"حياة المنفي تسير بحسب روزنامة مختلفة، أقل فصولاً واستقراراً بالقياس إلى الحياة في الوطن، فالمنفى هو حياة تُعاش خارج النظام المعتاد، حياةٌ مُرتَحِلَةٌ بلا مركز، وما إن يألفها الإنسان ويعتادها حتى تنفجر قواها المزعزعة من جديد". هكذا وصف إدوارد سعيد حالة اللاجئ عموما، والفلسطيني على وجه الخصوص، الذي قدّر عليه، بين حين وآخر، أن يكون شاهدا حيا على انفجارات حيواته المتعددة.
منذ أسابيع قليلة، استفقنا جميعا على أخبار اشتباك مسلّح في مخيم البرج الشمالي، أسفر عن قتلى ومصابين، وقبلها بأيام قليلة، شهد المخيم نفسه انفجارا ضخما نتيجة ماس كهربائي. طفت على السطح مجددا مسألة "السلاح الفلسطيني" في المخيمات اللبنانية. وناهيك عن صعوبة الأوضاع اللبنانية، في بلد انهار فعليا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، يجب على الفلسطيني دوما أن يدفع ثمن هشاشات قانونية في ظل حياة مبتسرة.
تجاهل متفاقم للاجئين الفلسطينيين
يعاني اللاجئون الفلسطينيون نسياناً وتجاهلاً مستمرين في معظم أنحاء الشرق الأوسط، سواء كان في الأردن أو سورية أو مصر، أما بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في لبنان فيدخل موضوعهم في صلب السياسة اللبنانية منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، والاجتياح الإسرائيلي العام 1982، ومحاولة سورية الأسدية إخضاع منظمة التحرير الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين، ظلّت المشكلة قائمة، وأصبح الفلسطينيون مهمشين ومحرومين من أبسط حقوقهم السياسية والاقتصادية، محاصرين في المخيمات في غياب أي آفاق لمستقبل أفضل، مسلحين وعلى التماس مع مختلف الصراعات اللبنانية-اللبنانية والفلسطينية-الفلسطينية والعربية-العربية. وصارت المخيمات في لبنان قنبلة موقوتة قابلة للاشتعال سواء بالماس الكهربائي أو بالقصد.
الأوضاع والحيوات المختلفة للفلسطينيين فاقمتها مسارات متنوعة وشكّلت ملامحها الاستثنائية، ما نتج عنه سرديات مختلفة للهوية الفلسطينية حتى بات الحديث عن شعب فلسطيني واحد مضللا والحديث عن حقوق وهويات واحدة أمرا غير حقيقي
يقول مدير "أونروا"، فيليب لازراني، في مؤتمر قسم التهجير القسري بالجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2020 "إن كل وضع يخص اللاجئين والنازحين يتميز بظروف استثنائية، ويؤدي إلى بروز احتياجات متنوعة واستجابات دولية ومسارات تاريخية. ولقد تمت معاملة اللاجئين الفلسطينيين على وجه الخصوص في الدوائر الدولية والإقليمية وفقا لروح "الاستثنائية". ففي محافل اللاجئين الدولية، تم اعتبار اللاجئين الفلسطينيين أنهم خارج حدود التحقيق النسبية أو خارج نطاق المعايير العالمية. وفي الواقع، فإن حالة اللاجئين الفلسطينيين تتسم بالعديد من الخصائص الاستثنائية بعيدة المدى، والتي تجعلها مختلفة عن أي وضع للاجئين والنازحين في كثير من النواحي".
لا يمكن الحديث عن شعب فلسطيني واحد حتى في أماكن اللجوء المختلفة، سواء كان في الأراضي المحتلة نفسها، فثمة فلسطينيو 48، وفلسطينيو الضفة، وفلسطينيو غزة، وفلسطينيو القدس، وطبعاً ثمة هويات فرعية في كل جزء من تلك الأجزاء في فلسطين التاريخية. وفي الخارج فإن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين مختلفة ومتباينة، فثمة فلسطينيو الأردن (المواطنون)، وفلسطينيو سورية ولبنان وبقية بلدان اللجوء والشتات. فرغم أنهم مشتركون في صفة اللجوء، لكنهم يعيشون حيوات مختلفة تبعث على القلق بسبب أوضاعهم السياسية المتباينة والقانونية الهشة، كمجموعات مختلفة أيضا، في حاجاتها، ونمط عيشها، وتعليمها، وثقافتها، ومطالبها، وشكل تعبيرها عن ذاتها.
مسارات تدمير الهوية الفلسطينية الواحدة
تلك الأوضاع والحيوات المختلفة للفلسطينيين فاقمتها مسارات متنوعة، وشكّلت ملامحها الاستثنائية. منها: غياب المشروع التحرري الفلسطيني، وتغييب متعمد لمنظمة التحرير الفلسطينية عبر مشروع التسوية، وقيام نظام أو كيان فلسطيني مبتسر في جزء من الأرض لجزء من الشعب مع جزء من الحقوق (تحت الاحتلال)، ما نتج عنه سرديات مختلفة للهوية الفلسطينية، حتى بات الحديث عن شعب فلسطيني واحد مضللا، والحديث عن حقوق وهويات واحدة أمرا غير حقيقي.
تمت إعادة تعريف مفهوم "تحرير فلسطين" منذ عام 1987 على أنه إقامة دولة فلسطينية في أي جزء من المناطق المحتلة التي تنسحب منها إسرائيل. مما عنى ضمنياً إقامة دولة تقتصر على أراضي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. لم يتم التعامل في الحال مع الآثار المترتبة على هذا التحول الاستراتيجي في مفهوم حق العودة وتنفيذه، ففي إعلان الاستقلال (تشرين الثاني/نوفمبر 1988)، لم يذكر حق العودة، ولا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، واكتفي بالإشارة إلى تأييد "تسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة". لم تكتف القيادة الفلسطينية بذلك، بل أعادت تفسير القرار 194 بطريقة محرّفة عن مفهوم "حق العودة"، حيث أعاد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات إلى الذاكرة رسمياً، وعلى نحو لافت أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، أن القرار 194 يشترط أيضاً "التعويض كبديل عن حق العودة".
استندت اتفاقيات التسوية بين الفلسطينيين والصهاينة إلى قراري مجلس الأمن 242 (22 تشرين الثاني/نوفمبر 1967) و 338 (22 تشرين الأول/أكتوبر 1973)، اللذين أشارا أساساً إلى "ضرورة تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين"، ولم تعالج اتفاقات أوسلو قضية اللاجئين بشكل مباشر، وأجلت مع غيرها من "قضايا الوضع الدائم"، نحو القدس والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون مع دول الجوار والـ"قضايا أخرى ذات الاهتمام المشترك".
تم تأجيل قضية اللاجئين إلى مرحلة ثانية من المفاوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية، التي كانت ستبدأ خلال السنة الثالثة من الفترة الانتقالية. وبالتالي، بقي الوضع القانوني للاجئين دون تغيير، ما عدا اللاجئين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين حصلوا، مع السكان الأصليين لهذه الأراضي الفلسطينية، على بطاقات هوية جديدة منحتها لهم السلطة الوطنية الفلسطينية التي أنشئت حديثاً (عام 1994).
أزمة اللاجئين الفلسطينيين مستمرة
أزمة الوباء العالمي بفعل كوفيد 19 انعكست بشكل كبير على أوضاع اللاجئين في الدول العربية، وفاقمت الأزمة المستمرة منذ سنوات تقاعس و"كالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا) عن أداء دورها المنوط بها لمجتمعات اللجوء الفلسطيني في الأراضي المحتلة أو في دول الطوق بحجة توقف التمويل، وتقاعس الدول المانحة عن الإيفاء بمساعداتها. لكن على صعيد آخر، تناقلت العديد من وسائل الأنباء، في كانون الأول من عام 2020، تقريرا عن خطة إماراتية إسرائيلية لتفكيك وإنهاء أونروا بشكل تدريجي وغير مشروط تحت إطار "اتفاق إبراهيم" التطبيعي.
وعلى الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقا للقرار 74/83 الصادر في 13 كانون الأول 2019، قامت بتمديد تفويض أونروا حتى عام 2023، إلا أن كل السياسات العربية التطبيعية تعمل علي إنهاء دور أونروا في إغاثة اللاجئين الفلسطينيين، الذين تستمر محنتهم منذ أكثر من 73 عاما، وبلغ عددهم حتى نهاية 2018 نحو 8.7 ملايين لاجئ.
المشكلة لا تكمن بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في الإغاثة وحسب، تحت وطأة الظروف القاسية التي تطاولهم، بل لأن أونروا لعبت دورا مكملا لمساعي لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين، والتي تأسست وفقا للقرار رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف البحث عن تسوية للقضية الفلسطينية، وللترويج لحل دائم لقضية اللاجئين، لا سيما العودة الطوعية. تعطلت لجنة التوفيق الدولية منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، ولم تتوفر مساع حقيقية وفعالة لإيجاد حل دائم وعادل لمأساتهم، وربطت الجمعية العامة للأمم المتحدة بين تفويض أونروا وإيجاد حل دائم وعادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، أي أنه لا يمكن تفكيك وكالة الغوث قبل تحقيق حل عادل وشامل.
لقد بات واضحاً أن التقليص الهائل في الخدمات الإنسانية التي تقدمها أونروا، بالإضافة إلى تدهور أوضاع حقوق الإنسان في الدول المضيفة، قد دفعا باللاجئين إلى الهرب إلى دول ثالثة، بالتحديد إلى أوروبا. وعليه، فإن مسعى إسرائيل لوقف تمويل أونروا تشكل تكتيكاً يرمي إلى الالتفاف على الإطار القانوني الدولي المتاح لحماية اللاجئين الفلسطينيين، وإلى الدفع باتجاه نسيان وتجاهل وضعهم كأشخاص محميين بموجب القانون، دون الانخراط بشكل مباشر في الآليات القانونية. ومضي دولة عربية في مسار التطبيع، تحت عباءة السلام، وعلى حساب حقوق اللاجئين الفلسطينيين، هو انتهاك خطير للقانون الدولي.
إن وجود اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، يشكّل أكبر الأدلة والتجليات الحية لنظام الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي القائم على تهجير مئات آلاف الفلسطينيين قسريا من بيوتهم وأراضيهم، وتأكيد السيادة غير المشروعة على أراضيهم، والتي تعتبر غير قانونية وفقا لمبادئ وقواعد القانون الدولي.
وبعيدا عما يروج له كثيرون من أن أونروا تؤدي إلى إدامة "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، لا يمكن أن يشكّل إنكار حقوق اللاجئين الفلسطينيين غير القابلة للتصرف بغية تطبيع وجود دولة قمعية مضطهِدة أمراً شرعياً أبداً، كما لا يمكن القبول ببقاء الفلسطينيين لاجئين إلى الأبد.