يشرع الرئيس التونسي قيس سعيد، بوضع النص الخاص بإحداث المحكمة الدستورية الجديدة قبل أن يدخل الدستور حيز النفاذ، في وقت اعتبر خبراء القانون الدستوري، أنها ستكون هيئة موالية منزوعة الصلاحيات، وغير قادرة على فرض علوية الدستور والتصدي لأي انحراف بالسلطة.
ودعا الرئيس التونسي قيس سعيد، الأربعاء الماضي، خلال لقائه رئيسة الحكومة نجلاء بودن، إلى "ضرورة إعداد مشروع نصّ للمحكمة الدستورية، تطبيقاً لأحكام الدستور الجديد وضماناً حقيقياً لعلويته".
وبحسب بيان للرئاسة التونسية، فقد دعا سعيد في السياق نفسه إلى "ضرورة إعداد مشروع مرسوم يتعلق بالانتخابات، لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب المقبل، ثم لانتخاب أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي يقتضي نظاماً انتخابياً خاصاً".
وأكد أستاذ القانون الدستوري، خالد الدبابي، في تعليق لـ"العربي الجديد" أنه "لا يمكن إصدار القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية بمجرد مرسوم، لأن الدستور يتحدث عن ضرورة إصدار قانون أساسي ينظمها وجميع الهيئات، وخصوصاً المحكمة الدستورية، حيث يجب أن تتخذ شكل قانون وليس مرسوماً"، مشيراً إلى أنه "يمكن لرئيس الجمهورية أن يرى عكس ذلك ويواصل العمل بالأمر 117، ويتم اتخاذ القوانين الأساسية بواسطة مراسيم".
وتسير البلاد وفق الأمر 117 الذي أصدره سعيد في سبتمبر/أيلول 2021، وعوّض به دستور 2014، وعلق غالبية بنوده ومكّنه من التفرد بالسلطات.
واعتبر الدبابي أن الدستور الجديد "سيُحدث محكمة دستورية محدودة الصلاحيات والتركيبة"، قائلاً إن "نقاط ضعف المحكمة الدستورية الجديدة عديدة على مستوى التركيبة والصلاحيات"، مفسراً بأنه "تم حصرها في تركيبة قضائية بحتة، وهو ما يتعارض مع ما هو موجود في القانون المقارن، لأن المحاكم الدستورية في التجارب الديمقراطية المقارنة تتركب من رجال قانون نظريين أساساً، جامعيين مختصين بالقانون العام والدستوري تحديداً، ورجال قانون عمليين من قضاة ومحاميين".
واستدرك بأن "حصر المسألة في تركيبة قانونية صرفة لا يستقيم، لأن القضاة العدليين والماليين والإداريين لا علاقة لهم بالقانون الدستوري، وهم غير مختصين بفقه القضاء الدستوري".
وشدد الدبابي على أن "القانون الدستوري اختصاص علمي وفرع من فروع القانون، مستقل بذاته، ومسألة تأويل النصوص الدستورية وفرض علوية الدستور هي من اختصاص أهل القانون الدستوري، ولا يمكن سحب هذا الاختصاص منهم وإعطاؤه للقضاة".
وتابع أن "القضاة الذين سيتم تعيينهم هم قضاة متقاعدون، وكما شبهه زملاء من أساتذة القانون الدستوري المحكمة الدستورية بأنها ستصبح أشبه بنادي متقاعدين، أي إنهم قضاة في آخر مسارهم المهني لا ينتظرون من العضوية سوى إضافة هذه التسمية إلى سيرهم الذاتية".
وشدد الدبابي على أن "المحكمة الدستورية القادمة ستكون محكمة محافظة، ولن تنتصر للحقوق والحريات ولا لدولة القانون، بل ستكون محكمة قريبة من السلطة، وتحديداً من رئيس الجمهورية الذي يعيّنها".
وأشار إلى أن "الدستور الجديد سحب من القضاء السلطة، وحولها إلى مجرد وظيفة يتحكم فيها رئيس الجمهورية الذي يعين القضاة، بعد أن تم التخلي عن الرأي المطابق للمجلس الأعلى للقضاء الذي كان في دستور 2014".
وبيّن الدبابي أن "صلاحيات المحكمة الدستورية محدودة لأنها حصرت في الرقابة على دستورية القوانين، على عكس المحاكم الدستورية في القوانين المقارنة، التي تعد مراقبة دستورية القوانين فيها جزءاً من العدالة الدستورية، فهي تتمتع بصلاحيات أخرى في ما يتعلق بالرقابة على السلطات، وفرض احترام هذه السلطات للدستور".
وأشار الدبابي إلى أن "في دستور 2014، من مهام المحكمة الدستورية فض نزاعات الاختصاص بين رئيسي الحكومة والجمهورية، وإمكانية عزل رئيس الجمهورية في الفصل 88 عند ارتكابه الخرق الجسيم".
وجاء في الفصل 125 من الدستور الجديد أنّ "المحكمة الدستورية تتركب من تسعة أعضاء، ثلثهم الأول من أقدم رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التّعقيبية بالمحكمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات".
و"ينتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيساً لها، طبقاً لما يضبطه القانون. وإذا بلغ أحد الأعضاء سن الإحالة على التقاعد، يتم تعويضه آلياً بمن يليه في الأقدمية، على ألا تقل مدّة العضوية في كل الحالات عن سنة واحدة".
ومنع الفصل 126 من مشروع الدستور، "الجمع بين عضوية المحكمة الدستورية ومباشرة أيّ وظائف أو مهام أخرى".
ومنح سعيد في الدستور الجديد اختصاصاً لم يخوله دستور 2014 للمحكمة الدستورية، حيث سحب من رئيس البرلمان في حالات الشغور النهائي في رئاسة الجمهورية، نيابة الرئيس وقتياً حتى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومنحها لرئيس المحكمة الدستورية.
واعتبرت أستاذة القانون الدستوري، هناء بن عبدة، في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "المحكمة الدستورية حسب الدستور الجديد، من حيث تركيبتها ومدة عضوية القضاة واختصاصاتها لا تحقق الرقابة الدستورية اللازمة".
وفسرت بن عبدة نقاط ضعف المحكمة الدستورية الجديدة في أن "جميع أعضائها من القضاة المباشرين لأعمالهم دون اختصاصات أخرى، أي إنها محكمة دستورية لا تتضمن أي مختص في القانون الدستوري، فلا علاقة لقضاة محكمة المحاسبات والعدليين بالقانون الدستوري، وربما هناك بعض التقاطع بالنسبة للقضاة الإداريين مع فقه القضاء الدستوري".
وبيّنت بن عبدة أن "خلو المحكمة الدستورية من مختصين في القانون الدستوري سيؤثر على جودة فقه القضاء الدستوري في تونس".
وقالت إن "أبرز نقاط الضعف أنها محكمة معيّنة من رئيس الجمهورية الذي سيختار قضاة لا يزعجونه، ومن يراهم هو مناسبين له، بحسب سلطته التقديرية".
وشددت أستاذة القانون الدستوري، على أن مدة القاضي في المحكمة "تتراوح بين سنة وبضع سنوات، فهو لا يعرف مدة بقائه في المحكمة الدستورية، ولكنه يعيّن على أبواب التقاعد من أقدم القضاة في محكمة التعقيب"، مضيفة أن "المدة مهمة في المحكمة الدستورية للاستقلالية ولاستقرار فقه قضاء المحكمة الدستورية".
ويعتبر غياب المحكمة الدستورية أحد أسباب تمكّن سعيد من التفرّد بالسلطة، وتعليق العمل بالدستور في 25 يوليو/تموز 2021.
وفشلت البرلمانات المتعاقبة منذ 2014، وخلال سبع سنوات، في تشكيل المحكمة الدستورية بسبب الخلافات الحزبية والدفع نحو المحاصصة السياسية، ولم يتم انتخاب إلا عضو وحيد من 12 عضواً، خلال المدة البرلمانية 2014-2019.
وحاول البرلمان المنحل تجاوز عقبة انتخاب المحكمة الدستورية بسبب صراع كتله، وعدم توافقهم على ثلاثة مرشحين، بالمصادقة على تعديل القانون الأساسي المحدِث للمحكمة الدستورية في مارس/آذار 2021، وذلك بخفض الأغلبية المطلوبة للانتخاب من الثلثين (145 صوتاً من 217 نائباً) إلى الأغلبية المطلقة (109 من 217 نائباً)، مع حذف إلزام مجلس القضاء ورئيس الجمهورية بانتظار البرلمان لحين انتخاب نصيبه من التركيبة (الثلث).
ورفض سعيد ختم تعديلات قانون المحكمة الدستورية في مايو/أيار 2021، وهو ما اعتبره معارضوه سبباً في الأزمة السياسية، وإضماراً لحل البرلمان والحكومة، وتمهيداً لانقلاب 25 يوليو/تموز.