شكلت شعارات الحرية والعدالة تاريخياً نقطة جذب نحو اليسار العربي، وبعضه في "الكفاح الثوري"، حين التقى مع القومي والإسلامي، كما على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، وغيرها.
ومنذ تفجر الثورات الشعبية العربية من تونس (ديسمبر/كانون الأول 2010)، أهدر اليسار التقليدي فرصه المتتالية، بارتباك وتناقض وترهل. وقدمت الثورة السورية في أشهرها الأولى (2011) إحدى أفضل الفرص التي هُدرت، باستثناءات بسيطة.
فمتلازمة التأتأة بمواجهة الاستبداد، باسم منع "المؤامرة" و"سقوط الدولة"، قدمت أفضل كشف لأزمات بعض اليسار العربي التقليدي، بل لكوارث تحوله إلى أدوات تجميل الاستبداد وخداع الجماهير، كما في جبهة حزب "البعث" السوري "التقدمية"، والغرق المعدي عربياً في سجالات عقيمة وطفولية حول خروج الجماهير من المساجد و"عدم نضوج ظروف الثورة". ذلك، وغيره كثير، جعله تيارا متراجعا إلى ما دون يسار الوسط في أوروبا.
وبدل استغلال فرص المراجعات وإعادة التقييم، ظل التخندق وراء ثنائية الندب من "تدين الشارع" و"المؤامرة الإمبريالية"، لازمة لتيار تقليدي مترهل ومتعامٍ عن استحضار الأنظمة "التقدمية"، وبالأخص في دمشق والقاهرة. وإذا كانت فلسطين، كقضية جامعة للجماهير من المحيط إلى الخليج، قدمت لليسار التقليدي العربي لسنوات فرصا متكررة، لمجاراة يسار أوروبي وأميركي، أقله في مواجهة انحرافات التصهين، وفضح كذبة "الاحتفاظ بحق الرد"، لاستعادة بعض مكانة تتداعى، إلا أن بعضه غرق في جدل الإفلاس. وهو ما تكشفه وقائع التصدي لما يسمى "التطبيع"، من ثقب الخطابة التقليدية عن "الرجعية"، كنكاية ومناكفة.
في دمشق جرى لسنوات، بمعرفة أقطاب اليسار، استدعاء عصابات مرتزقة مذهبيين ظلاميين برعاية إيرانية، وأخرى فاشية أوروبية، برعاية أوليغارشيي موسكو. ورغم ذلك ظل الدفاع عن الاستبداد ناظماً، في النظرية والممارسة، وهو ما جعل كثيرين يهجرون عضوية تلك التيارات، سورية كانت أم فلسطينية، ممن اعتبرت شاشات نظام الأسد مقراتها، وليس الشارع والجماهير، تجميلاً لقبح الطغيان، تارة باسم "علمانيته" وأخرى باسم "فلسطين والمقاومة". السؤال عن "اليسار العربي" ليس ترفاً، في سياق حالة عربية باحثة عن "تعددية" والتقاء برامج الحد الأدنى، للانتقال من الاستبداد والتخلف إلى ما يشبه وضعا طبيعيا عند أمم أخرى، بعيداً عن مرض طفولي مستشرٍ عند الديكتاتوريات وبدائلها.