كل شيء في الشارع الجزائري يفيد بأنّ الحراك الشعبي بصدد الموجة الثانية، بعد العودة القوية للمحتجين، أمس الجمعة، رفضاً للخيارات التي تنتهجها السلطة منذ 2019، لكن اللافت هذه المرة هو التحوّل في خريطة الاحتجاج.
وتشير عملية رصد وتقصي التوزيع الجغرافي لتظاهرات الحراك إلى تمركزه في مناطق معينة، كالعاصمة ومنطقة القبائل، وبروزه في مناطق أخرى كانت معروفة سابقاً أنها حزام شعبي للسلطة وسط البلاد، واستمرار خموله في بعض الولايات التي شهدت مجرد وقفات محدودة لناشطين، بينما لم تعرف بعض الولايات أي فعالية للحراك، لا سيما في مناطق الجنوب.
وإذا كانت مكونات الحراك الشعبي قد تركزت في العاصمة الجزائر بشكل خاص خلال استئناف التظاهرات الاثنين الماضي، فإنّ خريطة توزع التظاهرات في أول جمعة بعد 11 شهراً من تعليق التظاهر تظهر أنّ 36 ولاية من مجموع 48 ولاية (باعتماد التقسيم الإداري السابق) شهدت تظاهرات وفعاليات احتجاجية بمستويات متباينة.
وفي أولى تظاهرات جمعة منذ التعليق الطوعي للتظاهرات من قبل الحراك منتصف شهر مارس/ آذار الماضي على خلفية أزمة فيروس كورونا، شهدت ولايات الجزائر مسيرات وتجمعات تجدد التمسك بالمطالب المركزية المعلنة منذ الانطلاقة الأولى للحراك في 22 فبراير/ شباط 2019.
وإضافة إلى العاصمة التي سرقت الأضواء في الانطلاقة الثانية للحراك على مستوى الحجم الكبير للمظاهرات، فإنّ ولايات ومدن منطقة القبائل شهدت هي الأخرى حشوداً كبيرة شاركت في المسيرات ظهر الجمعة، كمدن تيزي وزو وبجاية وخراطة والقصر والبويرة، وهي المنطقة المعروفة تاريخياً بتمردها السياسي على السلطة لظروف وسياقات خاصة.
وفي خريطة توزع مظاهرات الحراك الأخيرة، تبدو أكثر المفاجآت بالنسبة للمراقبين تلك التي تتعلق باستئناف المظاهرات بحجم مقبول في ولايات المسيلة والجلفة والمدية وسط البلاد، وسطيف وعنابة وقسنطينة وميلة شرقي البلاد، ومعسكر غربي البلاد، وهي ولايات كانت معروفة بكونها عمقاً انتخابياً لأحزاب السلطة وحزاماً سياسياً لها، ومناطق خاملة لم تنشأ فيها على مدار عقود أي "مقاومة" لخيارات السلطة.
وأظهرت عودة التظاهرات بهذه القوة في هذه المناطق وجود تحوّل نوعي في الموقف الشعبي من السلطة وخياراتها، ويجد ذلك تفسيره في مستوى الغصب بهذه المناطق وتحفظها على بعض بنود الدستور الذي طرحه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للاستفتاء في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ويرى الإعلامي مروان لوناس، الذي يهتم بشكل دوري برصد ومتابعة التوزع المناطقي للحراك الشعبي، أنّ "خروج المظاهرات في هذه المناطق يجد تفسيره في مستوى خيبة أمل السكان من السلطة، على المستويين السياسي والاجتماعي، لا سيما أنها مناطق تعيش مشكلات كبيرة في البنى التحتية".
وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد": "أظن أنّ الوعود التي قدمتها السلطة ولم تنجز، وسنة من تعليق المظاهرات وكورونا، كشفت عورة وفشل السلطة وعجزها الكبير، كما أن عودة رموز فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والإفراج في الفترة السابقة عن القائد السابق لجهاز المخابرات محمد مدين ومن معه، اعتبرا انقلاباً على الخط الذي رسمه قائد الجيش السابق الفريق أحمد قايد صالح، كلها عوامل تشجع هذه المناطق المحافظة على الخروج إلى الشارع".
في مقام آخر، تبرز كتلة ثالثة من الولايات التي حاولت استعادة نفس الحراك الشعبي، لكن الناشطين اكتفوا فيها بوقفات وتجمعات محدودة العدد، سواء بسبب غياب التعبئة المسبقة أو لعوامل مناطقية، لا سيما في مناطق الجنوب كأدرار وورقلة ووادي سوف، والبيض وتلمسان غربي الجزائر، وسكيكدة وخنشلة وباتنة شرقي البلاد، والبليدة وسط البلاد.
ولفت غياب التظاهرات في ولاية وهران، رابع أهم مدن وولايات الجزائر الانتباه، حيث فشل الناشطون في تنظيم وقفة؛ بسبب قلة العدد، ما سهل على قوات الشرطة فضها وتوقيف المحتجين.
كما غابت التظاهرات بشكل كامل عن بعض الولايات، كتيبازة القريبة من العاصمة وبعض الولايات في أقصى الجنوب كتندوف وتمنراست وغرداية، وكذا الأغواط وسط الجزائر، وهي ولايات ظلت مشاركتها في فعاليات الحراك محدودة، حتى في الموجة الأولى للحراك عام 2019.
وبلغ مجموع الناشطين المعتقلين أمس الجمعة، بحسب الناشط في الحراك الشعبي زكي حناش الذي يتولى متابعة ملف الاعتقالات، 750 متظاهراً عبر 30 ولاية جرت فيها المظاهرات، لكنه تم إخلاء سبيلهم في اليوم نفسه، بينهم 60 ناشطاً في وهران و50 ناشطاً في عنابة و40 ناشطاً في وادي سوف.