يرى محللون ومتابعون في روما، أن الانتخابات الإيطالية، المقررة اليوم الأحد، مصيرية وتاريخية. فهذه المرة الأولى التي تقتحم فيها إمرأة "عرين" رجال السياسة الإيطالية للمنافسة على منصب رئاسة الحكومة.
وتفيد الاستطلاعات، منذ تزايد حماوة أجواء الحملات الانتخابية، بأن روما على موعد مع "اكتساح" حزب "إخوة إيطاليا" للبرلمان، بزعامة السياسية المثيرة للجدل في تاريخها الفاشي، جيورجيا ميلوني، بما لا يقل عن 25 إلى 27 في المائة من الأصوات.
وليس الإيطاليون وحدهم من سينتظرون نتائج التصويت، فالبلد الصناعي الهام على مستوى أوروبا يُقلق القارة في أصعب أوقاتها منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، خصوصاً في ظل العلاقة المتوترة مع روسيا، على خلفية غزو أوكرانيا.
انتخابات تاريخية في إيطاليا
وصْف انتخابات 2022 على أنها تاريخية لا يستند فقط إلى أن سيدة تقدم نفسها بخطاب قومي متشدد كمنقذة للبلد من مشاكل غياب الاستقرار السياسي، بل لأن حزبها المرشح للفوز والتربع على قائمة "أكبر الأحزاب" البرلمانية لا يثير فقط زوابع عن شبح الفاشية لدى قادته وكتلة وازنة من ناخبيه، بل لأنه يمثل سابقة تعبّد الطريق أمام الأحزاب الاحتجاجية المتطرفة على مستوى الاتحاد الأوروبي للوصول إلى السلطة، أو تعقّد مشهد معسكر "الوسط" في الحياة السياسية - الحزبية في دول الاتحاد.
ومنذ الانتخابات السابقة في عام 2018 اندفع معسكر اليمين المتشدد في إيطاليا نحو الاستفادة من ثقافة شعبية تعتمد في الحياة السياسية على "الفرد المخلص"، كأحد وجوه أزمة الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فمالت ميلوني، التي تقود حزبها الذي تشكل في 2012، نحو الانتظار قبل الانقضاض على مشاعر الشعب.
وإذا ما أخذنا نتائج الاستطلاعات في الشارع الإيطالي، وفقاً لما هو منشور في وسائل الإعلام والصحافة في روما، وبينها "لا ريبوبليكا"، يظهر تراجع زعيم حزب "ليغا" (الرابطة) اليميني المتشدد، ماتيو سالفيني، في السباق للوصول إلى منصب رئاسة الحكومة.
وفي مقابل تقدم "إخوة إيطاليا"، المتهم ضمناً بنشأته الفاشية، بنحو 22 في المائة عن عام 2018 وفقاً للاستطلاعات، تراجع "ليغا" نحو 6 في المائة عن الانتخابات الماضية. مع العلم أن "ليغا" راهن على تطرفه القومي وخطابه الشعبوي للوصول إلى الحكم، تحديداً من خلال إجراء اتفاقات ضمنية مع حزب "فورزا إيطاليا"، بزعامة سيلفيو بيرلوسكوني، الذي بقي على هامش السياسة لنحو 10 سنوات بفضل حكم قضائي.
الآن تغيرت المعادلات مع تهميش "فورزا إيطاليا" وبيرلوسكوني، الذي وضعته الاستطلاعات في المرتبة الخامسة بمعدلات تتراوح بين 6 و9 في المائة. أما الحزب الشعبوي، "النجوم الخمس"، المتحول إلى الوسط مع لويجي دي مايو، فليس أفضل حالاً، بل تراجع من نحو 32 في المائة في عام 2018 إلى حوالي 13 في المائة في الاستطلاعات الأخيرة.
معسكر اليسار ويسار الوسط فشل في توحيد جهوده لمواجهة انقساماته
وفي حال ظلّت الأرقام على ما هي عليه وحسم المترددون أمرهم، فمن الطبيعي أن يطالب "إخوة إيطاليا"، كأكبر الأحزاب البرلمانية، بمنح ميلوني فرصة إجراء مشاورات لتشكيل حكومتها.
وطريقها يبدو ممهداً في ظلّ التوقعات بحصول معسكر اليمين، بأحزابه الثلاثة "إخوة إيطاليا" و"فورزا إيطاليا" و"ليغا"، على أرقام تتراوح بين 44 و48 في المائة.
واللافت أن حملات اليسار ويسار الوسط اعتمدت التخويف والتحذير من وصول المتطرفين إلى الحكم، محاولة مخاطبة الطبقات العمالية الفقيرة في جنوب البلد، الذي أظهرت دراسات أخيرة أنه يميل للتصويت للفاشيين بعد اختراق هام حققوه هناك.
وعلى الرغم من أن "الحزب الديمقراطي" لا يبدو متراجعاً في الاستطلاعات، التي تمنحه بين 21 و22 في المائة، إلا أن معسكر اليسار ويسار الوسط فشل في توحيد جهوده لمواجهة انقساماته، وتذهب نسبة تقترب من 23 في المائة من الأصوات إلى "أحزاب أخرى"، بما فيها الشيوعي وبعض اليسار، من دون توافق انتخابي.
وانتبه معسكر اليسار متأخراً إلى أن فعالياته، سواء في سردينيا وروما أو معظم مدن الجنوب، لم تستقطب الجماهير، على الرغم من رفع شعارات مثل: "ليسقط الفاشيون. يسقط اليمين المتطرف"، إذ شارك في بعض التجمعات نحو 50 شخصاً فقط، كما حصل في تظاهرة شهدتها العاصمة الإيطالية، الأحد الماضي.
وفي هذا التحول مؤشر إلى أن اليمين المتطرف استطاع اختراق الشارع الإيطالي، ويستغل مشاعر التذمر والاحتجاج على الطبقة السياسية التقليدية.
ويعكس تراجع قوة يسار الوسط في الشارع الأزمة العامة التي تواجهها معظم تشكيلاته، بفعل نشوب صراعات داخلية كثيرة ومعقدة أدت إلى انقسام كبير، على الرغم من التحذير من وصول الفاشية إلى السلطة، واعتبار ميلوني وحزبها "كارثة على البلاد".
وعملياً، يعني انقسام هذا المعسكر، الذي كان لعقود خلت يكتسح صناديق الاقتراع حتى أن الحزب الشيوعي الإيطالي حصل في السبعينيات على ربع الأصوات، أنه أصبح متأخراً عن تحالف اليمين بأكثر من 20 في المائة.
وحتى أن التحالف بعد الانتخابات مع "النجوم الخمس" لن يسعف يسار الوسط. وكانت رئيسة مركز السياسة الإيطالية في "كينغز كوليدج لندن" لايلا سيمونا تالاني اعتبرت في تصريحات صحافية الأسبوع الماضي، أن "الحزب الديمقراطي" ارتكب خطأً جسيماً بعدم تحالفه مبكراً مع "النجوم الخمس"، معتبرة أنها "كانت حقاً الفرصة الوحيدة لتكون قادراً على تحدي اليمين".
وكانت قوى يسارية تقليدية اتهمت "الحزب الديمقراطي" بأنه لم يعد يسارياً، وإن احتُسب على "الاجتماعيين الديمقراطيين"، وهو ما أصاب رئيس الوزراء الأسبق، إنريكو ليتا، بالإحباط، في ظلّ شعوره بأن الحكومة الإيطالية المقبلة ستكون بقيادة "إخوة إيطاليا".
واعتبر ليتا، المنتمي إلى "الحزب الديمقراطي"، أن ذلك "سيُشكّل خطراً كبيراً على إيطاليا وأوروبا". ومع أنه حذّر أوروبا من أن بلده يتجه إلى أن يصبح كالمجر في عهدة رئيس حكومتها المتشدد، فيكتور أوربان، إلا أن ليتا يدرك أن النادي الأوروبي لا يستطيع تغيير مزاج الشارع الإيطالي، خصوصاً 22 في المائة من الناخبين الجدد قد يعطون أصواتهم لمصلحة ميلوني، كما أن التهديدات لا تفيد كثيراً، كما ظهر مع حكومتي المجر وبولندا، المتهمتين بالاتجاه عكس القيم والديمقراطية الأوروبية.
حذّرت أوساط متخصصة بمراقبة السلوك الروسي ومحاولاته التأثير على نتائج انتخابات
مواقف اليمين المتشدد
ورفع معسكر اليمين المتطرف سقف مواقفه بما يتعلق بسياسات الهجرة ووقف اللجوء، تحديداً موجات اللجوء بحراً من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، مع التقاء ميلوني وبيرلوسكوني وسالفيني على نقطة متشددة حيال هذا الملف.
لكن ميلوني أخذت المعركة الانتخابية إلى مستوى جديد، مع ترداد تحذيراتها للطبقات الفقيرة من أن "قيم الأسرة الإيطالية المسيحية مهددة". ولم تفوّت ميلوني، مع باقي أركان الائتلاف اليميني، فرصة إلا وهاجموا فيها الحركة النسوية.
وتوجّهت ميلوني في خطابها الشعبوي إلى المجتمع الكاثوليكي، المتمسك بالنظرة التقليدية لقيم الأسرة، معتبرة أن "المنظمات النسوية والنشطاء والمثليين ومجتمع الميم عموماً يحاربون قيم الأسرة المسيحية"، وتعهدت مع حزبها بتقييد حق الإجهاض، واستهدافه بداية بتحمّل المرأة لتكاليفه بنفسها.
وبالتالي، إن علاقة اليمين المتطرف بحقوق المرأة والأيديولوجية الجندرية، ووعوده بعدم تطبيق القوانين الأوروبية لحماية النساء من التمييز، يدفع بنساء كثيرات للابتعاد عن التصويت لها، لكن ميلوني في المقابل تجتذب أصوات الذكور، الذين يتفقون مع فكرة العودة إلى المجتمع الذكوري وأن دور المرأة "أهم كأم وربة منزل".
ويبدو الأمر في روما معاكساً تماماً لما هو عليه في دول الشمال الأوروبي على سبيل المثال، ففيها يبدو أن القوى والأحزاب التي تؤيد حقوق النساء يقودها رجال فيما الحزب الذي تقوده سيدة في إيطاليا، متطرف في معارضة تلك الحقوق. وتعاني إيطاليا بالفعل من تراجع نسبة النساء الملتحقات بسوق العمل، إذ تصل نسبتهن إلى 49 في المائة فقط، وهي أقل نسبة أوروبية.
ولا يتعلق فقط بحملات انتخابية بل بما تعتنقه ميلوني والجناح الفاشي في حزبها من شعارات تعتبر أن النسوية "إهانة لإيطاليا"، وتقدم نفسها على أنها مدافعة بشراسة عن "القيم الأبوية"، مع العلم أنها أم عزباء.
كما تدعو ميلوني، مثل بقية أطراف اليمين القومي المتشدد، إلى "زيادة الخصوبة" في الأسر الإيطالية، مع تحول المجتمع نحو شيخوخة تحتاج إلى قلب المنحنى في الولادات. لكن المعسكر اليميني مهدد بالانقسام وعدم تحول الائتلاف الانتخابي إلى واقع حكومي، لأن الكيمياء لا تجمع ميلوني بسالفيني وبيرلوسكوني.
أما بالنسبة إلى المواقف من روسيا، وعلى الرغم من الشكوك التي أثيرت عن علاقة ميلوني والفاشيين بالحلقة الضيقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن زعيمة "إخوة إيطاليا" نفت ذلك، بل تعهدت بالاستمرار بدعم سياسات حلف الأطلسي بوجه الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن سالفيني وبيرلوسكوني يقفان في نقطة أقرب إلى روسيا من أوروبا.
وأثار سالفيني أخيراً معارضته للعقوبات الأوروبية على موسكو، معتبراً أنها تؤدي "إلى إركاعنا قبل ركوع روسيا"، كما أنه ليس خفياً أن لبيرلوسكوني علاقات جيدة مع بوتين.
ولا يسعى بيرلوسكوني إلى التنصل من تهمة تأييد بوتين، وقال في هذا السياق، مساء الخميس، إن الرئيس الروسي "دُفع" إلى الحرب في أوكرانيا لتنصيب حكومة جديدة في كييف. وقال بيرلسكوني إن "بوتين دفعه الشعب الروسي وحزبه ووزراؤه لاختراع هذه العملية الخاصة".
المعسكر اليميني مهدد بالانقسام وعدم تحول الائتلاف الانتخابي إلى واقع حكومي
وإذا أضيفت أزمة الغاز والكهرباء والتضخم في روما، وميل أكثر من 40 في المائة من الإيطاليين إلى إلغاء العقوبات على روسيا، فلا يُستبعد أن يفتح ذلك الباب أمام خلافات أوروبية - إيطالية، قد تعقد الساحة الداخلية أكثر.
وتقف آليات صرف نحو 200 مليار يورو كحزمة تعاف من وباء كورونا مقدمة من أوروبا لإيطاليا كأحد عناوين الأزمة القادمة، على وقع تأكيد اليمين المتشدد، وعلى رأسهم سالفيني، معارضتهم لمطالب أوروبا واعداً باستدانة نحو 30 مليار يورو خلال شهرين من الانتخابات، لتعويض الأسر الإيطالية والشركات الصغيرة بسبب الغلاء وارتفاع أسعار الطاقة.
احتمالات التدخل الروسي
وغير بعيد عن مجريات العملية الانتخابية والعامل الروسي فيها، حذّرت أوساط متخصصة بمراقبة السلوك الروسي ومحاولاته التأثير على نتائج انتخابات اليوم.
وبعد ساعات على تصريحات لوزير الطاقة الإيطالي روبرتو سينغولاني، في 6 سبتمبر/أيلول الحالي، تصبّ في خانة التغلب على مصاعب الشتاء من دون الغاز الروسي، خرجت وعلى غير العادة المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا معلقة: "سيعاني الإيطاليون بسبب إملاء من بروكسل (والتي بدورها تعمل) بناءً على أوامر من واشنطن".
وحمّلت المسؤولة الروسية ما سمته "ساسة فاسدين في روما" مسؤولية ما يعانيه الإيطاليون، وأن هناك مؤامرة أميركية على الاقتصاد واعتبار أن "الشعب الإيطالي محتجز كرهينة ويتم الضغط عليه للانتحار الاقتصادي من أجل تنفيذ عقوبات غربية مجنونة (ضد روسيا).
ووضعت صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية كلام زاخاروفا في سياق "المحاولات الروسية للتأثير على النتائج الانتخابية". ومثلها ذهبت صحيفة "لا ريبوبليكا"، التي نقلت انزعاجاً رسمياً في روما من التدخلات الروسية.
مع ذلك، تُعتبر هذه الانتخابات تاريخية على مستوى انخراط أحزاب التطرف اليميني، التي كانت تحسب على أنها أحزاب "العشرين في المائة" ومن دون نفوذ، إلى أن تصبح مرشحة لقيادة إيطاليا، الدولة الصناعية الثالثة في أوروبا (بعد ألمانيا وفرنسا)، وهو ما يُرعب الأوروبيين، من اتساع المعسكر اليميني المتشدد، الذي يضمّ أصلاً المجر وبولندا وتشيكيا وبلغاريا.
ويتكون البرلمان الإيطالي من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ. وبعد إقرار التعديلات الدستورية في عام 2020، انخفض عدد النواب من 630 نائباً إلى 400، وعدد أعضاء مجلس الشيوخ من 321 إلى 200 عضو.
ويتم انتخاب 147 نائباً في الدوائر الفردية، و245 ضمن قوائم حزبية، و8 نواب في الخارج. ويُنتخب 74 شيخاً في الدوائر الفردية، و122 عن طريق التمثيل النسبي على أساس الأقاليم، و4 في الخارج. وتجري الانتخابات كل 5 سنوات في العادة، إلا أن انتخابات تحصل بعد انهيار حكومة التكنوقراطي ماريو دراغي في يوليو/تموز الماضي.