على الرغم من أن التاريخ الأميركي قلّما منح أي رئيس طعم احتفاظ حزبه بالسيطرة على الكونغرس في منتصف ولايته الأولى، إلا أن الكثير من الجدل والصخب السياسي والإعلامي يغلّف انتخابات التجديد للكونغرس هذا العام، والتي سيصوّت فيها الأميركيون اليوم الثلاثاء لتجديد جميع أعضاء مجلس النواب الـ435، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ المائة.
وبينما لم يتمكن سوى الرئيسين جورج بوش الابن، وقبله فرانكلين روزفلت، من احتفاظ حزبيهما بكلا المجلسين في التاريخ الحديث، إثر الانتخابات النصفية في ولايتيهما الأولى، واستعادة الجمهوريين للمرة الأولى منذ 40 عاماً السيطرة على مجلس النواب في منتصف ولاية الديمقراطي بيل كلينتون الأولى (1994)، تأخذ الانتخابات النصفية هذا العام، بعداً مختلفاً، لا سيما قياساً بحجم ما يرشح من تحذيرات، من طرف الديمقراطيين، من مغبّة الخسارة.
وإذ تشي أرقام الاستطلاعات بخسارة محتمة للحزب الديمقراطي في مجلس النواب، وإمكانية خسارته سيطرته على مجلس الشيوخ، حيث يتعادل الحزبان حالياً (الصوت الـ51 للديمقراطيين يعود لنائبة الرئيس كامالا هاريس)، يبدو كلّ ذلك انعكاساً لحجم الاستقطاب السياسي الذي بات مهيمناً في البلاد، واستفحال وتعمّق الانقسامات الأيديولوجية بين الحزبين.
ويزداد الاهتمام بهذا الاستحقاق، إذا ما أخذ بالاعتبار أنه الأول بعد رفض الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب، في 2020، الاعتراف بنزاهة انتخابات الرئاسة في 2020، وفوز جو بايدن بالرئاسة، وصولاً لاقتحام أنصاره في 6 يناير/كانون الثاني 2021، مقر الكونغرس، لمنع التصديق على فوز بايدن. كما ستكون نتائج الانتخابات، اختباراً لترامب، الذي لم يخف منذ اليوم الأول لخروجه من البيت الأبيض، رغبته في العودة إليه في 2024.
تحسم 4 ولايات سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ
ويمكن أن تعزز نتائج الانتخابات النصفية إذا كانت لصالح الجمهوريين موقفه وطموحه فيما تشكل أي خسارة تبدبداً لآماله، وهو ما يفسر ما كشفه موقع "أكسيوس"، قبل أيام، نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة، بأن الدائرة المقربة من ترامب تجري مشاورات بشأن اختيار 14 نوفمبر/ تشرين الثاني، أي بعد أسبوع على انتخابات التجديد النصفية، موعداً للإعلان عن إطلاق حملته للانتخابات الرئاسية المقررة في 2024.
كما أن الجهد الذي بذله الرئيس الأميركي السابق طيلة الفترة الماضية لضمان عودة مجلسي الشيوخ والنواب إلى الجمهوريين يبدو مرتبطاً أيضاً برغبته بالانتقام من الديمقراطيين، خصوصاً أن النتائج ستحدد مصير ما تبقى من ولاية بايدن، وفي حال صبّت لصالح الجمهوريين فإن من شأن ذلك أن يعقد المهمة.
ترامب ممر إلزامي لترشيحات الحزب الجمهوري
وتدل معظم ترشيحات الحزب الجمهوري لانتخابات اليوم، أنها مرّت عبر بوابة مقر ترامب في مارآلاغو في فلوريدا، أو حظيت بمباركته، ودعمه الذي تجلّى بالتجمعات الانتخابية الماراثونية التي شارك فيها لدعم المحظيين ببركته. هذا الاختبار لحظوظ ترامب بالرئاسة مجدداً، لا يُخفي أيضاً رغبته بالانتقام ممن يصفهم بـ"مطارديه" في الحزب الديمقراطي، بالإضافة إلى استمرار إثبات نفسه رقماً صعباً في معادلة الحزب الجمهوري، الذي لم يخرج بعد عامين من فلك الترامبية.
ويصعب التنبؤ اليوم بما إذا كانت "الفوضى" التي يحذّر منها الديمقراطيون، إذا ما خسروا الانتخابات، قد تحصل حقيقةً، لا سيما مع طمأنة جمهورية خرجت خلال اليومين الماضيين، لجهة اعتبار الانتخابات "تنبيهاً" للرئيس الديمقراطي، وأنهم إذا ما خسروا أو فازوا، سيقبلون بنتائج الاقتراع، بحسب ما أكدت رئيسة اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري رونا ماكدانيال، أول من أمس الأحد، لشبكة "سي أن أن".
لكن وجود 300 مرشّح جمهوري يُعدّون من فريق "رافضي الانتخابات"، أي الذين يعتبرون أن نتائج انتخابات 2020 الرئاسية مزورة، يضع النظام الانتخابي الأميركي، مرّة جديدة، بعد عامين، في دائرة من التشكيك، التي يعود معها الحديث عن "هشاشة" النظام الانتخابي الأميركي، ورغبة الفريق الجمهوري خصوصاً بتعديله.
كما تفضح الانتخابات المنتظرة، حجم التعديلات التي أدخلها الفريقان على قوانين النظام الانتخابي في الولايات، تماشياً مع المتغيرات الديمغرافية، وعرقلةً لتصويت الأقليات، بالإضافة إلى تشديد شروط التصويت بالبريد. ويفتح ذلك نافذة، ليس على ما يحذّر منه البعض من توجه أميركا إلى "حرب أهلية"، إذا ما استمر الاستقطاب بهذا المستوى، بل على قدرة الولايات على تعزيز لامركزيتها، مع بقاء ذات الانطباعات الشعبية على حالها، منذ 2020، لجهة ازدياد الشعور لدى الأميركيين بأن عطباً ما يصيب ديمقراطيتهم، وبقلة ثقتهم بالسلطة الفيدرالية، مع تشكيك جمهوري متزايد بنزاهة الانتخابات.
ويصوّت الأميركيون، اليوم، للتجديد لجميع مقاعد مجلس النواب، وثلث مقاعد مجلس الشيوخ، كما يختارون 36 حاكم ولاية وعدداً من المسؤولين المحليين. وتعّد انتخابات الكونغرس النصفية استفتاء على العامين الأولين من ولاية أي رئيس، ومن شأن خسارة الديمقراطيين المجلسين، تحويل العامين الأخيرين من ولاية بايدن الأولى، إلى ساحة حرب في الكونغرس، حيث يعتزم الفريق المحافظ وضع العصي في طريق ما تبقى من أجندة الرئيس السياسية والاقتصادية.
كما ترسم انتخابات اليوم، معالم معركة الرئاسة في 2024، حيث كان بايدن (يبلغ 80 عاماً هذا الشهر)، قد أبدى رغبته بالترشح مجدداً، فيما يواصل ترامب التلميح إلى رغبة مماثلة، علماً أن أسماء كثيرة في الحزب الجمهوري تتحضر أيضاً لطرح نفسها للمنصب.
موازين القوى في الكونغرس الجديد
ولا يخفي الجمهوريون ثقتهم باستعادة مجلس النواب، الذي يملك الديمقراطيون حالياً فيه 220 نائباً، والمحافظون 210، فضلاً عن 3 مقاعد شاغرة. ويتوعد حزب ترامب إذا ما فاز، بإطلاق تحقيقات حول أداء إدارة بايدن، بدءاً بعمل وزارة العدل وصولاً إلى الاستجابة لكورونا. وتوجه سيطرتهم على المجلسين ضربة قاتلة لما تبقى من أجندة بايدن قبل 2024، وسيقوّي فوزهم قدرتهم على الانقلاب على إنجازات تشريعية مرّرها الرئيس في العامين الأولين من عهده. كما أن سيطرتهم على الشيوخ، قد تعيق المصادقة على عدد من المسؤولين المعيّنين من قبل الإدارة الديمقراطية في القطاعين القضائي والتنفيذي. وستعود مع فوزهم، أولويات الديمقراطيين المتعلقة بمكافحة التغير المناخي وحق الإجهاض وتشديد الرقابة على حمل السلاح الفردي، إلى الأدراج.
وكان رئيس الأقلّية الجمهورية في مجلس النواب كيفن ماكارثي، قد كشف في سبتمبر/أيلول الماضي، النقاب عن خطة "الالتزام بأميركا"، والتي تتضمن مجموعة من السياسات الاقتصادية والحدودية التي ينوي حزبه طرحها في الأيام الأولى من عمل الكونغرس المقبل. ووقف إلى جانبه، حين الكشف عن خطته في بنسلفانيا، عدد كبير من المشرعين الجمهوريين الذين يعتبرون أوفياء لترامب.
وإذا ما تقدم أحد الحزبين في "الشيوخ" ولكن بفارق ضئيل، فإن ذلك قد يمنح بايدن هامش المناورة، عبر استجلاب أصوات جمهورية معتدلة لدعمه، خصوصاً إذا ما تلاءمت مشاريعه مع أجندتها في الولايات التي تمثّلها. بالإضافة إلى أن أي مشاريع تحتاج إلى توقيع الرئيس، ما سيجعل العمل في واشنطن محكوماً بعملية شاقة من التفاوض.
معظم المرشحين الجمهوريين موالون لترامب، ومؤيدون لادعاءاته خسارة الديمقراطيين المجلسين تهدد ما تبقى من ولاية بايدن
وتعني سيطرة الجمهوريين على المجلسين، أن "الشيوخ" سيمرّرون مشاريع جمهورية وصلتهم من النواب، كما سيسيطرون على اللجان البارزة في الكونغرس، التي تقوم بالاستجوابات وجلسات الاستماع، مع تساؤلات حول مصير لجنة التحقيق النيابية باقتحام الكونغرس، التي توعد المحافظون بحلّها والتي تتحضر لاستجواب ترامب.
وتشكّل عودة مجلسي الشيوخ والنواب، للجمهوريين، انتصاراً لترامب، الذي يحارب جهود الديمقراطيين لمحاسبته على اقتحام الكونغرس. ومعظم المشرعين أو أعضاء الكونغرس الذين يمنّون النفس بالبقاء في مقر الكابيتول، أو يترشحون لعضوية أحد المجلسين للمرة الأولى، هذا العام، هم أوفياء له، واتبعوا نموذجه في المواقف والسياسات العامة. ومن بين هؤلاء، من هم يعدون في الجناح اليميني المتطرف من الحزب، أمثال النائبة مارجوري تايلور غرين من جورجيا. وحتى الأسماء المحسوبة على جناح الاعتدال، لم تفتعل معظمها أي مشاكل مع الرئيس السابق، الذي واصل من جهته محاربة "المتمردين".
وتنقل ترامب مع اقتراب الانتخابات النصفية، بين الولايات، لدعم المرشحين الموالين له، أو الذين تحالف معهم، لا سيما في ولايات حاسمة، مثل بنسلفانيا وجورجيا وأريزونا ونيفادا. ويتقدم السيناتور الديمقراطي عن أريزونا، مارك كيلي، في الاستطلاعات، بفارق ضئيل عن منافسه بلايك ماستر، فيما تعد أريزونا ولاية رمادية، غير محسوبة على أي من الحزبين. كما تتعادل السيناتورة الديمقراطية كاثرين كورتيز ماستو، في نيفادا، مع منافسها الجمهوري آدام لاكزالت. وتتوقف آمال الديمقراطيين لإبقاء سيطرتهم على مجلس الشيوخ، على هذين السباقين، وسباقين آخرين في بنسلفانيا وجورجيا.
وفي جورجيا، تحتدم المعركة بين الديمقراطي من أصول أفريقية رافائيل وارنوك، والجمهوري نجم كرة القدم السابق هيرشيل والكر، المدعوم من ترامب، ولكن الذي تحيط به الفضائح الشخصية. وفي بنسلفانيا، يواجه الديمقراطي جون فيترمان، الذي ساء أداؤه بعد إصابته بجلطة، الطبيب محمد أوز، المدعوم من ترامب، لعضوية الشيوخ. وإذا ما خسر الديمقراطيون في اثنتين فقط من هذه الولايات الأربع، على أن تتوافق جميع نتائج الولايات الأخرى مع تطلعاتهم، فإن الجمهوريين سيربحون سباق الشيوخ.
وللدلالة على سطوة ترامب على الحزب، فإن المرشح محمد أوز عن بنسلفانيا، لم يحظ مثلاً بدعم جناح التيار الإنجيلي، داخل الحزب، بداية العام، قبيل الانتخابات التمهيدية للجمهوريين لاختيار مرشحيهم. ودعم وزير الخارجية في عهد ترامب، مايك بومبيو، المقرب من تيار الإنجيليين، المرشح حينها ديفيد ماكورميك، لكن مرشح ترامب هو من فاز بالتمهيديات. وجاء ذلك علماً أن اللجنة الجمهورية في الولاية رفضت إعلان دعمها لأي مرشح جمهوري، خشية ردّ فعل ترامب.
ويبدو هدف ترامب الأول، إعادة مجلسي الشيوخ والنواب إلى الجمهوريين، لكن الاستحقاق يختبر خصوصاً حظوظه للعودة إلى البيت الأبيض، والانتقام من الديمقراطيين. وبإمكانه في ذلك التعويل على أكثر من نصف الجمهوريين الذين يعتقدون أن انتخابات 2020 سرقت منه. ويخدم الاستقطاب السياسي الحاد، والأجواء المشحونة بين الحزبين، أهدافه، وكذلك استلهام وجوه حزبه من ظاهرته. ومهما حصل فإن ترامب مدرك لقدرة ظاهرته على الاستمرار، مع تحول حزبه إلى "المحافظة القومية والاقتصادية"، والتعويل على الغضب المتنامي لدى شريحة كبيرة من الأميركيين.
في غضون ذلك، تبدو المفارقة أكثر وضوحاً لدى الديمقراطيين، وأكثر إثارة للتعجب، مع رئيس تمكن من تمرير عدد كبير من المشاريع، في فترة عامين، تمس مباشرة مشاغل الأميركيين، فيما ظلّت شعبيته تضمحل أكثر يوماً بعد يوم، مع اقتراب الانتخابات. وكان بايدن قد تجنب بداية، المشاركة في التجمعات الانتخابية، خصوصاً بسبب هذا التراجع، واكتفى أخيراً، مستعيناً بالرئيس الأسبق باراك أوباما، بالتوجه إلى الولايات الزرقاء.
وكان بايدن قد تمكن من تمرير حزمة المشاريع (منها خطتا الإنقاذ والبنى التحتية) في ظرف قياسي، لكن نسبة التضخم المرتفعة التي سجّلتها الولايات المتحدة أخيراً، ضربت هذه الإنجازات، فيما ينشغل الأميركيون بتقلص مدخراتهم وتكاليف المعيشية التي تزداد غلاءً، لا سيما مع ارتفاع أسعار النفط. وسعى الديمقراطيون في حملاتهم، إلى تجنب الإشارة إلى الوضع الاقتصادي، وسط اتهام جمهوري لهم بعدم قراءة الأرقام جيّداً لدى تمرير مشاريع الرئيس، واضعين اللوم عليها في زيادة الإنفاق. لكن الانكماش ونسبة التضخم، يعودان خصوصاً إلى تداعيات كورونا، وتضرر سلاسل الإمداد العالمية جرّاء تبعات الحرب الروسية المتواصلة على أوكرانيا.
في هذه الأجواء، تبدو المعركة اليوم، اختباراً حقيقياً للديمقراطية الأميركية، حيث بات الحديث عن "هشاشة" في النظام الانتخابي الأميركي، مفهوماً. إلا أن استمرار دوران الحياة السياسية الأميركية في فلك ترامب، يكسبها مزيداً من الاهتمام، علماً أنها اختبار جمهوري أيضاً بكل المقاييس.