تنطلق في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، اليوم الخميس، قمة "روسيا - أفريقيا" في دورتها الثانية والتي تستمر يومين، وسط توقعات بأن تهيمن قضايا الأمن الغذائي والعلاقات الثنائية بين موسكو والدول الأفريقية على جدول أعمال القمّة التي تعقد هذه المرة، بعد الأولى التي عُقدت في عام 2019، في ظروف استمرار الحرب الروسية الأوكرانية منذ 24 فبراير/شباط 2022، بالتزامن مع انسحاب موسكو من "صفقة الحبوب".
وتلقي موسكو، كما يبدو، بثقلها، لإنجاح القمة، أولاً لإظهار عدم عزلتها بعد غزوها لأوكرانيا، فضلاً عن الأهمية التي توليها لتمدّد نفوذها في القارة الأفريقية، وهو ما أكّدته البيانات الصادرة عنها، والمتعلقة بالقمّة. وتركز موسكو، بحسب هذه البيانات، على ما ترى فيه تبدلات جيوسياسية من شأنها إعادة صوغ النظام العالمي، وتخاطب الدول الأفريقية باللعب على وتر تركة الاستعمار، وتروّج لنفسها شريكاً بديلاً عن الغرب، أكثر قرباً للقضايا التي تشغل بال الأفارقة.
وفي اختصار، فإن روسيا تضع القارة الأفريقية البالغ مجموع عدد سكّانها نحو 1.4 مليار نسمة، نصب أعينها، وسط تطلعها لإعادة العلاقات مع القارة إلى مستوى الحقبة السوفييتية ومحاولة تعويض تراجع مكانتها على سلّم أولويات السياسة الخارجية الروسية منذ تسعينيات القرن الماضي.
لقاءات ثنائية ومبادرات
وأكدت روسيا، أول من أمس الثلاثاء، مشاركة 49 دولة أفريقية من أصل 54 في القمة الروسية الأفريقية الثانية، وقال مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوري أوشاكوف، إن 17 دولة من أصل الدول المشاركة، أكدت مشاركتها على مستوى رئيس دولة (نصف الدول المشاركة، ستشارك برئيس دولة أو رئيس حكومة). وأكد أوشاكوف أن المنتدى سيشهد لقاءات قمّة ثنائية، وأن بوتين يخطط للقاء كل رئيس أفريقي حاضر للقمّة.
أكدت روسيا، أول من أمس الثلاثاء، مشاركة 49 دولة أفريقية من أصل 54 في القمة
وأوضح أوشاكوف في هذا الإطار أن بوتين سيلتقي زعماء كل من مصر وبوركينا فاسو وبوروندي والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو وإريتريا ومالي وموزامبيق والسنغال وجنوب أفريقيا وأوغندا وزيمبابوي وجزر القمر وغينيا بيساو وليبيا، وكذلك رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد. وبحسب المتحدث الروسي، فإن موسكو أجرت تحضيرات جادة للقمة، قائلاً إن "الحدث ليس سهلاً، خصوصاً بسبب الظروف التي يحلّ بها. نحن نولي أهمية كبيرة للقمة ونأمل نجاحها".
وأكد أن بوتين سيلقي "خطاباً مهماً" خلال القمة، و"سيقيم الوضع الحالي للعلاقات الدولية، بما فيها تشكل نظام عالمي جديد مستند على مبدأ التعددية والمساواة بين كل الدول المستقلة". ولفت إلى أن الهدف الرئيسي للقمة هو "تطوير العلاقات بين روسيا وأفريقيا، مع التركيز على الدعم الروسي للنمو السيادي الوطني للدول الأفريقية، وضمان وصول عادل ومتساوٍ للغذاء والأسمدة، والتكنولوجيا الحديثة ومصادر الطاقة"، على أن تعلن موسكو عن بعض المبادرات لها في هذا الإطار، خلال القمة، مع توقيع عدد من الوثائق.
ولفت أوشاكوف إلى أنه سيكون هناك لقاء منفصل (على هامش القمة) حول أوكرانيا، في إطار مبادرة السلام الأفريقية، سيحضره زعماء ورؤساء الوفود لكل من جنوب أفريقيا واتحاد جزر القمر، والكونغو، ومصر، والسنغال، وأوغندا، وزامبيا، مضيفاً أن "الجانب الروسي يقدّر الجهود الصادقة للشركاء الأفارقة من أجل حلّ الصراع سياسياً". وكان قادة ومسؤولون سياسيون من هذه الدول، قد زاروا روسيا وأوكرانيا في يونيو/ حزيران الماضي، في محاولة لوقف الحرب.
إلى ذلك، اتهم الكرملين، أول من أمس، الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، بمحاولة إفساد القمة الروسية الأفريقية الثانية عبر الضغط على دول أفريقية لعدم الحضور. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إنه "نظرياً، فإن كل الدول الأفريقية كانت عرضة لضغط غير مسبوق من الولايات المتحدة، كما أن السفارات الفرنسية على الأرض لم تنم، مع بعثات دبلوماسية غربية أخرى، وهي تحاول ما في وسعها لمنع انعقاد القمة". واعتبر أنه "في صميم القصة، إنهم لا يتقبلون الحق السيادي للدول الأفريقية، لأن تحدد بشكل مستقل شركاءها للتعاون والتواصل المتبادل في مجالات عدة".
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد استضاف قمة أفريقية أميركية في البيت الأبيض، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعد 4 سنوات من عهد دونالد ترامب، الذي تراجع فيه الاهتمام الأميركي بأفريقيا. وشهدت القمة مشاركة 50 دولة أفريقية وممثلين عن الاتحاد الأفريقي. واستغل بايدن القمّة لإعلان دعمه إضافة الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين الاقتصادية. كما أعلن خلال القمة عن أن الولايات المتحدة ستقدم 55 مليار دولار للقارة الأفريقية، على مدى السنوات الثلاث المقبلة. وحذّرت واشنطن خلال القمة، على لسان وزير الدفاع لويد أوستن، من أن الدورين الروسي والصيني في القارة السمراء قد يكون مزعزعاً لاستقرارها.
كانت وزارة الخارجية الأميركية قد ردّت في إبريل/ نيسان الماضي على تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حينها، والذي اشتكى من أن الغرب يحاول إفساد القمة الأفريقية الروسية الثانية، بالتأكيد أن واشنطن "لا تريد أن تقيّد الشراكات الأفريقية مع دول أخرى. نحن نريد أن نمنح الدول الأفريقية خيارات".
ويتوقع أن تحتل قضايا الأمن الغذائي مساحة مهمة من النقاش خلال القمة، خصوصاً بعد انسحاب موسكو، الأسبوع الماضي، من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، لا سيما أن موسكو وعدت بأنها ستعوّض الحبوب الأوكرانية المورّدة إلى أفريقيا في خطوة من شأنها توسيع نطاق نفوذها في القارة الفقيرة، بينما تواجه أوكرانيا طرقاً وعرة في تصدير منتجاتها.
وكتب بوتين في مقال نُشر الإثنين على الموقع الإلكتروني للكرملين، أن روسيا انسحبت من اتفاق نقل الحبوب عبر البحر الأسود، لأن الاتفاق فقد معناه، مؤكداً أن روسيا "قادرة على استبدال الحبوب الأوكرانية تجارياً ومجاناً"، خصوصاً أنها "تتوقع مرة أخرى حصاداً قياسياً هذا العام". وكتب بوتين: "ستواصل روسيا العمل بنشاط على تنظيم إمدادات الحبوب والأغذية والأسمدة وغيرها إلى أفريقيا".
أوشاكوف: بوتين يخطط للقاء كل رئيس أفريقي حاضر في القمّة
واقتبس بوتين في مقاله تقديرات تفيد بأن ما مجموعه 32.8 مليون طن من الشحن خرجت من أوكرانيا خلال فترة سريان "صفقة الحبوب"، وقد ذهب أكثر من 70 في المائة منها إلى الدول ذات مستوى دخل مرتفع أو أعلى من المتوسط، بما في ذلك في الاتحاد الأوروبي، بينما بلغت حصص الدول مثل إثيوبيا والسودان والصومال واليمن وأفغانستان أقل من 3 في المائة من الحجم الإجمالي، أي أقل من مليون طن، وفق الرئيس الروسي. وأضاف أن مواصلة الصفقة التي لم تبرر مغزاها الإنساني فقدت معناها، مكرراً القول إنه لم يتم الوفاء بالشروط الروسية من الصفقة. واستشهد بوتين في مقاله بالتجربة السوفييتية في دعم الدول الأفريقية، مؤكداً دعم سيادتها والتزام موسكو التزاماً تاماً بمبدأ "حل أفريقي لمشكلات أفريقية". وكتب بوتين: "نثمن عالياً وسنواصل الدفع بالطيف الكامل من العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا، دولاً واتحادات تكامل إقليمي، وبالطبع، مع الاتحاد الأفريقي".
ورحّب الرئيس الروسي أمس، في بيان، بالوفود الرسمية المشاركة في القمة، مؤكداً أن بلاده "تدعم تطلعات الدول الأفريقية لتأمين استقرارها الاقتصادي الاجتماعي وتقدمها".
تطوير العلاقات بلا وسطاء
وتعليقاً على انعقاد القمة الأفريقية الروسية الثانية، توقع نائب رئيس اتحاد الدبلوماسيين الروس، الأستاذ في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، أندريه باكلانوف، أن تركز القمة على سبل الدفع بالعلاقات الثنائية من دون وسطاء، مشككاً في سياق آخر في قدرة الدول الأفريقية على المساهمة الفعّالة في إنهاء الصراع الروسي الأوكراني.
وقال باكلانوف في حديث لـ"العربي الجديد": "تعقد القمة في الوقت المناسب، وسط تسارع البحث عن معادلة جديدة لمزاولة الأعمال، وما إذا كانت تقتضي إصلاح المؤسسات الدولية القائمة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو إنشاء مؤسسات جديدة مثل مجموعة بريكس، من دون الدخول في الخلاف مع المنظمات الأخرى".
وأقرّ باكلانوف بتدني حصة كل من روسيا وأفريقيا في الاقتصاد العالمي. وأوضح في هذا الصدد: "تبلغ حصتنا في إجمالي الناتج العالمي نحو 2 في المائة، وحصة أفريقيا 3 في المائة، رغم أننا نملك مجتمعين 45 في المائة من الثروات الطبيعية في العالم. لذلك تتلاقى مصالحنا في مسألة وضع أطر ثنائية ومتعددة الجوانب لتجنب الوساطة الغربية في المجالين المالي واللوجستي لإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد".
إلى ذلك، قلّل باكلانوف من واقعية مساهمة الدول الأفريقية في إنهاء النزاع، معتبراً أنه "يمكنها المساهمة في تسوية مسائل بعينها من دون إنهاء الصراع، حيث أن الدول الأفريقية لا تدرك طبيعته الوجودية لكل طرف، وتسعى للتوصل إلى حل وسط وفق نموذج الهند وباكستان".
وكانت وكالة "تاس" الرسمية الروسية قد نقلت عن مصدر في إحدى البعثات الدبلوماسية الأفريقية في لندن أن المشاركين في قمة سانت بطرسبورغ لا يعتزمون إصدار بيان منفصل بشأن الوضع في أوكرانيا رغم أنه ستجرى مناقشة النزاع الدائر على هامش المنتدى.
بدوره، رجّح الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، سيرغي بالماسوف، أن تستثمر روسيا القمة للترويج لرؤيتها للاستعمار الغربي الجديد في أفريقيا، ناهيك عن تصدر ملفات الأمن الغذائي أجندة الاجتماعات.
وقال بالماسوف في حديث لـ"العربي الجديد": "من المؤكد أن روسيا ستطرح خلال القمة قضية الاستعمار الغربي الجديد الذي انتقل من تجارة الرقيق إلى استغلال الموارد الطبيعية للدول الفقيرة من دون إشراك سكانها بحصة عادلة".
وتوقع بالماسوف أن تتصدر قضايا الأمن الغذائي جدول أعمال القمة، موضحاً أن "تعطل صفقة الحبوب وما ترتب عليها من ارتفاع الأسعار، يؤثر حتى على الدول الغربية، فما بال الدول الأفريقية التي لا تملك احتياطات مالية هامة ومناخها لا يساعد على زراعة القمح؟".
حصاد متواضع للقمة الأولى
وتسعى موسكو إلى إنجاح القمة، والخروج بنتائج مرضية في توقيت حسّاس، لا سيما أن حصاد القمة الأولى في 2019 ظلّ متواضعاً. وفي تقرير بعنوان "روسيا وأفريقيا: مراجعة العلاقات"، أعده خبراء في نادي "فالداي" الدولي للنقاشات بمناسبة القمة اليوم، خرج معدوه بنتيجة مفادها أنه خلال السنوات الأربع التي مرّت منذ القمة الروسية الأفريقية الأولى في سوتشي، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، والتي انعقدت تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتنمية"، لم يتمكن قطاع الأعمال والهيئات الحكومية الروسية من تحقيق تعاون واسع النطاق مع الدول الأفريقية.
أندريه باكلانوف: الدول الأفريقية لا تدرك الطبيعة الوجودية للصراع الأوكراني الروسي بالنسبة لكل طرف
وكتب معدو التقرير الذي أوردت صحيفة "إر بي كا" مقتطفات منه، أن "التحفيز على العمل مع أفريقيا الذي تم تقديمه على كافة المستويات في 2019، لم يلاق استكمالاً لازماً وتحقيقاً عملياً، بما في ذلك نتيجة للعوامل الخارجية التي من الصعب المبالغة في تقديرها".
وفي الوقت نفسه، أقر معدو التقرير بأن هناك طلباً في القارة السمراء على تنويع "العلاقات ما بعد الاستعمار والاستعمار الجديد" و"توسيع طيف لاعبين خارجيين تحظى روسيا بمكانة خاصة بينهم". وكان يمكن لمنتدى 2019 أن يكون نقطة انطلاق، إذ كان الأفارقة ينتظرون استثمارات في كافة قطاعات الاقتصاد، ولكن "أغلبية الشركات الروسية لم تتعلم حتى الآن أساسيات العمل مع أفريقيا: أين المداخل، ومن هم الشركاء المحتملون، وما الذي تحتاج إليه الدول الأفريقية".
وعلى الرغم من أن قمة 2019 تمخضت عن إصدار بيان مشترك تضمن 47 نقطة للتعاون، كانت 20 منها متعلقة بالمجالات التجاري الاقتصادي والتعليمي والإنساني، إلا أنه "إذا أجرينا مراجعة مدققة لأداء قطاع الأعمال الروسي في أفريقيا خلال السنوات الأربع التي مضت، فسنرى أن الشركات النشطة والناجحة نسبياً في أفريقيا هي تلك التي تعمل هناك منذ ما لا يقل عن عشر سنوات، ولكنها لم تصبح قاطرات ومحركات لموجة جديدة"، وفق التقرير.
كذلك لم يتسن تفعيل التعاون السياسي، إذ اتفقت الأطراف على إجراء مشاورات سنوية بين القمم بين وزير الخارجية الروسي و"ترويكا" وزراء خارجية أفارقة (الدولة الرئيسية الحالية والسابقة والمقبلة للاتحاد الأفريقي). وانعقد لقاء واحد كهذا في 2020، ولم ترد أنباء عن مواصلة المشاورات في هذا الإطار. وكتب الخبراء: "من ناحية، نشهد تحركات مباشرة، ومن ناحية أخرى صعوبات بالوفاء بالالتزامات التي تتطلب أعمالاً منهجية منتظمة".
أوكرانيا تطلب دعماً مصرياً
من جهتها، استثمرت أوكرانيا، التي تبحث هي الأخرى عن إعادة تفعيل "صفقة الحبوب"، مشاركة مصر في القمة الروسية الأفريقية ممثلة بالرئيس عبد الفتاح السيسي، للبحث عن دعم القاهرة في ملف الحبوب. وأجرى المبعوث الأوكراني الخاص إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، مكسيم صبح، أخيراً، اتصالاً هاتفياً مع مساعد لوزير الخارجية المصري، داعياً بلاده إلى الانضمام إلى معادلة السلام الأوكرانية والمساعدة في استئناف إمدادات الحبوب الأوكرانية.
وقالت وزارة الخارجية الأوكرانية في بيان أوردته وسائل إعلام أوكرانية: "تم إطلاع الجانب المصري على مواصلة تحرير الأراضي الأوكرانية من الغزاة الروس حتى النزع الكامل لاحتلال الأراضي الأوكرانية ضمن الحدود المعترف بها دوليا. ودعا المبعوث الأوكراني الخاص إلى الانضمام إلى تطبيق معادلة السلام للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والمشاركة في القمة الثالثة للمنصة الدولية للقرم وعودة شبه الجزيرة إلى أوكرانيا بطريقة سلمية".
وأضاف المبعوث الأوكراني أنه بفضل ممر الحبوب في البحر الأسود الذي تم عبره إيصال أكثر من 1.4 مليون طن من المنتجات الزراعية إلى مصر، تبقى أوكرانيا ضامناً يعتمد عليه للأمن الغذائي لمصر وغيرها من بلدان أفريقيا والشرق الأوسط. وحث الدبلوماسي الأوكراني القاهرة على الانضمام إلى الجهود الدولية لاستئناف إمدادات الحبوب الأوكرانية إلى القارة الأفريقية.