وافق رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، يوم الإثنين الماضي، على طلب تقدّم به النائب المستقل، سجاد سالم، لتشكيل لجنة متخصصة لتقصي الحقائق حول الضحايا المغيّبين لتظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 وما تلاها من حراك احتجاجي.
وهذه اللجنة هي الثالثة من نوعها في العراق بشأن مصير الناشطين المدنيين والمتظاهرين الذين جرى تغييبهم على يد جماعات مسلحة عقب تفجّر الاحتجاجات الشعبية في الربع الأخير من عام 2019، في مدن جنوب ووسط العراق والعاصمة بغداد، والتي استمرت لأكثر من 14 شهراً، وسط تساؤلات اليوم حول مدى قدرة اللجنة الجديدة على تحقيق نتائج، بعدما فشلت لجنتان سابقتان في هذا الشأن في مهماتهما.
لجان التحقيق العراقية بلا نتائج
وشكلت حكومة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في الأول من يونيو/حزيران 2020، لجنة تحقيق موسّعة للتحقيق في جرائم خطف واغتيال المتظاهرين والناشطين المدنيين في البلاد.
وقبل ذلك، تشكّلت لجنة برلمانية مؤلفة من أعضاء في لجنتي الأمن والدفاع، وحقوق الإنسان، وتم تكليفها بزيارة مدن عدة حصلت فيها حوادث خطف وتغييب واغتيال لناشطين.
غير أن أيا من اللجنتين لم تكشف عما توصلت إليه من نتائج، وهو ما يدفع ناشطين في الحراك المدني العراقي، إلى تبنّي فكرة وقوف فصائل مسلحة نافذة في البلاد وراء تلك العمليات.
مهمة اللجنة الجديدة هي تقصي الحقائق وتحديد هوية الجناة، وإقامة العدالة الانتقالية
ووفقاً لقرار البرلمان الأخير، الذي أعلن عنه مكتب النائب سجاد سالم، في بيان رسمي، فإن "مهمة اللجنة هي تقصي الحقائق وتحديد هوية الجناة، وإقامة العدالة الانتقالية، وإزالة كافة الآثار السلبية التي نتجت عن قمع التظاهرات".
وعلى الرغم من أن اللجان البرلمانية من هذا النوع لا تحظى بأي صلاحيات تنفيذية، إذ أنه وفقاً للسياقات المتبعة، تتولى رئاسة البرلمان عرض نتائج التحقيق على النواب ليتم التصويت على قرار إحالتها للحكومة لمتابعتها أو استدعاء مسؤولين أمنيين لعرض النتائج عليهم، إلا أنّ إعادة فتح ملف المختطفين يمثّل أول إشارة إلى دور لن يكون تقليدياً للمدنيين والمستقلين الذين فازوا في مقاعد بالبرلمان، ويتجاوز عددهم الأربعين نائباً.
ولا تزال فعاليات وقوى مدنية عدة ترفع مطلب الكشف عن مصير المختطفين في التظاهرات، في مناسبات واجتماعات محلية مختلفة، كان آخرها السبت الماضي، إذ نفّذ العشرات من ذوي ضحايا ومغيبي الاحتجاجات، وقفة في ساحة الحبوبي وسط مدينة الناصرية جنوبي العراق، استمرت عدة ساعات.
وطالب المشاركون في الوقفة بمتابعة ملف المغيّبين، محذرين من إغلاق ملف قتلة المحتجين. ويعد هذا النشاط الأول من نوعه منذ إجراء الانتخابات البرلمانية في العاشر من أكتوبر الماضي.
ضحايا قمع "تظاهرات تشرين"
وحتى الآن، لا تزال السلطات العراقية تمتنع عن إصدار أعداد رسمية لضحايا التظاهرات التي استمرت لأكثر من 14 شهراً، وطالبت بالإصلاحات السياسية وتوفير الخدمات وإنهاء الفساد.
لكن منظمات محلية حقوقية تقوم بالمهمة، ومنها مرصد "أفاد"، المعني بقضايا حقوق الإنسان، والذي تحدث في آخر بيان له حول الموضوع، عن أن العدد الكلي لضحايا التظاهرات، منذ الأول من أكتوبر 2019 ولغاية نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، تجاوز عتبة الـ 762 متظاهراً، أصغرهم فتى في الرابعة عشرة من عمره.
وبحسب هذا المرصد، فقد "تم تسجيل إصابة نحو 27 ألف متظاهر، منهم ما لا يقل عن 900 متظاهر سترافقهم إعاقات ومشاكل صحية مدى الحياة"، مشيراً إلى أن "مدن بغداد والناصرية والبصرة، تتصدر القائمة من حيث عدد الضحايا في العراق".
كذلك تحدث مرصد "أفاد" عن اختطاف العشرات من الناشطين والمتظاهرين، أطلق سراح أغلبهم بعد تعرّضهم للضرب والتنكيل، بينما لا يزال آخرون في عداد المفقودين.
شنون: الحكومة لديها المعلومات الكاملة عن المليشيات المتورطة في تغييب المتظاهرين
الحكومة تعلم الجهات المتورطة في خطف الناشطين المدنيين
في السياق، يقول عضو تنسيقية تظاهرات مدينة الناصرية، ساهر شنون، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "لجان تنسيقيات التظاهرات قررت معاودة أنشطتها داخل الساحات، للمطالبة بمعرفة مصير من اختطف من بيننا ولا نعرف مكانه".
ويتهم شنون حكومة الكاظمي بأنها "أخلّت بوعودها، ولم تقدم غير الشعارات بخصوص هذا الملف. لهذا، عودتنا ستكون من باب معرفة مصير رفاقنا الذين تم اختطافهم سواء في جنوب العراق أو في بغداد".
ويتابع شنون أن "المتظاهرين يطالبون الحكومة بمتابعة ملف المغيّبين، وهي لديها المعلومات الكاملة عن المليشيات المتورطة في تغييب المتظاهرين وقتل آخرين منهم. والسكوت عن هذا الملف بعد أكثر من عامين، يعني تورّط الحكومة بطريقة مباشرة في التستر، وهو ما قد يدفع الناشطين إلى السعي لتدويل قضية تغييب رفاقهم في الميادين".
أسماء اختفت منذ اندلاع "تظاهرات تشرين"
ومن أبرز الوجوه التي اختفت منذ اندلاع "تظاهرات تشرين"، المحامي العراقي علي جاسب، الذي قتل والده، جاسب الهليجي، بعد عرضه وثائق تدين فصيلا مسلحا بتغييب نجله.
ومن الأسماء الإضافية الكاتب مازن لطيف، وصحافي التحقيقات توفيق التميمي، والمدون والناشط عبد المسيح روميو سركيس، والناشطان حيدر البابلي وعلي ساجت، وكذلك الناشط من مدينة الناصرية سجاد العراقي، ناهيك عن أسماء غُيبت قبل اندلاع "تظاهرات تشرين"، ولم تعد تُذكر في الإعلام، مثل جلال الشحماني وفرج البدري.
لكن الناشط المدني في مدينة النجف، علي الحجيمي، فيشير إلى وجود أكثر من 20 متظاهراً مغيّباً منذ اندلاع "انتفاضة تشرين" 2019، بينما الأسماء التي يتداولها الإعلاميون هي لسبعة أو ثمانية أشخاص، كون أسمائهم هي الأبرز وكان لها تأثير على النشاط الصحافي والاجتماعي للتظاهرات، وفق قوله.
هناك أكثر من 20 متظاهراً مغيّباً منذ اندلاع "انتفاضة تشرين"
حكومة الكاظمي تخلّ بوعدها
ويلفت الحجيمي إلى أن "الكاظمي تعهّد بأن حكومته ستتكفل بالكشف عن مصير المغيبين من جهة، وقتلة المتظاهرين من العصابات والمليشيات المنفلتة من جهة ثانية، لكن في الحقيقة لم يتحقق أي شيء".
ويعتبر الحجيمي أن "ملف المغيّبين من الناشطين لا ينفصل عن قضية الإخفاء القسري في العراق، خصوصاً مع وجود أكثر من 20 ألف مختطف خلال السنوات الست الماضية، من مناطق شمال وغرب العراق".
ويضيف أن "جميع العراقيين يعرفون أن المتهم واحد، وهي المليشيات الحليفة لإيران، الناقمة على الشعب العراقي"، مشيراً إلى أن "عمليات الإخفاء والتغييب القسري حصلت غالبيتها لأسباب سياسية وطائفية".
ولم تتوقف مشكلة الخطف في العراق، على الرغم من توقّف التظاهرات منذ أشهر طويلة، إذ إن الصحافي باسم الزعاك اختطف من وسط بغداد خلال تغطيته تظاهرات لأنصار القوى الرافضة لنتائج الانتخابات، نهاية أكتوبر الماضي، ولا يزال مصيره مجهولاً لغاية الآن.
كما سُجلت حوادث خطف لناشطين، إما لساعات أو لأيام، خلال الأشهر الأخيرة، وذلك في البصرة والناصرية وبابل وبغداد، وتعرّض الضحايا للضرب والتنكيل وحلاقة شعر الرأس، قبل الإفراج عنهم، مثل علي المكدام، وحيدر البالي، وأحمد الحل وآخرين.
علماً بأن أغلب الناشطين الذين تم استهدافهم، تواروا عن الأنظار بعد ذلك، ولم يعد لهم نشاط على مواقع التواصل أو في المجتمع.
الحجيمي: جميع العراقيين يعرفون أن المتهم واحد، وهي المليشيات الحليفة لإيران
من جهته، يقول عضو حركة "امتداد" المدنية، حيدر حميد، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المتهمين بالضلوع في جريمة تغييب الناشطين معروفون لدى الشارع العراقي وأهالي الضحايا والأجهزة الأمنية، وهم ينتسبون لأحزاب وفصائل مسلحة".
ويلفت حميد إلى أنه "لدى غالبية ذوي المغيّبين معلومات ووثائق تثبت تورط المليشيات في هذه الجرائم".
ويؤكد أن "الجهات المسلحة التي قتلت المتظاهرين وأخفتهم، مفضوحة لدى القضاء، لكن الأخير مقيّد بالوضع السياسي المعروف في البلاد. لذلك، تسعى حركة امتداد، عبر نوابها في البرلمان، إلى فتح الملف قريباً وفضح الجهات المتورطة في هذه الجرائم".
بدوره، يلفت رئيس منظمة "إنهاء الإفلات من العقاب"، معن الجيزاني، إلى أن "الضغط الشعبي المنظم يستطيع أن ينهي الغموض في مسألة المغيّبين، ويضغط باتجاه محاسبة الجهات المتورطة في تغييبهم، حتى لو تم ذلك من خلال التضحية بأفراد على مستوى المنفذين".
ويوضح الجيزاني، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "حكومة الكاظمي مقصّرة في الكشف عن مصير المغيّبين، وبعض الدوائر والشخصيات القريبة من الحكومة تسرّب دائماً بأن هؤلاء قد تمت تصفيتهم ولا جدوى من المطالبة بإعادتهم إلى ذويهم".
ويشير الجيزاني إلى أن "رئيس جهاز أمني حكومي رفيع، أكد في أحاديث خاصة أن الجهات الخاطفة لا تحتفظ بالضحية لأكثر من أيام أو أسبوع على أبعد تقدير، ما يعني أن جميع المغيبين الذين نتحدث عنهم قد تمت تصفيتهم بالفعل، بمن فيهم المغيب أخيراً الصحافي باسم الزعاك".
حميد: الجهات المسلحة التي قتلت المتظاهرين وأخفتهم، مفضوحة لدى القضاء، لكن الأخير مقيّد بالوضع السياسي
ويؤكد الجيزاني أن "منظمة إنهاء الإفلات من العقاب في العراق، تعمل على متابعة جميع قضايا الضحايا وتوثيق أكبر مساحة ممكنة من الانتهاكات، بما في ذلك ما يتعلق بملف المغيّبين، وينصبّ معظم تركيزنا على نشر وتعزيز فكرة المحاسبة، والضغط بشكل منظم ومستمر لمحاسبة الجناة في الجرائم التي طاولت المتظاهرين في العامين الماضيين".
ويشير إلى أنه "حصلنا أخيراً على وثائق رسمية تدين أجهزة أمنية رسمية بارتكاب بعض تلك الجرائم، وسنطلق حملة متصاعدة لمحاسبة الضباط المتورطين في إطلاق النار، وعلى رأسهم الرائد عمر نزار فخر الدين من قوات الرد السريع التابعة لوزارة الداخلية، والمتهم بارتكاب انتهاكات فظيعة وجرائم قتل مثبتة بالأدلة والوثائق، والشهادات كافية لإدانته بشكل قاطع وتقديمه للمحاكمة".
وكان الكاظمي قد أكد، في وقت سابق، أن "ممارسات غير قانونية تمارس ضد العراقيين"، واعداً بمتابعة ملف المغيّبين قسراً "بشكل جدي".
إلا أن مسؤولين عراقيين أكدوا أن الحكومة لم تشرع بأي فعل تجاه الجهات المتهمة بتغييب الناشطين المشاركين والداعمين لـ"تظاهرات تشرين"، فيما يعتمد الكاظمي على مستشارين يعتمدون على مواقع التواصل الاجتماعي في إجراء حصر دقيق للمختطفين والمغيّبين.