تستعد الفصائل الفلسطينية للاحتفاء بـ "عرسها الديمقراطي"، بعد الاتفاق على إجراء انتخابات عامّة بالتتالي، تبدأ بالمجلس التشريعي في شهر مايو/أيّار القادم، ومن ثمّ رئاسة السلطة في شهر تموز، لتنتهي بانتخابات المجلس الوطني في آب. جهابذة العمل السياسي المعتكفون في صومعات اللجان المركزيّة يعتبرون هذا الاتّفاق "مكسبا وطنيا" من شأنه إنهاء حالة الانقسام، واستعادة "الديمقراطية" التي تجمدت بعد انتخابات عامي 2005 و2006.
بعيدا عن غياب العلاقة السببيّة بين الانتخابات و"المصالحة"، بدليل أن الانقسام يمكن اعتباره من نتائج وتداعيات الانتخابات السابقة، تكمن المغالطة الكبرى في اعتبار أن مفهوم الوحدة الوطنيّة يعني بالضرورة اتّفاق "القادة" الذين تبوّؤوا مناصبهم في غزّة ورام الله، بصرف النظر عن خيار الشارع الفلسطيني، والأولويّات الحتميّة التي تفرضها طبيعة القضيّة الفلسطينيّة، وجوهر الصراع مع المشروع الصهيوني.
لا يمكن لأيّة "وحدة" أن تكون "وطنيّة" بالمعنى الحقيقيّ للمفردة ما لم تكن وحدة شعبيّة قبل أيّ شيء آخر.. وفي الحالة الفلسطينيّة تحديدا فإن الوحدة التي تفرض ضرورتها في كافّة تفاصيل حياة الناس اليوميّة، بل وأحلامهم المستقبليّة، هي ثوريّة بطبيعتها، مناقضة بالمطلق لماهيّة مشروع الاحتلال، ووجوده المحض.
تحرير أم دولة؟
بداية، إن مجرّد الحديث عن انتخابات "ديمقراطيّة" تحت ظلّ احتلال ما زال جاثما على الأرض ومستمرا بلا هوادة في مشروعه التوسّعي، هو أكثر ضروب العبث انحرافا عن أبجديّات المنطق البسيط. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تعني إقامة سلطة فلسطينيّة "موحّدة"، أو حتّى دولة فلسطينيّة، بالضرورة تحرير فلسطين؟
الانحراف عن جوهر القضيّة الفلسطينيّة لم يبدأ– بصراحة- بإبرام اتفاقيّة أوسلو المشؤومة، بل تمتدّ جذور هذا الانحراف إلى لعنة العام 1974، المتمثلة في برنامج "النقاط العشر" وتأويلات "الحل المرحلي"، التي أفضت اليوم إلى سلطويّة برجوازيّة يتجسّد دورها المركزيّ في التنسيق الأمني مع الاحتلال، ومحاربة أيّة حالة ثوريّة محتملة!
قد يكون من المفيد تذكير جلاوزة الكهنوت الفصائلي بأبجديّات يدركها أطفال فلسطين.. التحرير يعني القضاء على المشروع الصهيوني، وعودة اللاجئين والنازحين إلى كلّ مدن وقرى أرض فلسطين المحتلّة الممتدّة من البحر الأبيض المتوسّط إلى نهر الأردن.. وهذا أمر يختلف تماما عن الرقص على حبال اللعبة الديمقراطيّة بين حواجز الاحتلال العسكريّة، أو التصفيق لخطبة "عصماء" تحت قبّة "البرلمان"!
اتّفاق حركتي فتح وحماس، وبقيّة الفصائل الفلسطينيّة، على المضي في هذه اللعبة "الديمقراطيّة"، والإصرار على التمسّك بـ "سلطة" وهميّة تحت نير الاحتلال الصهيوني، يعني ببساطة اختزال هدف التحرير بوهم الدولة.. البساط الأحمر، وحرس الشرف، ومراسم الاستقبال شيء، والنضال من أجل تحرير الأرض والإنسان شيء مختلف تماما.. ولكن المفاهيم اختلطت ربّما على "المدافعين عن القضيّة" الذين يسعون إلى تقزيمها لتناسب مقاسهم!
سلطة تحت ظلّ الاحتلال.. وانتخابات تهدف لتقاسم المناصب في صراع "سلمي" على "شرعيّة" ما، ليكبر هذا أو ذاك في نظر ما يسمّى بـ "المجتمع الدولي"، ويكون "أهلا" للتفاوض مع احتلال يعلن دوما أن القدس "عاصمته" الأبديّة، وأنّه ماض في مشروعه لـ "استعادة يهوذا والسامراء"..
هذه هي باختصار ماهيّة اللعبة السمجة التي تحاول البرجوازيّة فرضها على الفصائل وعلى المشهد السياسي الفلسطيني!
تفسخ البرجوازيّة الوطنيّة
صحيح أن البرجوازيّة الفلسطينيّة كانت– في بدايات مراحل النضال التحرّري الوطني- صاحبة مصلحة في دعم المشروع الكفاحي الفلسطيني، بل وتبنّيه.. ولكن الواقع اليوم مختلف تماما، فالحديث عن وجود برجوازيّة وطنيّة فلسطينيّة– كطبقة- قد يكون صالحا لنسج حكاية خرافيّة لا صلة لها بأرض الواقع.. البرجوازيّة كطبقة اجتماعيّة في فلسطين، باتت مرتبطة تماما بالاحتلال الصهيوني، ومصالحها تتناقض تماما مع زوال هذا الاحتلال.. ولنا في "استثمار" رأس المال الفلسطيني في جدار العزل العنصري خير مثال على ذلك!
الجماهير، والفئات الشعبيّة المضطهدة في الضفّة الغربيّة، وقطاع غزّة، والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ العام 1948، هي صاحبة المصلحة الحقيقيّة في هزيمة المشروع الصهيوني، وبالتالي تحرير فلسطين بالمعنى الحقيقيّ للمصطلح.. أمّا تلك الطبقة– التي كانت يوما ما برجوازيّة وطنيّة- فقد تحوّلت منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي إلى موقع الشراكة الاستراتيجيّة مع المشروع الإمبريالي، الذي تعتبر الصهيونيّة مجرّد جزء منه.
تفسّخ هذه الطبقة، وتحوّلها من خندق الشعب، إلى قاعات المراسم الدوليّة، يعني أن التناقض معها لم يعد مجرّد تناقض ثانويّ يهون أمام التناقض مع الاحتلال، بل بات تناقضا تناحريّا، يستوجب النضال من أجل إزاحة أيّة سلطة مرتبطة وجوديّا بإرادة العدو.. لا بدّ من تسمية الأشياء بمسمّياتها، فالتنسيق الأمني هو تعاون مباشر مع الاحتلال يستوجب العقوبة القصوى، التي نصّ عليها ميثاق منظّمة التحرير المغدورة.
في هذا الإطار، تنبغي قراءة المعطيات في حال رغبت الفصائل حقّا في تمثيل إرادة الشعب الفلسطيني، بعيدا عن أوهام إقامة سلطة تحت ظلّ الاحتلال.. الخطوة الأولى التي تستوجب اتّخاذها هي العودة إلى ميثاق منظّمة التحرير، حتّى وإن استوجب الأمر استبدال هذه المنظّمة بتنظيم جديد يستند إلى الوحدة الشعبيّة، عوضا عن الانصياع لرغبات البرجوازيّة التي باتت مصالحها الطبقيّة متناقضة تماما مع أي مشروع تحرّري ثوريّ.
أمّا التهافت على نيل "الاعتراف" الدولي بـ "شرعيّة" ما فليس هو ما يحقّق الهدف المتمثّل في "تدويل" القضيّة الفلسطينيّة، التي سبق تدويلها فعلا بالكفاح المسلّح في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي.. الانتخابات التي من الواضح أنّها تستهدف نيل "اعتراف" دوليّ بـ "شرعيّة" جهة قادرة على التفاوض مع المحتلّ، لا يمكن اعتبارها "مكسبا" وطنيّا يحقّق المصلحة العليا للشعب الفلسطيني.
ما العمل؟
تمثيل الشعب الفلسطيني يستوجب قبل أيّ شيء آخر الدفاع عن حقوقه ومصالحه، وهذا لا يتحقّق إلا بتبنّي مشروع ثوريّ، يستند إلى وحدة الجماهير الشعبيّة على الهدف الأوحد والأسمى المتمثّل في هزيمة المشروع الصهيوني، واجتثاثه من أرض فلسطين.. عندها فقط يمكن الحديث عن شرعيّة شعبيّة، وبناء تنظيميّ يعبّر حقّا عن هذا الشعب.
إعفاء الاحتلال من مسؤوليّاته، عبر إقامة كيان سلطويّ لا يشكّل أيّ خطر عليه، بل ويرتبط به طبقيّا واقتصاديّا، يتناقض جوهريّا مع مثل هذا المشروع، الذي أكّد الشعب الفلسطيني تمسّكه به في مختلف المحطّات والمنعطفات السياسيّة.. الانتفاضات الفلسطينيّة المستمرّة هي الردّ الشعبيّ الواضح والحاسم على كافّة تجليات مشروع ما يسمّى بـ "الحل السلمي".. الطريقة الطبيعيّة الوحيدة للتعامل مع أيّ احتلال هي الكفاح من أجل إزالته.
كما لا بدّ من العودة إلى أصل وجوهر الصراع مع العدو الصهيوني، باعتباره صراعا مع الإمبرياليّة العالميّة، وبالتالي مع أيّة طبقة اجتماعيّة ترتبط بها، أو تتحالف معها، سواء داخل فلسطين المحتلّة أو خارجها.
وهنا، لا بدّ من تسليط الضوء على ضرورة محاربة كافّة أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني، وتفعيل دور فلسطينيي الخارج والشتات، للانخراط في كافّة أشكال النضال ضدّ مشاريع البرجوازيّة النفطيّة، التي لم تعد تخفي شراكتها الاستراتيجيّة مع الاحتلال.
وبذكر الدور المطلوب من فلسطينيي الخارج، فإن التجربة تفرض أبجديّة طالما غابت عن قادة العمل الوطني الفلسطيني، وهي ضرورة انخراط الفلسطينيين في النضالات الاجتماعيّة، التي تخوضها الجماهير العربيّة المضطهدة ضدّ أنظمتها البرجوازيّة منذ العام 2010، والتي ما زالت مستمرّة رغم كل محاولات أنظمة الثورة المضادّة.. النضال من أجل تحرير فلسطين لا يمكن فصله بأي شكل من الأشكال عن النضال ضدّ الرجعيّة أينما حلّت.
ولا ننسى أن الفصائل الفلسطينيّة هي التي تحتاج إلى الانسجام مجدّدا مع أبجديّات المشروع التحرّري الفلسطيني، وليست القضيّة ما تنبغي إعادة تفصيلها على مقاسات انتخابيّة سلطويّة.. هذا في حال كانت لدى هذه الفصائل الرغبة فعلا بالاستمرار في حيّز الوجود السياسي، وإلا فإن الشعب قادر على خلق بدائل تنظيميّة تمثّله بالمعنى الثوري الذي يعبّر عن مصالحه.
العمليّات الفرديّة التي شهدتها الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في السنوات القليلة الماضية تعدّ رسالة واضحة ومباشرة للجماهير الفلسطينيّة، التي لا يمكن لها امتلاك رفاهيّة التنزّه بين ضفاف صناديق الاقتراع قبل اجتثاث الاحتلال من أرضها، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
المصالحة التي تحتاجها الفصائل هي التصالح مع ذاتها وشعبها وقضيّتها، والوحدة التي يحتاجها الشعب الفلسطيني لا يمكن اختزالها في اتفاقات أو تسويات فصائليّة، بل هي الوحدة الشعبيّة الثوريّة، التي لا بد من تحقيقها، سواء بوجود الفصائل، أو بغيابها.
في النهاية، الشعب الفلسطيني هو جزء من الشعب العربي الرافض بأغلبيّته لأنظمته الحاكمة، بدليل الثورات المستمرّة حتّى اليوم.. ما يعني أن استنساخ نظام سلطويّ رجعيّ على أرض فلسطين، برضا الاحتلال ومباركته، لا يعني إلا إعلان الحرب على هذا الشعب، الذي سيردّ حتما بثورة شعبيّة تهدف إلى اجتثاث الرجعيّة والاحتلال على حدّ سواء، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّه لا يوجد على هذه الأرض من يملك حقّ تناسي حقيقة أن يافا وحيفا واللد، هي أيضا مدن فلسطينيّة محتلّة، تستوجب النضال المستمرّ حتّى العودة والتحرير.