المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تسعى إلى ترميم مكانتها الاستراتيجية

05 ديسمبر 2023
آلية للجيش الإسرائيلي على حدود غزة، السبت (مصطفى الخاروف/الأناضول)
+ الخط -

بالتوازي مع انتهاء الهدنة الإنسانية المؤقتة وعودة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدأت تُطرح الأسئلة الصعبة في إسرائيل. من هذه الأسئلة مدى فعالية الحرب وإمكانية تحقيق أهدافها الرئيسية بتدمير قدرات حركة "حماس" العسكرية والإدارية والسياسية، والسؤال حول مصير غزة في اليوم التالي.

بطبيعة الحال فإن الإجابة عن السؤال الثاني تتعلق بالنتائج على أرض المعركة، مع أن فرضية صنّاع القرار في إسرائيل لغاية الآن تعتبر أن القضية محسومة ولا خيار آخر سوى تحقيق أهداف الحرب وتدمير قدرات "حماس" العسكرية والسياسية في غزة. مع العلم أن التاريخ والتجارب، البعيدة والقريبة، تفيد بأن تقديرات وأمنيات إسرائيل لا تترجم بالضرورة على أرض الواقع.

حرب تدمير في غزة

البارز في إدارة الحرب لغاية الآن هو موقف المؤسسة العسكرية، بقيادة وزير الأمن يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، وقيادات المؤسسات الأمنية الأخرى، والتي تدفع بكل قوة للاستمرار بالحرب والهجوم في كافة مناطق قطاع غزة.

حرب تستمر من دون أي رادع أو اعتبار للقانون الدولي، أو للنتائج الرهيبة على الأرض في غزة، من قتل مدنيين وأطفال ونساء، ودمار للبنى التحتية وللمرافق الحيوية، والتي قد تؤدي إلى تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للسكن.

وقد يكون فعلاً هذا أحد أهداف الحرب وبديلاً لإمكانية التهجير، كونه يفرض إعادة هندسة وجود سكان غزة بعد الحرب، وفقاً لخريطة الدمار.

أهداف الاحتلال لا تتعلق فقط بـ"حماس"

سعي المؤسسة العسكرية والأمنية إلى حسم المعركة وتحقيق الأهداف العسكرية، لا يتعلق فقط بأهمية تحقيق أهداف الحرب من وجهة نظر المؤسسة الأمنية، والتعويض عن الإخفاق الكبير الذي حصل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وترميم هيبة الجيش ومكانته أولاً أمام المجتمع الإسرائيلي، وترميم قدرة الردع.

هذا الموقف مرتبط أيضاً بمسعى المؤسسة العسكرية والأمنية لترميم العقيدة العسكرية الاستراتيجية برمتها، ومكانة المؤسسة العسكرية في منظومة صناعة القرار في إسرائيل، وليست تلك المتعلقة بـ"حماس" وغزة فقط.

المؤسسة الأمنية في إسرائيل من صناع القرارات بما يتعلق بالسياسات الخارجية

المؤسسة الأمنية في إسرائيل، بما يشمل الجيش والمخابرات وأجهزة التقييم ووضع التصورات المستقبلية، لا تضع فقط العقيدة القتالية والعسكرية، إنما هي واحدة من أهم المؤسسات في صناعة القرارات بما يتعلق بالسياسات الخارجية، وبما يتعلق بعلاقات إسرائيل بالمحيط العربي، وتجاه القضية الفلسطينية.

تقديرات أجهزة الجيش، شعبة المخابرات وهيئة الاستخبارات والمهمات الخاصة في إسرائيل (الموساد) وغيرها، تساهم في وضع خطوات عملية وتحديد السياسات.

فقد شاهدنا دور جهاز المخابرات الخارجي (الموساد) في ترتيب العلاقات مع الدول الخليجية في "اتفاقيات أبراهام" (اتفاقيات التطبيع مع دول عربية)، ودوره في محاولات التطبيع مع السعودية، وإدارة علاقات إسرائيل غير الرسمية مع عدد من الدول.

كما رأينا دور جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) في إدارة العلاقات مع السلطة الفلسطينية. كما يساهم الجيش الإسرائيلي في وضع التصورات والمخططات تجاه السلطة الفلسطينية والاحتلال، وينفذها على أرض الواقع.

عقيدة عسكرية ذات قوة ردع

ما حدث في السابع من أكتوبر أدى إلى انهيار مقاربة كاملة، "برادايم" كامل بمصطلحات الفيلسوف توماس كون.

هذا "البرادايم" الذي تأسس على العقيدة العسكرية القائلة إن لدى إسرائيل قدرات عسكرية تتيح لها حرية التصرف في المنطقة، منها قدرات إنذار مبكر، وقوة ردع رهيبة، وإن بإمكانها التعامل مع أي تهديد أمني، قريب أو بعيد، بالإضافة إلى أن قدراتها الاستخباراتية غير محدودة وتستطيع اكتشاف أي عملية ضدها في أي بقعة في العالم، وأنها تملك أدوات حسم أي معركة.

كما أن هذه القدرات ساهمت وتساهم في ترتيب وتطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، وهي التي تحدد السياسات تجاه السلطة الفلسطينية وغزة، بل تجاه القضية الفلسطينية برمتها. هذه المقاربة وضعت المؤسسة العسكرية في صدارة تحديد خيارات إسرائيل الاستراتيجية.

إخفاق المؤسسة الأمنية في 7 أكتوبر

عملية "طوفان الأقصى"، يتضح في الأيام الأخيرة وفقاً للإعلام الإسرائيلي، أنه كان لمخابرات الجيش الإسرائيلي وشعبة الاستخبارات (أمان) معلومات حولها عُرضت أمام قيادات الجيش، لكنها لم تتعامل معها بشكل جدي نتيجة استهتار واستخفاف قيادات الجيش بقدرات "حماس"، وعدم قناعتها بإقدام الحركة على عملية بهذا الحجم والنوعية.

قيادات الجيش رفضت التعامل بشكل جدي مع المعلومات والمعطيات لأنها لا تتلاءم مع "البرادايم" القائم، وتتناقض مع قناعات أساسية في العقيدة العسكرية الاستراتيجية الإسرائيلية.

من هنا فإن إسقاطات عملية "طوفان الأقصى"، وردة فعل المؤسسة الأمنية والعسكرية، أبعد بكثير من حاجة الجيش إلى الانتقام لهيبته المفقودة ولإعادة ثقة المجتمع الإسرائيلي بهذه المؤسسة، وبمسألة توفير الأمن لمنطقة الجنوب وفقاً للعقلية الإسرائيلية. إنما تطاول أيضاً مكانة المؤسسة العسكرية والأمنية في صناعة القرار في إسرائيل.

كسر "البرادايم" الأمني الإسرائيلي له إسقاطات على انهيار الاستراتيجيات في محاور أخرى

كسر "البرادايم" الأمني له إسقاطات فورية على انهيار الاستراتيجيات في محاور أخرى، أبرزها تجاه القضية الفلسطينية والاحتلال، ومن ثم تجاه المحيط العربي بأكمله، بل تجاه قراءة وفهم إسرائيل لذاتها. من هنا حجم الضرر الذي أوقعته عملية "طوفان الأقصى".

إسرائيل اعتقدت أن بإمكانها الاستمرار بتجاهل حالة الاحتلال والتقدم نحو الأمام، وحصار غزة، والحفاظ على الانقسام الفلسطيني من دون أي ثمن، وأن هذه الاستراتيجية تخدم مصالحها وأنها الأنسب في المعطيات الراهنة لإدارة الاحتلال والسيطرة على الأراضي الفلسطينية، وتوسيع الاستيطان وتعميقه. ليتضح الآن أنه لا يمكن الاستمرار بالوضع القائم.

بعد عملية "طوفان الأقصى" لن تكون إسرائيل اللاعب الوحيد الذي يقرر ويسيطر، ويضع السياسات ويفرض الحلول على السلطة الفلسطينية، ولن تكون تقييمات المؤسسة العسكرية والأمنية هي الأقوى في عملية صناعة القرار في هذا السياق.

سيكون على إسرائيل البدء بالبحث عن بدائل للوضع القائم تحت ضغط الإدارة الأميركية، وربما أيضاً من الدول العربية، ووسط إمكانية تفجر الأوضاع في الضفة الغربية عاجلاً أم آجلاً.

كما أعادت "طوفان الأقصى" فتح مسألة وجود قوات "حزب الله" اللبناني على الحدود الشمالية لإسرائيل، والتي تعتبرها الأخيرة تهديداً أكبر بكثير من تهديد "حماس".

فبعدما حاولت إسرائيل في العقد الأخير تقليص قدرات "حزب الله" عبر منع وصول أسلحة متطورة عن طريق سورية أو غيرها، وادعت أنها تردع الحزب، وأن الهدوء الذي يسود الحدود الشمالية لم يكن له مثيل منذ العام 2006، تكتشف الآن عدم دقة تصوراتها وتقول إنه لا مفر من مواجهة "حزب الله" بغية تغيير الواقع على الحدود الشمالية.

تشكيك بتقديرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية

التقييم الاستراتيجي الإسرائيلي دفع أيضاً إلى اتفاقيات مريحة لتطبيع العلاقات مع بعض الدول الخليجية، وإلى محاولة التوصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية يشمل بنوداً تتعلق بمشروع نووي سعودي، بموافقة إسرائيل.

"طوفان الأقصى" وضعت استمرار عملية التطبيع مع الدول العربية تحت علامات الاستفهام، خصوصاً مع السعودية، بوجود شرط إنشاء برنامج نووي مدني سعودي.

المجتمع في إسرائيل لن يطمئن لأي تقدير من قبل المؤسسة الأمنية والعسكرية يقلل من مخاطر هذا المشروع، والأحزاب السياسية في إسرائيل ستعارض ذلك، حتى لو قبِل به رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو.

أيضاً ستكون لـ"طوفان الأقصى" تداعيات كبيرة على قضية النووي الإيراني، وحقيقة امتلاك إسرائيل المعلومات عما يحدث في إيران ومعرفته، وحول قدراتها الذاتية في التعامل مع هذا المشروع. إخفاق السابع من أكتوبر سيضع علامات استفهام تجاه كل تقييم وكل قرار يأتي من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية.

من هنا تكمن أهمية حسم المعركة في غزة بالنسبة للمؤسسة الأمنية، وإعادة ترميم مكانة المؤسسة العسكرية. ومن دون ذلك لا يمكن وضع مقاربات استراتيجية جديدة، كما لا يمكن الاستمرار بالمقاربات القائمة، بكافة المحاور، من ضمنها مكانة ومركزية المؤسسات الأمنية والعسكرية في وضع الأهداف والسياسات والأدوات لدولة إسرائيل.

عملية "طوفان الأقصى" حولت غزة من منطقة محاصرة، فقيرة، تعاني يومياً من الحصار والتضييق وتتعلق بما تسمح بإدخاله إسرائيل إلى القطاع، إلى مبادر أدى إلى كسر "البرادايم" والقوالب الفكرية المهيمنة منذ أكثر من عقدين في المنطقة.

إسرائيل، تحديداً المؤسسة العسكرية والأمنية، استوعبت الحدث وتسعى إلى ضبط النتائج وتقليل الخسائر الاستراتيجية، ووضع قوالب فكرية جديدة.

أما السؤال فهو هل استوعب بقية اللاعبين، خصوصاً السلطة الفلسطينية والدول العربية، الحدث، وبدأوا بوضع تعديلات على القوالب الفكرية؟ لغاية الآن لا توجد دلائل جدية على ذلك.

المساهمون