى "الجمهوريون" على مدى السنوات الماضية من العديد من النزاعات الشخصية بين أقطابهم، وبين تيارات داخلية في طليعتها التيار المتمسك بقيم اليمين الديغولي والتيار الليبرالي الذي يُجاهر بطروحات متطابقة لطروحات اليمين المتطرف على أصعدة عدة اقتصادية واجتماعية، ومنها خصوصاً الهجرة والتعامل مع الإسلام في فرنسا.

وعقب منافسة داخلية مريرة، تمكن "الجمهوريون" من إضفاء قدر من الثبات على صفوفهم، ومن اختيار رئيس لهم في عام 2022، هو إريك سيوتيه الذي كان من المفترض أن يشكل نقطة تقاطع بين حساسيات الحزب الداخلية، لكنه كان في الواقع أحد أبرز رموز اليمين المتشدد الذي يشبه في كثير من طروحاته اليمين المتطرف.

وجد سيوتيه في تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية وفوزه بحوالي 33 في المائة من الأصوات متقدماً على سائر القوى السياسية فرصة لتجاوز التهميش وبادر تلقائياً ودون الإقدام على أي مشاورات حزبية، إلى الإعلان عن تحالف حزبه مع التجمع الوطني في إطار الانتخابات المبكرة.

أعاد سيوتيه بموقفه هذا مجدداً تفجير الصراع بين تياره وتيار الديغوليين الذين يعارضون تذويب هويتهم وإلحاقها تحديداً باليمين المتطرف الذي شكّلت محاربته سيرة الرئيس الراحل شارل ديغول وكان الرئيس الراحل جاك شيراك أيضاً يصفه بأنه "سمّ يثير الانقسام والدمار"، وفضّل خسارة انتخابات فرنسا المبكرة التي دعا إليها عام 1997 على التحالف مع اليمين المتطرف.

بدا من الطبيعي أن يثير هذا القرار حفيظة الديغوليين الذين عملوا على إقصاء سيوتيه من رئاسة الحزب الذي كان أحرز نتيجة هزيلة بلغت 7.3 في المائة بالانتخابات الأوروبية يوم الأحد الماضي، وبات الآن مهشماً ومبعثر الصفوف.
وفيما تتوالى فصول هذا الخلاف، إذ قرّر سيوتيه الاحتكام إلى القضاء، معتبراً أن إقصاءه من منصبه مخالف للقواعد الحزبية الشرعية، اتجهت الأنظار نحو حزب الاسترداد اليميني المتطرف (حزب إريك زيمور) الذي لا يبدو أوفر حظاً من حزب "الجمهوريين". ويجسد هذا الحزب أقصى التطرف اليميني ويتزعمه زيمور، وقادت حملته الانتخابية الأوروبية ماريون ماريشال، وهي حفيدة جان ماري لوبان، مؤسس حزب "الجبهة الوطنية" الذي أصبح اسمه لاحقاً "التجمع الوطني". وماريون هي ابنة شقيقة مارين لوبان.

انفصال في "الاسترداد"

وكان زيمور أعلن عقب الانتخابات الأوروبية عن عزمه التحالف مع "التجمع الوطني" لخوض انتخابات فرنسا التشريعية المبكرة. وأعقب هذا الإعلان، الذي بدا منطقياً نظراً لتطابق العديد من طروحاتهما، اتصالات بين الجانبين خالفت نتيجتها ما كان متوقعاً، إذ أعلنت ماريشال في ختامها أن التحالف بدا متعذراً بين الطرفين.

اتفق اليسار الاشتراكي وحزب  ميلانشون على التحالف

لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، إذ فجّرت ماريشال في اليوم التالي مفاجأة تمثلت باعلان انفصالها عن حزب الاسترداد وتأييدها لـ"التجمع الوطني" ما حمل زيمور المعروف بفظاظته على اتهامها بالخيانة وبتغليب الروابط العائلية على المواقف السياسية، وانفرط بذلك عقد هذا الحزب الناشئ الذي حاز على 5.4 من الأصوات في الانتخابات الأوروبية.

اتفاق صعب لدى اليسار

على الطرف الآخر، وفي إطار مفاوضات عسيرة، تمكّن اليسار الاشتراكي بقيادة رافاييل غلوكسمان وحزب "فرنسا غير الخاضعة" بقيادة جان لوك ميلانشون، صاحب الشخصية المشاكسة والمثيرة للجدل، من الاتفاق على التحالف وخوض انتخابات فرنسا التشريعية المبكرة يدا بيد، في إطار ما أطلق عليه اسم "الجبهة الشعبية".

وأسفرت المفاوضات التي تواصلت على مدى أربعة أيام عن اتفاق على توزيع المقاعد بين مكونات الطرفين، وجاء هذا التوزيع على الشكل التالي: 175 مقعداً للاشتراكيين و50 مقعداً للحزب الشيوعي و229 مقعداً "لفرنسا غير الخاضعة" و92 للخضر، ليشارك اليسار موحداً في 546 دائرة انتخابية من أصل 577، علماً أن قانون انتخابات فرنسا أكثري يقوم على قاعدة الدائرة الفردية. كما تمّ التوافق على برنامج مشترك للحملة الانتخابية لـ"الجبهة الشعبية" اليسارية يتألف من 140 بنداً تتعلق بالمواضيع الداخلية والخارجية.

لكن صياغة هذا البرنامج لم تكن بالعملية السهلة، ولا تزيل الألغام التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار هذا التحالف، وفي مقدمتها الاتفاق على اسم رئيس الحكومة في حال فوز "الجبهة الشعبية" اليسارية في الانتخابات، وهو ما يوحي به تصريح غلوكسمان الذي اعتبر أن "وحدة اليسار ضرورية" وأنها السبيل الوحيد لقطع الطريق أمام فوز اليمين المتطرف، لكنه لفت إلى أن ميلانشون لن يكون رئيس الحكومة المقبل وأن المطلوب لهذا المنصب "شخصية توافقية" وتحظى بالإجماع.

والمعروف أن القوى اليسارية كانت قد اتحدت في أعقاب الانتخابات التشريعية في عام 2022، في إطار ما أطلق عليه اسم "التحالف الجديد الشعبي والاجتماعي" NUPES بهدف تشكيل كتلة برلمانية فاعلة، لكنه سرعان ما انهار تحت وطأة التباين في المواقف بين اليسار الاشتراكي واليسار الراديكالي (فرنسا الأبية). وبالتالي لو سلّمنا بأن الجبهة الجديدة ستصمد إلى حين انتخابات فرنسا المبكرة في 30 يونيو و7 يوليو، فليس هناك ما يضمن استمرارها لاحقاً، وعدم انفراط عقدها على غرار ما حصل في أعقاب انتخابات فرنسا التشريعية الماضية.

في غضون ذلك، يبدو السؤال الذي تصعب الإجابة عنه، هو ما سيؤول اليه مصير حزب النهضة الحاكم، عقب انتخابات فرنسا المبكرة التي أربكت أعضاء الحزب مثلما أربكت المسؤولين عنه، إذ إن العديد منهم يشكّكون في جدوى الرهان الخطر الذي أقدم عليه الرئيس إيمانويل ماكرون، عندما أعلن عن حلّ البرلمان. والمؤشرات المختلفة ترجح فوز اليمين المتطرف بغالبية نسبية إن لم تكن غالبية مطلقة في البرلمان الجديد، ومن غير الكافي، بنظر كثيرين في الوسط السياسي، الاحتكام إلى "ذكاء الفرنسيين" للحؤول "دون حصول الأسوأ"، وفقاً لما أكده ماكرون خلال مؤتمره الصحافي يوم الأربعاء الماضي.

تقارير دولية
التحديثات الحية