المقاومة الفلسطينية في عالم متغير

30 يونيو 2024
من تصدي الفلسطينيين لاقتحام قوات الاحتلال مخيم بلاطة في الضفة الغربية (زين جعفر/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في السابع من أكتوبر، تعرض الاحتلال الإسرائيلي لانتكاسة كبيرة أثرت على صورته العالمية وكشفت ضعف منظوماته الدفاعية والاستخباراتية، مما أدى إلى تفاقم الانقسامات داخل إسرائيل وأبرز الضعف الاستراتيجي للحكومة.
- المقاومة الفلسطينية نجحت في مواجهة الهجمة الإسرائيلية بصمود وضربات موجعة، محافظةً على سقفها السياسي واستقطاب الدعم العالمي، بينما عجز النظام السياسي الفلسطيني عن استثمار اللحظة، مما أدى إلى تفاقم الانقسام.
- تبرز أهمية الانتقال إلى مرحلة المقاومة الشاملة والجماعية ضد الاحتلال، حيث تمثل وثيقة "لماذا طوفان الأقصى" خطوة نحو تقديم رؤية سياسية ناضجة تعزز الوحدة الوطنية وتحول التضحيات إلى مكاسب تدعم القضية الفلسطينية.

لم يمثّل السابع من أكتوبر/تشرين الأول ذروة الفعل الفلسطيني المقاوم ومحطةً مفصليةً في الصراع العربي الإسرائيلي فقط، بل مثّل لحظة اختبارٍ تاريخيةً وضعت الاحتلال، والعالم، والقضية الفلسطينية، وحركات المقاومة في مواجهةٍ ذات طبيعةٍ استراتيجيةٍ، تدفع الأطراف كافّةً إلى إظهار أوراقهم وقدرتهم على استثمار عوامل قوتهم، ومواجهة نقاط ضعفهم، والتعامل مع واقعٍ يتشكل ويترك دلالاته وآثاره لسنواتٍ طويلةٍ قادمةٍ. إنّها مواجهةٌ لن يخرج منها أيّ طرفٍ كما كان قبلها، ولن يعود بعدها العالم على الشاكلة التي ألفناها قبلها.

إذ تلقى الاحتلال الضربة الأولى، وتعرض لانتكاسةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخه، هزت أركانه، وأدخلته في أزمةٍ وجوديةٍ أفقدته رصيده التاريخي من الردع، وعرت هشاشة منظوماته الاستخباراتية والدفاعية، وما ترتب على هذا من ارتداداتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ مست مناعته، وهزت صورته أمام العالم، وفجرت تناقضاته، خصوصًا أنها جاءت في ظلّ حكومةٍ يمينيةٍ فاشيةٍ متطرفةٍ، قادت سياساتها الداخلية، والإصلاحات التي أرادت قلب المجتمع من خلالها إلى خلق لحظة ضعفٍ استراتيجيةٍ، وحالة انقسامٍ غير مسبوقةٍ فاقمتها المقاومة بعمليتها، التي قادت الى الخروج إلى حربٍ تبدو أهدافها غير واقعيةٍ، وغير قابلةٍ للتحقق، بسبب عدم امتلاك اليمين رؤيةً سياسيةً واضحةً، وعجزه عن إدارة الحرب بطريقةٍ تبقي على الزخم العالمي لصالح إسرائيل.

نجحت المقاومة في خلق حدثٍ استراتيجيٍ، وفي الوقت ذاته وضعت نفسها وقوتها ومنظوماتها وأدواتها في مواجهة هجمةٍ وحشيةٍ وحرب إبادةٍ استغلها الاحتلال من أجل تنفيذ مخططات تهجيرٍ، تستند إلى القتل الجماعي والتدمير المنهجي للبنية التحية، وجعل القطاع أرضًا محروقةً لا تصلح للعيش، ناهيك عن محاولة تصفية القضية الفلسطينية، وحسم الصراع في الضفّة الغربية، من خلال تكثيف الاستيطان، والتضيق على الفلسطينيين بالإغلاق والحواجز والبوابات، وعمليات القتل، والاقتحامات، واستهداف المقاومين وحاضنتهم الشعبية، بالتزامن مع مضاعفة وتيرة تهويد القدس، وتغير الأمر الواقع في المسجد الأقصى.

صمدت المقاومة، ووجهت ضرباتٍ موجعةً للاحتلال، كما حافظت على سقفها السياسي، واستطاعت أن تستقطب عطف الملايين حول العالم

في حين عجز النظام السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي في منظّمة التحرير عن استثمار حالة التخبط والانحطاط التي تمر بها دولة الاحتلال، كما عجز عن التقاط اللحظة الدولية المواتية، ولم ينجح في البناء على الشعور بالخطر الوجودي داخليًا، للتخلص من أزماته، وخوض غمار المواجهة جماعيًا، كي يعيد الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني، يمكّنه من مواجهة التحديات الوجودية التي يقابلها.

لقد باغتت الأحداث المنظومة المتآكلة ووضعتها في قلب العاصفة، التي لم تهييء نفسها للتعامل معها ونظرت إليها بشيءٍ من الذهول والرعب، لذا تصرفت بنوعٍ من العجز والتخاذل، وفضلت الترقب والانتظار، وعدم التدخل الفاعل، ما جعل الأحداث تتجاوزها وتتجاوز خطابها، وافقدها رصيدها الشعبي، ووضعها في حالة عجزٍ تتلقى فيها الضربات من دون أيّ قدرةٍ على المبادرة، أو القيام بأيّ دورٍ فاعلٍ داخليًا وخارجيًا، الأمر الذي أوصل السلطة الفلسطينية والمنظّمة إلى حالةٍ أقرب إلى الانهيار والتداعي.

حرب إبادةٍ وحسمٍ للصراع

وضع الاحتلال هدف القضاء على المقاومة على رأس سلم أولويّاته في الحرب البشعة التي شنها على الشعب الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر. إذ لم تقتصر أهداف الحرب على محاولة القضاء على بنية المقاومة العسكرية، ومنظومة الحكم التي أدارت قطاع غزّة، وتصفية قادة المقاومة وكتائبها، بل استهدفت كلّ الوجود الفلسطيني في الضفّة الغربية والقدس، وفي الداخل الذي أراد اليمين الفاشي أن يعيده إلى سنوات الحكم العسكري، ويصادر مكتسباته التاريخية، ما يترجم رؤية اليمين في حسم الصراع بالقوّة، وتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة الاحتلال المباشر للأراضي الفلسطينية كافّة، وإدارتها بما يخدم مشروع اليمين وتطلعاته. واجه هذا الهدف معضلتين أساسيتين، هما:

1-    قدرة المقاومة على الصمود، وعجز الاحتلال عن اجتثاثها، وبالتالي تراجعه ضمنًا عن هذا الهدف، واقتصاره على حسم المعركة معها عسكريًا، وتجريدها من سلاحها، وهو هدفٌ لا يزال عاجزًا عن تحقيقه.

2-    غياب الإجماع والتوافق الداخلي بشأن عودة إدارة الجيش ومنظومة الأمن المباشرة للأراضي المحتلة، من خلال إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية، وصولًا إلى انهيارها، أو البقاء في قطاع غزّة وعودة الاستيطان إليه، بكل الأثمان المترتبة على هذه الخطوات بشريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وهو ما عُبّرَ عنه في التخبط بشأن "اليوم التالي للحرب". حوّل هذا التخبط الحرب على قطاع غزّة إلى عملية إبادةٍ تدور في حلقةٍ مفرغةٍ، كما حّول وجود جيش الاحتلال إلى عملية استنزافٍ، ومراوحةٍ في المكان، أفقدت إسرائيل عنصر المبادرة، وحاصرتها عالميًا، وشقت مجتمعها.

هذه اللحظة الفاصلة في المعركة، هي اللحظة التي تنتقل فيها المبادرة إلى يد المقاومة

امتحان المقاومة

رغم الضربات الموجعة التي تلقتها المقاومة الفلسطينية، والخسائر الكبيرة في الأرواح بفعل المجازر التي نفذها جيش الاحتلال، والدمار في البنية التحتية، وظروف المجاعة والحصار، الذي يعاني منه شعبنا في قطاع غزّة، صمدت المقاومة، ووجهت ضرباتٍ موجعةً للاحتلال، كما حافظت على سقفها السياسي، واستطاعت أن تستقطب عطف الملايين حول العالم واحترامهم ودعمهم، ممن خرجوا في العواصم الكبرى والجامعات مطالبين بوقف حرب الإبادة الإسرائيلية.

استمرار الاحتلال في عدوانه على قطاع غزّة والضفّة الغربية والقدس يضع المقاومة الفلسطينية أمام امتحانٍ وجوديٍ، لا يتعلق في قدرتها على الصمود والحفاظ على وجودها فقط، بل بنجاحها في استثمار التضحيات والثمن الكبير الذي دفعه شعبنا وتحويلها إلى مكاسب سياسيةٍ تصب في إدامة عزلة الاحتلال وتوسيعها ونبذه عالميًا، واستقطاب الدعم السياسي والمعنوي دوليًا وتحويله إلى خطواتٍ عمليةٍ تحمي قضية شعبنا من التصفية.

ميدانيًا تجد المقاومة نفسها أمام اختبارٍ حقيقيٍ أيضًا بشأن قدرتها على جعل وجود الاحتلال في قطاع غزّة مكلفًا، بما يقصر من عمر بقائه، ويضطره إلى الاندحار.

يتطلب كلّ ذلك اتّخاذ خطواتٍ سياسيةٍ، ربّما؛ أهمّها إعلان حركة حماس عن وثيقتها السياسية في شهر يناير/كانون الثاني، المعنونة "لماذا طوفان الأقصى"، التي قدمت الحركة من خلالها رؤيةً سياسيةً ناضجةً، وخطابًا يمكن للعالم التماهي معه، لانسجامه مع القوانين والقرارات الدولية، ونزع ذريعة العدمية والإرهاب ومحاولة شيطنتها من قبل الاحتلال لتبرير حرب الإبادة التي يقوم بها منذ أكتوبر الفائت.

لا تمكن الوثيقة من حشد الدعم الدولي وتسهل تماهي دول العالم مع مظلومية شعبنا والدفاع عن وجوده فقط، بل تمد أيضًا جسورًا لإعادة بناء الجبهة الداخلية، واستعادة الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام الداخلي، وهو عنصرٌ حاسمٌ في قدرة المقاومة على الصمود ودحر الاحتلال، وإجهاض مخططاته، والتقدم بقضية الشعب الفلسطيني على اعتبارها قضية تحررٍ عادلةٍ.

الانتقال إلى مرحلة الاستنزاف

إعلان الاحتلال عن اقترابه من استكمال عملية إعادة احتلال رفح، والسيطرة على محور فيلادلفيا، وإنهائه إعادة احتلال القطاع، يعبر عن فشله العملي في استعادة أسراه، وفي القضاء على المقاومة، وهو ما يدخله في حرب استنزافٍ قادرةً على جعل وجوده مكلفًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وبشريًا.

تلقى الاحتلال الضربة الأولى، وتعرض لانتكاسةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخه، هزت أركانه، وأدخلته في أزمةٍ وجوديةٍ

هذه اللحظة الفاصلة في المعركة، هي اللحظة التي تنتقل فيها المبادرة إلى يد المقاومة، وهي لن تستطيع إحراز أهدافها فيها عبر تفجير التناقضات داخل مجتمع الاحتلال، الذي رغم إجماعه على الحرب، إلّا أنّه لا يجمع على البقاء في قطاع غزّة، وإعادة احتلاله وإدارته، بل عبر إدراكها أن هذه اللحظة من عمر المعركة تتطلّب مرونةً تكتيكيةً، عبر الانتقال من المقاومة التي تعتمد على الكتائب المنظمة والعمل العسكري شبه النظامي، إلى نمط المقاومة الشاملة الوطنية والشعبية، التي تلاحق قوات الاحتلال في مواقع تمركزها، وتستنهض الكتلة الشعبية، ووسائل النضال الجماهيرية، وأنماط التنظيم الشعبية للحفاظ على بنية المجتمع والزج بطاقاته في بوتقة المواجهة الشاملة بكل أنواعها ضدّ الاحتلال ووجوده.

تستلزم مرحلة المقاومة الشاملة شعاراتٍ وأشكال تنظيمٍ وأدوات عملٍ تشاركيةً، قائمةً على التفاف شعبيٍ أعقد وأوسع من المقاومة شبه النظامية، وهي قادرةٌ على التشبيك مع الضفّة الغربية والقدس، ليس من باب الالتحاق بمعركة غزّة، بل بغرض تثوير الحالة الفلسطينية برمتها، ما يحولها ويحول مطالبها إلى مطالب وطنيةٍ جذريةٍ بعيدة المدى، ترمي إلى استنزاف الاحتلال وصولًا إلى دحره من كلّ الأراضي المحتلة وليس من القطاع فقط.

إنّ المقاومة الشاملة (في الضفّة الغربية وقطاع غزّة والقدس) والجماعية الناضجة هي الضمانة الوحيدة لتحويل حدثٍ مفصليٍ، مثل السابع من أكتوبر، إلى نقطة انطلاقٍ نحو الحرية ودحر الاحتلال، بدلًا من أن يحولها الاحتلال إلى فرصةٍ لتنفيذ حرب إبادةٍ شاملةٍ، وخطوةٍ أخرى نحو تصفية القضية الفلسطينية.