لم تسلم القوة الناعمة الروسية من شظايا قذائف الجيش الروسي وصواريخه، التي تواصل دكّ المدن الأوكرانية منذ ثلاثة أسابيع. وبعد الخسائر الاقتصادية الباهظة، رسمت الحرب على أوكرانيا ندوباً قد يصعب محوها طويلاً على وجه روسيا، الذي عملت السلطات على إظهاره بأبهى حلة خلال السنوات الأخيرة، ولم تبخل في توظيف مليارات الدولارات، وتخصيص قسم خاص في وزارة الخارجية، لهذه الغاية.
وبحسب أحدث تصنيف لمؤسسة "براند فينانس" الاستشارية، فقد دمرت الحرب على أوكرانيا "القوة الناعمة" الروسية، وهوت بها من المركز التاسع في استطلاعات الخريف الماضي، إلى المرتبة 43، وذلك بحسب ما أظهرت استطلاعات إضافية نُظّمت على عجل للأخذ في الحسبان تأثير الحرب الروسية على أوكرانيا.
وتنشر المؤسسة سنوياً تصنيفاً للدول على أساس القوة الناعمة بناء على مقابلات مع عشرات آلاف الأشخاص في أكثر من مائة دولة حول العالم، وتستطلع آراء المواطنين العاديين وقادة الأعمال، ومحللي الأسواق المالية، وسياسيين وأكاديميين وصحافيين، إضافة إلى ممثلين عن مراكز البحوث والمنظمات غير الحكومية.
هوت الحرب على أوكرانيا بالقوة الناعمة الروسية من المركز التاسع في استطلاعات الخريف الماضي، إلى المرتبة 43
وبحسب منظمي الاستطلاع، فإن التصنيف في المؤشر يُبنى على "قدرة الدولة على التأثير في تفضيلات وسلوك الأفراد المختلفين في الساحة الدولية (الدول والشركات والمجتمع وغيرها) من خلال الجاذبية والإقناع، بدلاً من استخدام القوة التقليدية".
ويقيّم المؤشر سمعة الدولة وشعوبها ونفوذها، بالإضافة إلى سبعة عناصر أساسية للقوة هي: الأعمال والتجارة، والنظام العام في الدولة، والعلاقات الدولية، والثقافة والتراث، والإعلام والاتصالات، والتعليم والعلوم، وأخيراً الناس والقيم. وفي مؤشر العام الحالي، كما سابقه، طرح المنظمون سؤالاً حول تعامل السلطات مع جائحة كورونا.
آثار مدمرة لغزو أوكرانيا
وألحقت الحرب الروسية على أوكرانيا أضراراً جسيمة بسمعة موسكو، فقد حمّل معظم المستطلعة آراؤهم السلطات الروسية المسؤولية عن اندلاع الحرب في أوكرانيا. وألقى 81 و74 و67 و64 و60 في المائة منهم باللوم على روسيا، في اليابان، المملكة المتحدة، ألمانيا، فرنسا، والولايات المتحدة، على التوالي.
في حين كانت النتيجة متوقعة في الصين التي رأى 11 في المائة فقط من المستطلعة آراؤهم فيها، أن روسيا تسبّبت في إطلاق الحرب، مقابل 52 في المائة حمّلوا الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي المسؤولية.
وفي البرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا والهند، ألقى 63، و48، و42، و32 في المائة باللوم على روسيا في شنّ الحرب. ومن المعلوم أن الصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا من أهم حلفاء روسيا العالميين، ويجتمعون معها في إطار تكتل "بريكس".
وإضافة إلى تراجع شعبية روسيا لدى حلفائها الذين تراهن عليهم في بناء عالم متعدد الأقطاب، كان لافتاً أن أقلية صغيرة في معظم بلدان العالم، ما بين 1 و10 في المائة، حمّلت أوكرانيا المسؤولية عن اندلاع الحرب.
ومن الملاحظ أن حالة الاستقطاب الداخلية الحادة في الولايات المتحدة، انعكست في شكل لافت على نتائج الاستطلاعات، إذ ألقى 22 في المائة من المستطلعة آراؤهم اللوم على حكومة بلادهم في إشعال الحرب، وهي أعلى نسبة ضمن البلدان الغربية بحسب المنظمين.
وتعليقاً على نتائج التصنيف الجديد، قال رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمؤسسة "براند فينانس" ديفيد هاي، إن "غزو روسيا لأوكرانيا قوّض قدرتها على ممارسة نفوذها في العالم، فالآن يُنظر إليها على أنها معتدية، وتوجّه انتقادات لسلوكها في معظم بلدان العالم". ورأى هاي أن تأثير التصنيف الجديد لا يقلّ قسوة عن تأثير العقوبات الاقتصادية، وأنه "ستترتب على ذلك آثار مدمرة على الاقتصاد الروسي". وشرح أنه "مع تحطم قوتها الناعمة، ستجد روسيا أن من المستحيل تقريباً جذب أو إقناع شركاء دوليين، سواء في الأعمال التجارية أو في الدبلوماسية".
ضربة مزدوجة لروسيا
وأشارت المؤسسة إلى أنه مقارنة بالتصورات التي خلص إليها البحث الذي نُظّم في خريف العام الماضي (لمؤشر القوة الناعمة 2022) قبل التعديلات، فقد تراجعت روسيا بعد غزو أوكرانيا في مؤشر القوة الناعمة بنحو 19 في المائة دفعة واحدة، وباتت النظرة في البلدان الحليفة لها أقرب إلى النظرة الغربية، باستثناء الصين.
أقلية صغيرة في معظم بلدان العالم، ما بين 1 و10 في المائة، حمّلت أوكرانيا المسؤولية عن اندلاع الحرب
في المقابل، ازداد التعاطف العالمي مع أوكرانيا إلى 44 في المائة، والتأثير الأوكراني إلى 24 في المائة. وعزا التقرير ذلك إلى دور وسائل الإعلام في العالم في تسليط الضوء على الأحداث وحملة التضامن العالمية الواسعة مع أوكرانيا.
وعلى الرغم من تركيز الدعاية الروسية على رفض تصرفات المحور "الأنغلوساكسوني" وسعيه إلى السيطرة على العالم، فقد عادت الولايات المتحدة إلى قيادة مؤشر القوة الناعمة في العالم بنحو 70.7 نقطة وفقاً للتقرير، كما صعدت بريطانيا بنحو 7 نقاط دفعة واحدة إلى 64.9 لتحل في المركز الثاني عالمياً، فيما تراجعت ألمانيا إلى المركز الثالث.
وعلى الرغم من أن ألمانيا حصلت على نقاط أكثر من العام الماضي، إلا أن الصعود الكبير للولايات المتحدة وبريطانيا جعلها تتراجع في التصنيف. واستطاعت الصين للمرة الأولى منذ البدء في إعداد هذه المؤشرات، تجاوز اليابان لتحل في المركز الرابع عالمياً، وفق مؤشر القوة الناعمة.
وبحسب المؤشرات الأخيرة، فقد دمرت القنابل والصواريخ الجهود الروسية طوال السنوات الأخيرة سمعة روسيا، وجهودها من أجل زيادة القوة الناعمة عالمياً، والتي خُصّصت لها موازنات ضخمة، واستحدثت لأجلها قسماً خاصاً في وزارة الخارجية الروسية في خريف العام الماضي لزيادة التفاعل مع العالم الخارجي. وبدا أن سلطات البلاد التي أنتجت كتاباً وشعراء وفنانين عالميين، لا يجيدون أو لا يرغبون إلا باستخدام القوة الخشنة.
انطلاق من المحيط السوفييتي
وأدركت روسيا أهمية القوة الناعمة السوفييتية السابقة منذ مطلع القرن الحالي، وسمحت عائدات النفط المرتفعة بتخصيص مبالغ إضافية لزيادة تأثير روسيا. وتركزت الجهود منذ عام 2004 على العمل أساساً في المحيط السوفييتي السابق بعد انطلاق الثورات الملّونة.
وفي عام 2008، أسس الرئيس فلاديمير بوتين، بمرسوم رئاسي، هيئة "روسترودنيتشيستفو" (الوكالة الاتحادية للعمل مع رابطة الدول المستقلة والمواطنين المقيمين في الخارج والتعاون الإنساني الدولي)، وكلفت بالإشراف على 73 مركزاً ثقافياً وعلمياً روسياً في 62 بلداً، وافتتحت 97 مكتباً تمثيلياً في 80 بلداً حول العالم، وتعمل على تقديم نموذج التعليم الروسي في الخارج وعرض الإنجازات العلمية.
وتتولى الهيئة مهمة اختيار الطلاب الأجانب للدراسة في روسيا، وتولي اهتماماً خاصاً للعمل مع نحو نصف مليون من خريجي الجامعات والمعاهد الروسية والسوفييتية. كما زادت روسيا من عدد المنح المقدمة للطلبة الأجانب بشكل كبير.
ووظفت السلطات الروسية مبالغ مالية ضخمة منذ عام 2004 لإنشاء شبكة "آر تي" الإخبارية التي بدأت البث باللغة الإنكليزية ووسعتها لاحقاً لتشمل اللغات العربية والإسبانية والألمانية والفرنسية. وفي العامين الأخيرين، سعت روسيا إلى إظهار قوتها الناعمة في الجهود الدولية لمحاربة فيروس كورونا، وروّجت لإنتاجها أول لقاح في العالم ضد وباء كورونا وقدمت بعض التبرعات من اللقاحات وأدوات الوقاية من كورونا إلى عدد من دول العالم.
ألقى 22 في المائة من المستطلعة آراؤهم في الولايات المتحدة اللوم على حكومة بلادهم في إشعال الحرب، وهي أعلى نسبة ضمن البلدان الغربية
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقّع الرئيس الروسي مرسوماً لتشكيل قسم إضافي في وزارة الخارجية الروسية، تحت اسم "دائرة التعاون الدولي في مجال الثقافة والعلوم والرياضة"، وقرّرت الحكومة تخصيص موازنة للقسم الجديد الذي يضم 35 موظفاً وبدأ العمل فيه منذ بداية العام الحالي.
ونقلت صحيفة "كوميرسانت"، حين وقع المرسوم، عن مصادر في الخارجية الروسية، قولها إن الهيكل الجديد لا يتعارض مع عمل المؤسسات السابقة، خصوصاً "روسترودنيتشيستفو"، وهو ليس بديلاً عنها، وأن القسم الجديد يعنى بقضايا إدارة سياسة الدولة الموحدة في مجال التعاون الإنساني متعدد الأطراف، وضمان التأثير الإنساني، وتعزيز مكانة اللغة الروسية في الخارج، وتطوير التبادل التعليمي، وبناء تعاون رياضي بين الدول.
ويأخذ على عاتق الدائرة الجديدة إدارة مركزية من أجل "وضع سياسة مشتركة في مجال التعاون الثقافي والإنساني الدولي، وتحديد الأولويات على هذا المسار، وإعداد الاتفاقيات الحكومية الدولية، وتنفيذ برامج الدولة في هذا المجال ومساعدة استشارية وعملية لكل من مؤسسات الدولة ذات الصلة والهياكل غير الحكومية، مع مراعاة خصوصيات البلدان واحتياجات الفئات الأجنبية المستهدفة.
ومن المؤكد أن روسيا تقدمت كثيراً في تمويل واستخدام القوة الناعمة في السنوات الأخيرة مقارنة بحقبة التسعينيات، ولكن الواضح أنه ما زال عليها الكثير لفعله في هذا الإطار. وربما تنطلق بعض الأوساط في النخب الحاكمة من أنه ما من داع لزيادة القوة الناعمة ما دامت روسيا قادرة على فعل ما تريده بفعل القوى العسكرية التي تقدمت بأشواط كثيرة عن نظيرتها الناعمة.
ويأخذ مراقبون على أن روسيا تركز في قوتها الناعمة أساساً على فكرة "العالم الروسي" ودعم الأقليات الروسية في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وخارجياً على تنظيم احتفالات للمناسبات الوطنية الروسية والتعريف برموزها، من دون أن تركز على نشاطات وحملات تستهدف المجتمعات المحلية في البلدان التي تنشط فيها المراكز الروسية.