يصعب تخيّل أن الجنازة التي حظيت بها الملكة إليزابيث الثانية تعود خطّتها لأكثر من عقد من الزمن. من جهة، يبدو المشهد هارباً من قرنٍ ماضٍ، بألوانه وقبّعاته وسيوفه ومتاريسه. عرباتٌ تجرّها الأحصنة، فرسانٌ مدججون بعتادهم، ورائحة الخيول تملأ المكان، أصوات المدافع تزلزل البلد الآمن، ودقيقة صمت تشلّ الحركة في الأرجاء وترخي صمتاً فالتاً من إيقاع الحياة في القرن الواحد والعشرين.
ملوك وأمراء العائلة المالكة يمشون وراء النعش بخطى ثابتة ومدروسة مسبقاً، وقد أجروا الكثير من التدريبات كي لا يتجاوز أحدهم الآخر، وكأنهم ظلال لبعضهم بعضا، أو انعكاسٌ للملكة الراحلة التي قد تكون الملكة الأخيرة في المدى المنظور.
ومن جهة أخرى، يبدو المشهد أحدث من الخطة التي مضى عليها أكثر من عقد؛ إذ إن الرئيس الروسي لم يكن عند التحضير للخطة محروماً من المشاركة، وكذا نظيره السوري والإيراني والبيلاروسي، كما أن المعاني التي ينطوي عليها وجود الرئيس الأميركي في القاعة ذاتها مع نائب الرئيس الصيني، لم تكن بالثقل الذي هي عليه اليوم، ولم يكن حضور الأمير هاري للجنازة وسيره جنباً إلى جنب أخيه الأمير وليام، حدثاً استثنائياً أو مفاجئاً. أما الرئيس الفرنسي فلم يكن حينها مثار سخرية الكثير من السياسيين البريطانيين والعكس صحيح.
ولم تكن القاعة التي تضمّ 2000 شخص مقدراً لها أن تضمّ أشخاصاً تفرّقهم الضغينة والاختلاف أكثر مما يجمعهم المبدأ والموقف، كما لم تتضمن الخطة ملايين البريطانيين الخائفين من البرد والجوع بينما رئيس الحكومة يتعارك مع أعضاء حزبه قبل معارضيه. أما أيرلندا الشمالية، فلم تتشوق للاستقلال أكثر من أي وقت مضى، وكذا العديد من دول الكومنولث التي لم تكن تتشوق إلى المضي إلى مصيرها بمعزل عن التاج كما الآن.
مع ذلك كله، فقد نُفّذت الخطة بحذافيرها قدر الإمكان، كما ودّعت الملكة قصورها وشعبها كما كانت تشتهي، محاطة بعائلتها، وبمعظم قادة العالم على اختلاف جنسياتهم وانتماءاتهم ومواقفهم، كأنهم في استراحة من مصائب العالم ومن مصائبهم الشخصية، في هدنة لن تستمر طويلاً ربما، فتلك الهدنة التي أمضى لحظاتها رئيس الحكومة اللبنانية لتصريف الأعمال نجيب ميقاتي لن تنعكس برداً وسلاماً على ملايين اللبنانيين العالقين في أزمات متتالية وفي وجع غير مسبوق. كذلك هي هدنة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع رئيسة الحكومة الجديدة ليز تراس والصراع حول بروتوكول أيرلندا الشمالية. ولن تستمر الهدنة بين الأمير هاري وزوجته ميغان من جهة، والعائلة المالكة من جهة أخرى، إلا لحين انتهاء المراسم، كذلك الأمر مع مشاركة زعيمة حزب "شين فين" ميشيل أونيل في جنازة اليوم، ومع ملفّات أخرى عالقة، لن تمنحها اللحظات الهاربة من التاريخ سوى بضعة أنفاس مؤقتة حتى تعود إلى سابق عهدها مع انتهاء المراسم وعودة الكل إلى منازلهم.
شاركت كل الوحدات العسكرية في الجنازة، من ضمنها أكثر من 4000 عسكري شاركوا في العرض الملكي المرافق للنعش، إذ كان الحرس السيادي المكوّن من 98 بحّاراً مكلّفاً بجرّ العربة التي تحمل النعش إلى كنيسة ويستمينستر هذا الصباح، بينما تقدّمته القوات الجوية الملكية و200 من عازفي المزامير والطبول من الأفواج الاسكتلندية والأيرلندية، وشارك 847 فرداً من البحرية الملكية و4416 من الجيش البريطاني و686 من سلاح الجو الملكي، إضافة إلى قوات مسلحة لدول الكومنولث.
بينما اجتمع قادة العالم في الكنيسة كمواطنين عاديين، لا مرافقة تحيط بهم ولا علم يشير إلى جنسياتهم ولا عدسات الكاميرات نصبت من أجلهم. وحده الرئيس الأميركي جو بايدن أعفي من القواعد الصارمة التي فرضها مكتب الشؤون الخارجية والكومنولث والتنمية، ووصل إلى المكان مع جوقة من المرافقة والحراسة الأمنية؛ بينما جُرّد باقي الرؤساء والمسؤولين من مرافقيهم وسياراتهم الخاصة، حتى أنهم وقفوا في رتل طويل وبطيء في انتظار الوصول إلى الأماكن المخصّصة لهم. إنه رتل أخير وختامي للأرتال التي طوّقت وسط مدينة لندن خلال الأيام الخمسة الماضية.
ولم يكن الرتل مجرّد مئات الآلاف من الأشخاص الذين تجمّعوا بعتادهم واصلين الليل بالنهار في انتظار بلوغ النعش، بل كان رمزاً من رموز بريطانيا وثقافتها وجزءاً أساسياً من إيقاع الحياة ومن نظامها.
ولعل انتقاد الملكة أو الملكية قد يثير غضب بعض المسؤولين في وزارة الداخلية، لكن تجاوز دورك في الرتل أمرٌ يثير غضب الملايين. فلم تحظَ أي شخصية عامة باستثناء، ولم يُسمح لأحد بتجاوز الرتل البريطاني الشهير، حتى لاعب كرة القدم الشهير ديفيد بيكهام وقف منتظراً بلوغ النعش 12 ساعة مثله مثل باقي المنتظرين، وهو الذي كان من شأنه أن يتجاوز للدخول إلى صالة سينما أو مسرح أو بوابة طائرة، لكن الرتل هذا مختلف ورمزيته تكمن في فكرة المساواة في الحزن على الملكة وفي الحداد عليها وفي مشقّة الانتظار تحت المطر وفي تقاسم هذه اللحظة التاريخية.
لقد كان التحايل مقتصراً فقط على ابتداع أساليب لتسهيل عملية الانتظار الطويل، كالمجيء مع كرسي متحرّك أو مع خيمة صغيرة متنقّلة، كالتسلّح بأدوات البقاء من ماء وخبز وقهوة وسكّريات أو ربما شراء سلّم من متجر قريب لاعتلائه خلف حشود البشر وإلقاء نظرة على النعش وهو يسير بعيداً، وهذا ما فعله رجل مسنّ في محاولة لالتقاط لحظة أخيرة مع الملكة.
انتهت حقبة من تاريخ بريطانيا مع رحيل الملكة، وطويت صفحة برحيلها وصفحة أخرى تزامناً مع رحيلها. لم يعد باستطاعة الملك تشارلز الثالث اختراع الحيادية التي وسمت حكمها الطويل، وهو الذي باتت مواقفه من كل القضايا والملفّات واضحة، كما ليس في وسعه تجسيد الاستمرارية المطمئنة التي جسّدتها، ولا الهوية المشتركة المثالية.
مئات آلاف البريطانيين الذين خرجوا إلى الشوارع لوداع ملكتهم خرجوا أيضاً لوداع تلك الاستمرارية وتلك الحقبة التي طويت، ليغرفوا قدر المستطاع من طمأنينة هشّة، عسى أن تعينهم في تحمّل شتاء قيل إنه سيكون الأقسى والأكثر قتامة على المملكة.