مع السابع من أكتوبر 2023، سارعت الفواعل ومراكز صنع القرار الدولية إلى إدانة هجوم كتائب القسام وأذرع المقاومة على مستوطنات غلاف غزّة، كما سارعت إسرائيل إلى بناء دعايةٍ سياسيةٍ تقوم على "دعشنة" حماس خاصّةً، واتهامها بارتكاب فظائع، مثل الاغتصاب وقطع الرؤوس وقتل الأطفال، وهي دعايةٌ تبنّاها مباشرةً قادة وزعماء الولايات المتّحدة وأوروبا، قبل التراجع عن جزءٍ منها لاحقًا. توالت تصريحات إدانة الهجوم دوليًّا، ورافقت هذه التصريحات زياراتٌ تضامنيةٌ لرؤساء وزعماء ووزراء دولٍ مركزيةٍ، مثل الولايات المتّحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا وايطاليا وغيرها. أكّدت هذه الزيارات على ما سمي "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بالتوازي مع ضخ مساعداتٍ عسكريةٍ واقتصاديةٍ من دولٍ عدّةٍ أبرزها الولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا.
استنادًا إلى هذا الدعم، شنت إسرائيل هجومها الجوي والبحري والمدفعي، ومن ثم البري على قطاع غزّة، على التوازي مع عزل القطاع عن العالم الخارجي، عبر حصارٍ مطبقٍ.
مع تصاعد العدوان على القطاع، بدأت مواقف اللاعبين الدوليين والإقليميين تتغيّر، مطالبةً بوقف إطلاق النار، وفتح المعابر أمام المساعدات الدولية، وصولاً إلى الدعوة لتفعيل المسار سياسي، الذي يفضي إلى دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ تعبر عن إرادة الفلسطينيين بالحرية والاستقلال، وهو خطابٌ مستجيبٌ لمزاج الشارع والرأي العامّ الدوليين.
تفاعل مسار الرأي العامّ، ومواقف السياسة الدوليين مع الحرب ومسارها وتأثيراتها واستجاباتها، لكن تفاوتت حدود الاستجابة، وفق محدداتٍ تختلف من فاعلٍ إلى آخر.
من الضروري الاستثمار بهذه المواقف الأوروبية، والبناء عليها وتثبيتها لدعم النضال الفلسطيني
الشارع والرأي العام الدولي
ولدت جرائم الاحتلال في غزّة، وطبيعة العدوان ومخرجاته، تضامنًا شعبيًّا واسعًا، نادى بوقف الحرب وإدخال المساعدة والحرية لفلسطين، امتد من شمال العالم إلى جنوبه، وتجاوزت رسائل الاحتجاجات الشعبية ذلك مطالبةً الحكومات بوقف تمويل وتذخير الحرب، خاصّةً في الولايات المتّحدة، وقطع العلاقات الدبلوماسية، خاصّةً في الدول العربية.
شاركت عشرات الأجسام والهيئات المنظّمة في التظاهرات الأميركية، وهي هيئاتٌ فلسطينيةٌ، أو مساندةٌ للقضية الفلسطينية، أو متحالفةٌ معها. ما أدّى إلى تظاهراتٍ ضخمةٍ منها تظاهرة 2023/11/4، الأكبر في تاريخ دعم القضية الفلسطينية في الولايات المتّحدة. كما واكبت ذلك فعالياتٌ احتجاجيةٌ متنوعةٌ شملت تعطيل حركة السير، والاحتجاج في محطّات القطار، والتظاهر في محيط الكونغرس، والاحتجاج في قلب الموانئ التي تصدر منها الأسلّحة إلى إسرائيل.
امتد هذا المشهد إلى مجمل أوروبا، رغم تفاوت الفعل الميداني المساند للقضية الفلسطينية بين الدول الأوروبية المختلفة. برزت بريطانيا بالمشهد في تظاهراتٍ هي الأكبر في تاريخها، بتنظيمٍ من ائتلافاتٍ تضامنيةٍ، معظمها تعمل ضمن هيئة التنسيق الأوروبية، وهي تنسيقيةٌ جامعةٌ على مستوى القارة، تنشط في 18 دولةٍ.
رغم التظاهرات الكبيرة والمؤثرة في العشرات من دول العالم، خاصّةً الإسلامية كإندونيسيا وماليزيا، فإنّ الثقل السياسي لتظاهرات أوروبا والولايات المتّحدة يتمحور حول موقف حكومات هذه الدول الداعم لإسرائيل، الذي أعطاها الغطاء الحربي منذ اليوم الأوّل.
مواقف الدول والحكومات.. تحوّلاتٌ واستجاباتٌ
كانت الولايات المتّحدة أوّل من هرع لإسرائيل بعد 7 أكتوبر، بزياراتٍ داعمةٍ عالية المستوى، شملت الرئيس جو بايدن، ووزراء خارجيته ودفاعه، ومستشار الأمن القومي، ورئيس وكالة الاستخبارات، وحضروا جميعهم اجتماعاتٍ لمجلس الحرب كشركاء، مع استدعاء حاملتي الطائرات فورد وأيزنهاور إلى المنطقة، وتفعيل التحالف البحري في البحر الأحمر، في مواجهة التدخل الحوثي الداعم للفلسطينيين، وتشكيل حالةٍ مانعةٍ في مجلس الأمن أمام أيّ قرارٍ لوقف إطلاق النار، وفتح المعابر أمام المساعدات.
أوروبيًا، ظهر الدعم البريطاني بموقعه التقليدي، الأقرب للموقف الأميركي بدايةً، قبل أن يشهد تحوّلاتٍ باتجاه الانسجام مع الموقف الأوروبي، الذي تحوّل أيضًا من الدعم المطلق لإسرائيل، إلى دعم وقف إطلاق النار، وفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية، وصولاً إلى تفاعلاتٍ أوروبيةٍ تصاعدت باتجاه التفكير بمستقبل القطاع السياسي.
على الطرف الآخر، برز الموقف الروسي، وبدرجة أقلّ الموقف الصيني، كموقفين داعمين كثيرًا لوقف إطلاق النار دون شروطٍ، وإدانة العدوان ورفع الحصار.
الثابت والمتغير في المواقف الأميركية والأوروبية
تاريخيًّا، كانت إسرائيل حليفًا عضويًّا للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط، وسط علاقةٍ مركبةٍ ومتراكمةٍ جعلت من إسرائيل جزءًا من السياسة الداخلية الأميركية، كمساحةٍ غير قابلةٍ للمساس، أو المقايضة الإقليمية، إذ بُنيت هذه العلاقة على عوامل سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ ودينيةٍ معقدةٍ. بالمقابل، يمكن اعتبار العلاقات الإسرائيلية الأوروبية علاقاتٍ استراتيجيةً، تمأسست بأكثر من 350 اتّفاقية تعاون بين الطرفين منذ عام 1995، عدا عن العلاقات الثنائية بين إسرائيل وكلّ دولةٍ أوروبيةٍ على حدّة.
ولدت جرائم الاحتلال في غزّة، وطبيعة العدوان ومخرجاته، تضامنًا شعبيًّا واسعًا، نادى بوقف الحرب وإدخال المساعدة والحرية لفلسطين
من هنا، نستطيع فهم العلاقات الإسرائيلية الأوروبية كجزءٍ من كلٍّ، أي كعلاقةٍ ذات أهمّيةٍ مرتفعةٍ، وسط إقليمٍ مجاورٍ شديد الأهمّية لأوروبا، لأحكامٍ اقتصاديةٍ وأمنيةٍ وسياسيةٍ، ما يجعل العلاقة بين الطرفين ورقةً ترتفع قيمتها، أو تهبط وفق حسابات الربح والخسارة، المصلحة والقوّة.
في المقابل، تحظى العلاقات الإسرائيلية الأميركية بمساحةٍ غير قابلةٍ للمقارنة بأيّة علاقاتٍ أميركيةٍ إقليميةٍ في الشرق الأوسط، رغم علاقاتها الاستراتيجية مع معظم الفواعل المركزيين في المنطقة، لكنها –أي علاقة تل أبيب مع واشنطن- غير خاضعةٍ لحسابات التقديرات الجيوسياسية المتقلبة. وهذا ما يفسّر أيضًا الانخراط الأميركي غير المشروط في الحرب على غزّة، كفاعلٍ ومشرفٍ وممولٍ ومذخرٍ.
على الطرف الآخر؛ يستجيب الموقف الروسي لتحوّلات علاقات موسكو الدولية بعد الحرب الأوكرانية، وتحوّلات انحيازات موسكو، التي كانت العلاقات الروسية الإسرائيلية إحدى ضحاياها، بعد تأرجح موقف إسرائيل في بداية الحرب، قبل أن ينحاز للخط الغربي كلّيًا. روسيا، وبجانبها الصين، تراقبان سلوك واشنطن في المنطقة، ولعل أفضل السيناريوهات بالنسبة لهما هو غرق واشنطن في وحل المنطقة من جديد، وهو ما تحاول الولايات المتّحدة تحاشيه.
عودة إلى الرأي العام
من هنا، رغم أهمّية الرأي العام في الولايات المتّحدة، فإنّ تأثيره غير كبيرٍ على المدى القصير في كلّ القضايا المتصلة بإسرائيل، ولا يجب التعويل عليه لتحويل الموقف الأميركي جذريًا. لكن يمتلك الشارع مساحة فعلٍ قد تتمكّن في خلخلة السلوك السياسي الرسمي، ليصبح أقلّ حدّةً، وأكثر أخلاقية على المدى القصير، وهذا ما ظهر في خطابات فواعل الإدارة الأميركية، التي تحاول إظهار مقاربتها للعامل الإنساني المتصل بالمساعدات، والسعي إلى الهدنة، رغم عدم التخلّي عن الانحياز المبدئي لـ "أمن إسرائيل".
إنّ هذه الشقوق في السياسة الخارجية الأميركية قابلةٌ للتوسع، في ظلّ وجود تيّارٍ تقدميٍ داخل الحزب الديمقراطي، لكن هذا التوسع لا يمتلك الحواضن التي تضعه هدفًا استراتيجيًّا، فالحضور المساند للقضية الفلسطينية لا يزال سياسيًّا بمحدودية على مستوى التنظيم المؤسساتي، على مستوى الأجسام والمنظّمات والمجموعات التي تعمل في هذا المجال.
لكن الوضع مختلفٌ على المستوى الأوروبي، إذ أدّى الجهد المنظّم من قبل المؤسسات والمجموعات المساندة للقضية الفلسطينية لمسيراتٍ حاشدةٍ داعمةٍ أدّت إلى تراجع لندن- ولو جزئي- عن دعمها المطلق وغير المشروط للحرب الإسرائيلية، هذا مشهد كان أوضح في باقي الدول الأوروبية المركزية، إذ فرض حديث الاتّحاد الأوروبي المتصاعد عن ضرورة وقف إطلاق النار، والعودة لمسارٍ سياسيٍ يفضي لحلّ الدولتين التغيير في مواقفها، كما انعكس على سياسات دوله الخارجية المنفردة، وأبرزها فرنسا وألمانيا.
من الضروري الاستثمار بهذه المواقف الأوروبية، والبناء عليها وتثبيتها لدعم النضال الفلسطيني، من خلال مسارين: الأوّل دبلوماسي فلسطيني رسمي، يعتمد مقاربةً مختلفةً، تقوم على قراءة شبكة مصالح هذه الدول والضغط عليها من الداخل، عبر شارعها ونخبها، ومن الخارج عبر تحالفاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ فلسطينيةٍ محددة الغرض، لكن هذا الجهد لن ينجح دون مسارٍ ثانٍ يتكامل معه، يقوم على الفعل الشعبي المنظّم والمتناسق الأدوار، وهذا مسار ينطبق أيضًا على الولايات المتّحدة وشارعها.
تقف ثلاثة معيقاتٍ مركزيةٍ أمام هذا الاستثمار، أوّلها الانقسام الفلسطيني، الذي يعكس نفسه في العمل المؤسسي المساند للقضية الفلسطينية في أوروبا، ويخلق حالةً من التشتت، وربّما التنافس المؤذي. وثانيها؛ تآكل العديد من مفاصل الدبلوماسية الفلسطينية في أوروبا، وضعف قدرتها على إحداث الاختراقات اللازمة، رغم بروز حالاتٍ إيجابيةٍ عديدة أخيرًا. وثالثها؛ غياب البنية التحتية اللازمة لإعادة بناء شبكة تحالفاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ دافعة بهذا الاتجاه.
يتطلّب تجاوز هذه المعيقات فهمًا مختلفًا للسياسة فلسطينيًّا، وبرنامج أولويّاتٍ وطنيًا شاملًا وجامعًا، واستراتيجيةً واضحةً ومتكاملة الأركان والفواعل للدبلوماسيتين الرسمية والعامة.