بغض النظر عن انعدام المرجعيات السياسية للفلسطينيين في الداخل، حيث إنهم لم يكونوا حتى معنويا جزءا فاعلا من مشروع وطني فلسطيني حتى عندما استهدفهم الأخير وفق الميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968، إلا أنهم رغم ذلك احتكموا في فعلهم السياسي لبديهة واضحة: تقليص فجوة القوة بينهم وبين إسرائيل، ما سمي باللعب في الهامش، دون أن يعني ذلك لعبا على الهامش. كانت السياسة هي عملية اكتشاف لحدود الهامش– ضمن توتر الانتماء والمواطنة- وتوسيعه تباعا، حتى استطاع هذا الأداء أن يقلب مفاهيم في السياسة وفي العلاقة بيننا وبين إسرائيل وأن يتحول إلى "تهديد استراتيجي لإسرائيل"، وتوقف هذا التهديد وضعفت قوتنا تحديدا بمقدار إصرارنا على اللعب ضمن المركز الإسرائيلي.
إن زيادة قوتنا السياسية كرديف لأمرين أولهما زيادة الارتباط ببعدنا الفلسطيني وثانيا إضعاف إسرائيل ومخططها في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية عموما وليس فقط داخليا (مشروع دولة المواطنين كأرقى مثال)، كانت بديهة جامعة في المنطق السياسي الفلسطيني في الداخل منذ 48 ليس فقط ضمن غياب المشروع الوطني الفلسطيني الجامع بل حتى ضمن غياب مرجعية فلسطينية داخلية.
باختصار، نستطيع الإشارة إلى دالة تصاعدية (مع تموجات، دون تموجات وارتدادات لا يهم) في علاقة القوة بيننا وبين إسرائيل، نحن نوسع مساحة فعلنا السياسي، لكن دائما ضمن وعي مؤسس لذلك: تعميق مكانتنا الفلسطينية وتعميق خطابنا وسرديتنا الفلسطينية بشكل متصادم مع تلك الصهيونية. لم يحدث سابقا أن قام الداخل بفك الارتباط بين قوته السياسية وبين قدرته على التصادم مع المشروع والسردية الصهيونيين. لم يحدث حتى 2017 أن قام الداخل ببناء وعي سياسي جامع يقوم على المصالحة بين زيادة قوته وتأثيره السياسي وبين التخفيف من البعد الفلسطيني لتلك القوة، ولم يحدث قبل 2017 أن قام ببلورة خطاب يتعامل مع قوته السياسية بمعزل عن عملية الصراع مع ما تمثله الدولة من مشروع ومن سردية. لكنه ما فتئ يطور هذا الخطاب الارتدادي منذ خمس سنوات تقريبا.
الخروج عن الصواب السياسي
بدأ خروجنا عن الصواب السياسي كما أسلفت عندما بدأنا في مسار فك الارتباط بين قوتنا السياسية وبين قدرتنا على التصرف كفلسطينيين، وعندما بدأنا في فتح الباب لمنطق سياسي يرى إمكانية المزاوجة بين الخفة الفلسطينية وما بين الثقل السياسي، ولكي نفعل ذلك، كان علينا أن نفعله وطنيا، أي بغطاء وطني أما الغطاء الوطني الذي تم تطويره بعد أوسلو فهو مصطلح "الحقوق الجماعية"، ذاك المصطلح الذي استعملته "عدالة" مثلا للدفاع عن حقوق فلسطينية استعمله تيار سياسي لتأسيس منظور "وطني" داخلي، يتحدث عن حقوق "مجموعة عربية" في الداخل، لكنها منزوعة الارتباط السياسي الفلسطيني بشعبها.
يقوم قانون القومية 2018 كبرهان مأساوي على تلك المزاوجة بين الخفة الفلسطينية والقوة السياسية، الذي منذ هذه اللحظة اتخذ له مصطلح "التأثير"، لماذا التأثير وليس القوة مثلا؟ لأن "التأثير" مصطلح يربطك أكثر بمن تريد التأثير عليه. مصطلح التأثير يلغي إمكانية بناء قوتك الذاتية بمعزل وبفك الارتباط عن العالم المباشر لأولئك الذين تبني قوتك إزاءهم. مصطلح "قوة" يحمل مجالا لصراع قوة ولتوازن رعب مثلا بين طرفين، أما مصطلح "تأثير" فإنه يحمل الود والعلاقة الأكثر حميمية مع الطرف الآخر. قد يؤثر الصديق على الصديق، لكن العدو يبني قوته دائما إزاء خصمه وبمعزل عن "التأثير" اليومي الحميمي عليه، تأثير تلك القوة يكون دائما ضمن منظور تغير استراتيجي في ميزان القوة أي ضمن علاقة صراع (غير مرئي أكثر منه صراع مواجهات ميدانية) وليس ضمن علاقة ود.
وفي عودة لقانون القومية، لقد اختار نهج أيمن عودة الذي سيطر على المشتركة التي سيطرت بدورها على استقلالية الأحزاب وعلى مجمل المشهد السياسي "تجاهل" البعد الاستعماري للقانون كوثيقة صريحة لمشروع تطهير سياسي للفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر- والتركز في بعده "المدني" – قوننة التمييز ضدنا كمواطنين. واختار أن يبني قوته، عفوا، تأثيره حتى على الدستور الاستعماري الصريح للدولة العبرية بمعزل عن البعد الفلسطيني – السابق والقائم بمعزل عن المواطنة - لفعلنا السياسي!!
وقد فتح بعد ذلك الباب على مصراعيه لعملية فك الارتباط هذه: نقوى كمؤثرين حتى لو كنا نضعف كفلسطينيين، الأمر الذي يبطل التأثير من أساسه، حيث المفروض أن ما نريده هو التأثير على مخطط إسرائيلي لصالح مخطط فلسطيني مناهض. فك الارتباط هذا بين مفهوم التأثير السياسي وبين رؤية مبنية على قاعدة السردية الفلسطينية أوصلنا في ما يشبه المتوالية الهندسية لفعلين غير مسبوقين: التوصية بقيادة أيمن عودة والدخول في ائتلاف الحكومة الإسرائيلية بقيادة منصور عباس، وهما فعلان لم يقوما بفك الارتباط عن المسألة الفلسطينية فحسب، بل قاما بالمساهمة في ما يشبه عملية إنقاذ وطني للسياسة الإسرائيلية من مآزقها الخاصة. في كلا الفعلين: التوصية والائتلاف، قام عودة ومنصور بإنقاذ إسرائيل من أزمة نظام سياسي، وذلك بدل الفعل الفلسطيني البديهي: تعميق أزمات إسرائيل. لنترك أخلاق الضحية حاليا خارج هذا الادعاء.
الصهيونية كخيار وطني
مع ذلك، لا يمكن اعتبار دخول منصور عباس في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي ولحكومة صهيونية دينية يجري الآن مستوطنوها عملية تهجير من الشيخ جراح واقتحامات للأقصى، كاستمرار طبيعي لأداء أحزابنا داخل المشتركة والتي يتحول شكل تعبيرها الوحيد عن حياتها السياسية إلى وجودها في الكنيست. وأقول وجودها وليس تمثيلها، لأن التمثيل يفترض مسبقا وجود مشروع سياسي خارج الكنيست تقوم هذه الأحزاب بتمثيله. تنصل أحزابنا (بما فيها حزبا التجمع الوطني الديمقراطي) من مشروع ومن رؤية استراتيجية تمثلها داخل الكنيست يحول الكنيست من منبر ومنصة إلى ليس أقل من مبرر وجود.
رغم كل ذلك، إلا أن دخول عباس إلى الائتلاف الحكومي (الفاشي والاستيطاني أيضا) لا يحتمل نقاشا في الوطنية من داخل تلك المفاهيم التي اعتدنا عليها. إن اختيار الشراكة مع الحكومة الصهيونية التي يعرضها منصور عباس على شعبه وتصميمه على تسويق ذلك كـ "وطنية"، هما عمليا ليسا أقل من محاولة إجراء مصالحة بين الوطنية وبين الصهيونية.
ولأن عمق التبرير بعمق التنازل، ولأن المصالحة مع الصهيونية تتطلب مصالحة مع سرديتها وضربا في عمق وجدان السردية الفلسطينية، فإن عباس يستبدل سردية الغبن التاريخي في النقب بسردية "نزاع على الأراضي"، بتخل كامل عن سردية الصمود والتهجير وأهل الوطن لصالح سردية المحكمة الإسرائيلية. هذا بمعزل عن أننا نتحدث عن القرى الثلاث التي سبق للحكومات السابقة وأعلنت نيتها الاعتراف بها. ويقوم عباس بسرقة هذا الاعتراف إن تم من عمق نضالات النقب وصمود أهله، لكنه لا ينسى أن يعترف لدولة إسرائيل "بأن النقب ما زال داخل حدودها" وأن أحدا لم يأخذ منها حقها في السيادة على النقب (ارجعوا لخطاب عباس الحكومي الأول).
إذا ليس حدث الائتلاف فقط (والسكوت أو التساوق مع مخططات تهجيرية وتطهيرية، انظروا الجدال حول قانون لمّ الشمل وأداء الموحدة فيه)، بل إن سرديته هي أيضا ما تحدث زلزالا صامتا في مفاهيم مؤسسة في مشهدنا السياسي وفي علاقتنا مع إسرائيل.
بناء على ما تقدم، يتضح أنه لم يعد بالإمكان الاكتفاء بربط المدني بالقومي كما اعتدنا القول خلال العقدين الماضيين - إذ اختلق عباس بدعة ربط اثنيهما بالصهيونية - بل باتت لزاما علينا إعادة ربطهما بمناهضة الصهيونية.
خطاب الهبة: بين استرجاع الغائب الفلسطيني وتغييب الحاضر
استعادت الهبة البعد الفلسطيني الغائب من المشهد السياسي في الداخل، لقد ربطت الهبة البعد التهجيري التطهيري القمعي العنيف للدولة وللشرطة ضمن سياق المواطنة مع البعد التهجيري التطهيري القمعي العنيف في القدس، ووحد مستوطنو اللد والشيخ جراح المشهد الفلسطيني كما وحدته المواجهات في اللد والشيخ جراح والأقصى، وانطلقت من الناصرة ومن حيفا رسالة أن القضية أبعد من المستوطنين وأبعد من التهجير وأبعد من الإجرام المنظم عبر الشرطة وأبعد من إجرام الشرطة وأبعد من البعد القمعي داخل الخط الأخضر. إنها قضية شعب يريد أن يتحرر، إنها قضية شعب أسقط الخط الأخضر من وعيه ومن ممارسته كما أسقطته إسرائيل.
لكن تكمن أهمية هذه الهبة تحديدا رغم سوابق مواجهات عنيفة كثيرة سبقتها أنها انفلتت ليس فقط من قبضة إسرائيل بل أيضاً من سياسة التبعيّة والتذيّل لإسرائيل، ومثلت تحول السياسة إلى إدارة علاقات مع إسرائيل بدل إدارة صراع ضدها. أتت الهبة لتسترجع تحديدا هذا البعد الفلسطيني الذي أخرج من المعادلة السياسية في الداخل بشكل واضح منذ تسلط نهج "التأثير" على السياسة في الداخل واستقالة الأحزاب كمؤسسات، والتجريف السياسي الذي حصل للأحزاب وللمتابعة معا.
لكن بقدر ما محت الهبة الخط الأخضر بقدر ما ثبتته. لم تمثل الهبة الشارع الفلسطيني في الداخل ولم تغير من مواقفه، ولم تعكس حتى المزاج السياسي الآني لحظة المواجهات وعنف المستوطنين والقوات الخاصة. ففي استطلاع لمدى الكرمل قبل وبعد الهبة مباشرة ظهر أن المواقف السياسية تجاه إسرائيل وتجاه الحل وتجاه القضية الفلسطينية لم تتغير! بقيت مثلا على حالها نسبة تأييد تنظيم الفلسطينيين في الداخل مقابل نسبة تأييد الاندماج الكامل في إسرائيل!
ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أن الهبة أظهرت نجاحا فلسطينيا تماما كما أظهرت نجاحا إسرائيليا، النجاح الإسرائيلي الذي يبدو أن وضوح الهوية الفلسطينية (معظم الذين يؤيدون الاندماج الكامل بإسرائيل يعرفون أنفسهم كفلسطينيين، معظم الذين يؤيدون الدخول في الائتلاف الحكومي يعرفون أنفسهم كفلسطينيين) لا يؤثر عليه، هو رفض ارتباط الفلسطينيين في الداخل بالمصير السياسي لشعبهم، وقدرتهم على المزاوجة بين كونهم جزءا من واقع إسرائيل عمليا وجزءا من شعب وجدانيا، بمعنى قدرتهم على فصل المعنى بين أن نكون جزءا من الشعب الفلسطيني وبين أن نكون جزءا من القضية الفلسطينية.
وهنا في هذه النقطة تحديدا يظهر بعد الدولة الأخطر: بعدها الاحتوائي وليس الاستعماري، أو بالأحرى بعدها الاستعماري الاحتوائي وليس بعدها الاستعمار العنيف. لقد طورت حالة "الأمان الاقتصادي والاجتماعي" (وهي حالة تدرك بالمقارنة بوضع سائر شعبنا الفلسطيني)، حالة تطبيع وجودي مع الدولة، وكسر ذلك التطبيع حالة الاغتراب أو الكراهية النبيلة (كما أن هنالك حباً ذليلاً، هنالك أيضا كراهية نبيلة) أو شعور العداء المطلوب لفك ارتباط مصيرنا السياسي بإسرائيل، بكلمات أدق بما تقدمه إسرائيل لنا من مواطنة.
ما يؤسس باعتقادي لحالة الاغتراب هذه المطلوبة كمقدمة لفك الارتباط بإسرائيل على كل الأصعدة، هو مشروع مواطنة بديلة يجمع بين احتياجات الحياة اليومية ومكتسباتها الاقتصادية الاجتماعية وبين العداء للمشروع الصهيوني. أي مشروع مواطنة يرفض إسرائيل (المشروع الصهيوني) ويقبل المواطنة (مكتسبات المساواة) في نفس الوقت، يكسر حالة التطبيع وينتج الاغتراب الضروري عن الدولة لكنه في نفس الوقت لا يدير ظهره لمصطلح المواطنة الذي يعني الاهتمام بالحياة اليومية للناس، بأمنهم الاقتصادي والاجتماعي.
نحو مشروع لمواطنة تحررية موحدة للشعب والقضية والوطن
يبدو واضحا مما تقدم أن الجانب الاحتوائي للمواطنة الاستعمارية الإسرائيلية هو ليست أقل خطورة من جانبها القمعي رغم وجوده وتوغله و"أهميته". من جهة أخرى، يبدو اقتصار الهوية في الداخل على الانتماء وحسرها عن الخيال السياسي أو عن الممارسة السياسية هو أخطر ما يهدد تطوير مشروع تحرري فلسطيني جامع، وأكثر ما يمثل نجاحات إسرائيل التي تنجح في ذلك رغم توغل ممارساتها القمعية والعنيفة.
بالتالي ليس البعد الوطني فحسب ولا وعي المواطنة الاستعمارية ما يمكن أن يخرج فلسطينيي الداخل من ربط مصيرهم بإسرائيل وبما تقدمه من "حياة طبيعية" نسبيا، بل مشروع تحرر متعدد الأبعاد فيه يستحضر الإنسان كاملا بكل متطلباته واحتياجاته بكل حرياته السياسية والشخصية، إن استيعاب البعد الشخصي والحريات الشخصية في مشروع التحرر الفلسطيني كما استيعاب العدالة الاجتماعية هو ما سيربط الفلسطيني بمشروعه الوطني وليس فقط بعده الهوياتي.
بالتالي لن يتم التحرر بإرجاع القضية الفلسطينية إلى مربعها الأول كقضية تحرر ضد استعمار فحسب، بل سيتم التحرر بالأساس عبر نقلها إلى مفاهيم العصر كقضية تحرر وحريات شخصية وأمن إنساني.