من يقارن بين الوجود الفرنسي غرب القارة الأفريقية قبل أربع سنوات ووضعه الحالي، يجد فرقاً شاسعاً رغم قصر الفترة الزمنية وقوة النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا في السابق، كأن زلزالاً قلّص هيمنة فرنسا وأبعد قواعدها العسكرية عن منطقة كانت إلى وقت قريب المعقل الرئيسي لنفوذها في القارة.
فقد واجهت فرنسا خلال السنوات الأربع الماضية رفضاً سياسياً غير مسبوق، ومشاعر معادية لها، واحتجاجات عنيفة ضد وجودها في منطقة غرب أفريقيا. ويتفق مراقبون على أن التدخل العسكري والسياسي لباريس في مستعمراتها السابقة، ولّد مشاعر معادية لها في تلك المنطقة، خصوصاً أن أخطاء رافقت هذا التدخل.
أخطاء كقتل المدنيين كما حدث في غارات فرنسية بمالي، ومحاباة الأنظمة الفاسدة واستمرار سياسة نهب الثروات الأفريقية بإبرام اتفاقات مجحفة في حق شعوب دول غرب أفريقيا، إضافة إلى انتهاج سياسات صارمة لمنع هجرة الشباب الأفارقة نحو أوروبا، وتقليص مستوى المساعدات التنموية المقدمة للدول الأفريقية.
وقد ظل النفوذ الفرنسي قوياً في دول غرب أفريقيا، منذ حصول تلك الدول على الاستقلال في ستينيات القرن الماضي، إذ تمكنت فرنسا من إنشاء عدة قواعد عسكرية لها كنوع من التعاون العسكري مع البلدان المستعمرة سابقاً من قبلها.
لكن موجة احتجاجات اجتاحت دول غرب أفريقيا ضد الوجود العسكري الفرنسي، مع دخول روسيا للمنطقة وتصاعد التوترات السياسية والأمنية فيها. فخلال السنوات الأربع الماضية أغلقت فرنسا 5 قواعد عسكرية لها في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، فيما لا تزال العديد من دول القارة الأفريقية تستضيف قواعد عسكرية فرنسية.
ويوجد حالياً في جنوب الصحراء الكبرى ما يقارب من 7 آلاف جندي فرنسي في قواعد عسكرية في جيبوتي وساحل العاج والسنغال والغابون وتشاد.
التدخل في شؤون المستعمرات السابقة
وبرأي الباحث السياسي من مالي، عبدو أحمد ساي، الذي تحدث مع "العربي الجديد"، فإن مقارنة بسيطة لما فعلته فرنسا بغرب أفريقيا خلال السنوات الماضية وتدخلاتها المختلفة في السياسة المحلية والأحداث الطارئة مع ما تفعله قوى استعمارية سابقة للمنطقة كبريطانيا والبرتغال، "تكفي لنفهم سبب حنق الأفارقة على فرنسا".
عبدو أحمد ساي: فرنسا ترغب باحتكار مستعمراتها السابقة
وأشار إلى أن "امتعاض باريس من ظهور لاعبين جدد في غرب أفريقيا، كروسيا والصين وتركيا والهند، يؤكد رغبتها في احتكار مستعمراتها السابقة". وأضاف أنه في وقت لا ترغب فرنسا بدخول قوى جديدة للمنطقة "فإنها تتجاهل المشاكل والأزمات التي تعاني منها"، دول غرب أفريقيا، لافتاً إلى أن تلك الدول "لم تجد من يساعدها بما يكفي حتى لا تصبح بؤرة إرهاب عالمي".
ولفت بالتالي إلى أن هذه الدول "تكبّدت خسائر فادحة في فرق الجيش والشرطة وفقدت السيطرة على مناطق وفشلت عملياتها العسكرية والأمنية في محاربة الجماعات المسلحة المتطرفة والإجرامية، أو حتى الحد من قدراتها وحماية السكان المدنيين".
وقال ساي إن "التدخل العسكري الفرنسي في الساحل الأفريقي، وخصوصاً في مالي، كان فاشلاً، لأنه جاء فقط بهدف حماية أوروبا من الخطر الإرهابي المتنامي في الساحل"، مضيفاً أنه "لم يكن فعالاً بالقدر الكافي لتحقيق الانتصار العسكري والأمني الضروري للقضاء على مثل هذه الجماعات".
ورأى أن تطور المشاعر المعادية لسياسة فرنسا لدى شعوب الساحل الأفريقي "لم يصاحبه أي تصحيح من قبلها للأخطاء المرتكبة، بل حاولت التبرؤ من جميع الانتهاكات التي مارسها جنودها".
وذكّر ساي بالضربات الجوية التي استهدفت حفل زفاف في مالي عام 2021، معتبراً أن "على فرنسا مواجهة جميع التهم الموجهة لها، خصوصاً أنها تركت مستعمراتها السابقة منهوبة وتعاني الإرهاب والفقر".
وكانت قوة "برخان" الفرنسية، والتي قاتلت "الجماعات الإرهابية المسلحة" في منطقة الساحل الأفريقي (انسحب آخر جنودها من مالي في أغسطس/ آب 2022)، قد قتلت مدنيين في ضربات جوية شمال مالي في 3 يناير/كانون الثاني 2021.
وأدت الضربات وفق تحقيق أممي أجري حول الحادث، إلى مقتل 21 مدنياً بقرية باونتي وسط مالي. وأشار التقرير إلى أن الغارات استهدفت حفل زفاف حضره أكثر من 100 مدني، يوجد من بينهم خمسة مسلحين، وأن جميع الضحايا من سكان قرية باونتي. بالمقابل قال الجيش الفرنسي حينها، إنه لم يرتكب أي خطأ وقد استهدف "جماعة إرهابية مسلحة".
إمكانية عودة النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا
أمام تنامي المشاعر المعادية لوجود النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا ولوجودها، اتهمت باريس روسيا ودولاً أخرى بتغذية تلك المشاعر، وبرصد الأخطاء بهدف السيطرة على منطقة الساحل واستغلال موارده.
ودافعت فرنسا عن خططها وأهدافها في مستعمراتها السابقة بغرب ووسط أفريقيا معتبرة أن سياستها كانت قائمة على احترام سيادة تلك الدول، ومساعدتها في إطار اتفاقيات ثنائية على تحقيق التنمية والأمن والحكم الرشيد.
باحث موريتاني: خروج فرنسا من بعض الدول هو نتيجة تدهور العلاقات الأمنية والسياسية
وفي السياق قال الباحث الموريتاني سيدي محمد ولد الخرشي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "مآخذ شعوب دول غرب أفريقيا على فرنسا تتلخص في أن الأخيرة لم تساعد بالشكل الكافي في استقرار المنطقة، والتي تعاني من أوضاع سياسية مضطربة وانعدام الأمن في مناطق واسعة منها، في مقابل أن فرنسا استفادت من ثروات هذه البلدان ومن الاتفاقيات الاقتصادية على مدى عقود".
واعتبر أن خروج فرنسا من دول، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى "هو نتيجة لتدهور العلاقات الأمنية والسياسية التي كانت إلى وقت قريب عميقة جداً، لكنها تدهورت بعد الانقلابات العسكرية وفشل فرنسا في محاربة الإرهاب بدول الساحل".
إلا أن ولد الخرشي رأى من جهة ثانية أن "بإمكان باريس العودة" من جديد لتلك الدول "بعد معالجة أخطائها السابقة وإحراز تقدم في تعاونها مع الدول التي لا زالت حليفة لها مثل تشاد وساحل العاج والسنغال وموريتانيا وبنين".
وأضاف أن "الحكومات الانتقالية الحالية في الدول التي شهدت انقلابات في السنوات الأربع الأخيرة، تعاني بشدة وتواجه تحديات صعبة". ولفت إلى أنها "لن تتوانى في مراجعة موقفها" من النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا والرافض له. وعزا ذلك إلى أنها "ستحتاج لحليف قوي قريب منها جغرافياً، وبينها وبينه قواسم مشتركة ثقافية واقتصادية وسياسية، وهو ما لا يتوفر في روسيا وغيرها من اللاعبين الجدد في المنطقة".
وأشار إلى أن العقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، على الدول التي شهدت انقلابات عسكرية أخيراً، قد تفتح الباب لاستراتيجية جديدة للتعاون بين فرنسا وتلك الدول. يأتي ذلك "بالنظر إلى نفوذ فرنسا داخل مجموعة إيكواس وقدرتها على تقريب وجهات النظر وفتح باب التفاوض للخروج من الأزمة بين تلك البلدان والمجموعة".
وشدّد الباحث على أنه "إذا كان الفشل في احتواء التهديد الإرهابي سبباً رئيسياً في خروج فرنسا من الساحل الأفريقي، فإنه أيضا قد يكون سبباً لعودة التعاون مستقبلاً، في حال فشلت روسيا في تحقيق الاستجابة الأمنية اللازمة لمحاربة الإرهاب بدول الساحل".
وتسبب توتر الأوضاع الأمنية والتغييرات التي جاءت بها الانقلابات في تراجع النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا مع خروج القوات الفرنسية تباعاً من دول الساحل. وكانت فرنسا قد تدخلت عسكرياً في شمال مالي في يناير عام 2013، بهدف طرد "الجماعات الإرهابية" محققة نجاحاً محدوداً، إذ تضاعف العنف بعد عامين من تدخلها، وارتفع معه عدد القتلى المدنيين والعسكريين وكذلك أعداد النازحين.
فتلك الجماعات التي كان الجيش الفرنسي يحاربها، والتي لم تكن تسيطر إلا على بعض المدن في شمال مالي عام 2013، وسعت نفوذها إلى وسط البلاد إلى جانب شمال بوركينا فاسو وشمال غرب النيجر. وأصبحت تهدد البلدان الساحلية في غرب أفريقيا مثل بينين وساحل العاج.