لم تكن المواجهة الحالية التي تشهدها مدينة القدس والمسجد الأقصى الأولى، بل تأتي امتداداً لعشرات الثورات والهبّات الجماعية منذ القرن الماضي، التي بدأت مع أول هبّة فلسطينية ضد الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني عام 1920، وتلتها عدة ثورات وهبّات جماعية أدت إلى سقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين والجرحى. ولكن ما يحدث بالأيام الأخيرة يعتبر الأخطر، بتبني حكومة الاحتلال الإسرائيلي مشروع اليمين الديني المتطرف، وخاصة حركات وجماعات الهيكل لبناء الهيكل المزعوم، بدءاً من التقسيم الزماني الذي تُرجم ممارسةً حين أعلنت كل الجهات الإسرائيلية، السياسية منها والأمنية، أن المسجد الأقصى بات مفتوحاً أمام اليهود طوال أيام الأسبوع من الساعة السابعة صباحاً وحتى العاشرة والنصف، ما أدى إلى زيادة كبيرة في عدد المستوطنين الذين يقتحمون الأقصى، بما أن الأمر أصبح سياسة رسمية، وليست محاولات من قبل جماعات الهيكل.
تحديد الحكومة الإسرائيلية فترات زمنية لدخول آمن لجماعات الهيكل، يكشف أن مخطط التهويد بات على رأس أولويات حكومات إسرائيل، مستخفة بمواقف الأطراف ذات الصلة، سواء الأمم المتحدة أو منظمة الدول الإسلامية أو الجامعة العربية أو ملك المغرب، لكونه يرأس لجنة القدس أو الأردن صاحبة الوصاية ورعاية المسجد الأقصى منذ عام 1967، وأيضاً منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، والفصائل الفلسطينية، ويؤكد أن حكومة إسرائيل، ومعها جماعات اليمين الديني، لن تكتفي فقط بتحديد ساعات صباحية يومياً لدخول المستوطنين، بل ستعمل بعد فترة زمنية على تحديد ساعات أخرى بعد الظهر، لتكون قد أنهت التقسيم الزماني والمكاني، مانعة بذلك دخول المسلمين لتلك الأماكن في أوقات دخول اليهود، لتنتقل إلى المرحلة الأخطر والمتمثلة بفتح النفق تحت المسجد، كمقدمة لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الذي أصبح الكثيرون من تيارات اليمين يتمنون إنجازه بسرعة. وكشفت آخر دراسة أن أكثر من 70% من مؤيدي اليمين الديني الاستيطاني يرغبون في زيارته والصلاة فيه، وذلك رغم فتوى المؤسسة الدينية الرسمية (الحاخامية الرسمية)، التي تحظر على اليهود اقتحام المسجد الأقصى لأسباب دينية، إلا أن العقد الماضي كشف زيادة كبيرة في أوساط التيارات الدينية الاستيطانية التي لم تعد ترى الحاخامية الرسمية مرجعية دينية، بعد تبلور مؤسسات حاخاماتية خاصة بالمستوطنين، وتصدر فتاويها الدينية لخدمة مشروعها القومي الاستيطاني.
القضية الفلسطينية أكبر وأشمل من الصراع على القدس، إلا أنها شكلت المحور الأهم في الصراع الاسرائيلي العربي، لأهميتها التاريخية والدينية ومكانتها في الضمير العالمي، وقد تعمّق ذلك في السنوات الأخيرة، سواء بسبب تصاعد اقتحامات المستوطنين التي تضاعفت أكثر من 6 مرات مقارنة بالعشرية الأولى من الألفية الثانية، أو بعد اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقله سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، وقد أدى ذلك إلى تمسك الشعب الفلسطيني، وخاصة المقدسيين، بمسجدهم، لكونه جزءاً من هويتهم الدينية والثقافية والوطنية، والذي تجسد بفعاليات المرابطين والمرابطات داخل الأقصى منذ عام 2013، ما شكل إزعاجاً للاحتلال ومشروعه الرامي إلى تهويد المسجد، والذي كشف دوراً نضالياً مميزاً للمرأة المقدسية، رغم ما تعرضت له المقدسيات من ملاحقات احتلالية، سواء بضربهنّ أو حتى منعهن من الدخول إلى المسجد الأقصى لفترات طويلة، إلا أن تلك الإجراءات لم تنجح في ثنيهن عن مواصلة الرباط والنضال، لا بل إن إعدادهنّ بازدياد يوماً عن يوم.
منذ بداية المشروع الصهيوني، شكلت القدس والمسجد الأقصى المركب الأهم في الصراع القادر على تحريك المقدسيين والفلسطينيين، وكانت عنوان الثورات والهبّات التي حدثت. ففي نيسان 1920، وقعت اشتباكات عنيفة بين الفلسطينيين والاحتلال البريطاني بعد منعه جموعاً فلسطينية من الخليل لدخول القدس للمشاركة في مظاهرات ضد الانتداب البريطاني والهجرة الصهيونية، وأدت إلى مقتل وإصابة عدد من اليهود والشرطة البريطانية، واستشهاد وإصابة عدد من الفلسطينيين، وسُمِّيَت ثورة القدس، وكشفت عن تشكيلات عسكرية من الشرطة البريطانية والمستوطنين اليهود بزعامة جابوتنسكي الذي كان ضمن القوات البريطانية، وشكلت ثورة 1920 الانتقال من مرحلة الوعي الوطني إلى مرحلة المقاومة الشعبية والكفاح المسلح وفاتحة الثورات والهبّات، ودفع دور أهالي الخليل المميز في تلك الثورة إلى مطالبتهم بالبقاء في القدس للوقوف في وجه الهجرات الصهيونية للمدينة، ما دفع المئات من أهالي مدينة الخليل إلى الرحيل إلى القدس في ذلك العام والبقاء فيها حتى أصبحوا اليوم عشرات الآلاف، يقفون في وجه المشاريع الصهيونية، وقد قدموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وهم يدافعون عنها.
القضية الفلسطينية أكبر وأشمل من القدس، إلا أنها شكلت المحور الأهم في الصراع
رغم سياسات القمع البريطانية، إلا أن الفلسطينيين استمروا في رفضهم لسياسات تنفيذ وعد بلفور، واندلعت احتجاجات عام 1925 ضد منح بريطانيا للحركة الصهيونية أراضي فلسطينية في القدس لإقامة الجامعة العبرية عليها، ثم ثورة البراق التي اندلعت عام 1929 واستمرت لمدة عام، بعد مسيرات استفزازية يهودية تدعي ملكية حائط البراق المسمى عندهم حائط المبكى، وأدت إلى مقتل وإصابة حوالى ألف، مناصفة بين الطرفين، وقد عمّت الأحداث معظم فلسطين، وأعنفها في الخليل التي سقط فيها حوالى 70 قتيلاً يهودياً، وصفد التي تعرّض فيها الفلسطينيون للتهجير منها بعد قتل العشرات منهم، وشهدت يافا وطبريا مواجهات عنيفة.
شكلت نكبة فلسطين في عام 1948 المحطة الأولى لتقسيم مدينة القدس، حين احتُلّ 84% من مساحة المدينة بشكل يتناقض مع قرار التقسيم الخاص بالمدينة. وفي عام 1950 اعتُبِرَت عاصمة إسرائيل، ونُقل الكنيست ومقر الحكومة إليها، وسُمِّيَت القدس الغربية، فيما أُطلقَت تسمية القدس الشرقية على ما بقي تحت السيطرة الأردنية حتى احتلال إسرائيل له عام 1967، حين قال وزير الجيش الإسرائيلي يومها من ساحات المسجد الأقصى إن الجيش الإسرائيلي يحرر الهيكل ويعيده لليهود، ما يعني أن المدينة يهودية، وكانت تحت الاحتلال الأردني، وفي المناسبة نفسها، وبعد إنزال العلم الاسرائيلي عن قبة الصخرة، أبقى ديان الوصاية على المسجد الأقصى ورعايتها داخل البوابات والأسوار بيد الحكومة الأردنية ووزارة أوقافها وإبقاء الوضع القائم على حاله.
اعتبرت تيارات اليمين الديني هزيمة العرب في حرب عام 1967 وما يسمى تحرير القدس، نصراً إلهياً، وشكلت بداية لنهوض التيار القومي بالتيارات الدينية، وخاصة جماعة الحاخام كوك وموشه ليغنفر، المؤمنة بما يسمى أرض إسرائيل الكبرى ويهودا والسامرة والهيكل، وبدأت مساعيها من أجل الاستيطان في القدس والضفة الغربية وتهويدها وتفريغها، وما يحدث الآن من عملية محاصرة مدينة القدس بالجدران السلكية والإسمنتية والاستيطانية وزرع المدينة بمئات آلاف المستوطنين، ليس إلا جزءاً من مشروع تفريغها من أصحابها الأصليين وتهويدها. وشهدت القدس أحداثاً وهبّات كبيرة بسبب استهدافها من قبل الحركة الصهيونية، التي استثمرت الكثير من أجل تغيير هوية المدينة المقدسة ومعالمها وقطع أي رابط بينها وبين الشعب الفلسطيني وتحويلها إلى بيئة طاردة يصعب على المقدسيين البقاء فيها. وكانت أعنف الأحداث التي شهدتها وامتدت إلى باقي المناطق الفلسطينية، حين أحرق اليهودي الأسترالي دينيس مايكل، المسجد الأقصى عام 1969، ثم مواجهات حدثت في السبعينيات والثمانينيات، وذروتها انتفاضة عام 1987، إضافة إلى استشهاد وإصابة المئات في أكتوبر عام 1990 حين ادخل رئيس حركة أمناء الهيكل غرشون سلمون صخرة لوضعها حجراً أساساً للهيكل، ما أدى إلى انفجار الأمور في المسجد الأقصى، وامتدّت إلى أحياء القدس والضفة والقطاع، ثم مواجهة النفق عام 1996 بين الجماهير وأجهزة الأمن الفلسطينية من جهة، والجيش الإسرائيلي ومستوطنيه من الجهة الأخرى، بعد فتح النفق تحت المسجد الأقصى، واستمرت تلك الأحداث ثلاثة أيام، أدت إلى استشهاد حوالى 80 فلسطينياً ما بين مواطن وعنصر أمن فلسطيني، ومقتل 16 إسرائيلياً، من بينهم عسكريون، وإصابة حوالى 100 آخرين.
الانتفاضة الثانية في عام 2000 أدت إلى استشهاد وجرح آلاف الفلسطينيين ومقتل وإصابة آلاف الإسرائيليين أيضاً، وإن كانت عددهم أقل من عدد الفلسطينيين، وجاءت بعد زيارة أرئيل شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى، التي أشعلت المنطقة، واستمرت حتى رحيل الرئيس ياسر عرفات، إلا أنها لم تكن آخر المواجهات بسبب القدس والأقصى، بل اندلعت في الأعوام الأخيرة العديد من الهبّات وموجات المواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال، سواء انتفاضة السكاكين والدهس، أو هبّات باب العامود والبوابات المغناطيسية التي أجبر المقدسيون نتنياهو وحكومته على إزالتها بعد استبسالهم بالمواجهة، وفشلت كل مساعي إسرائيل بالالتفاف عليهم، وتخديرهم واستدراجهم إلى مفاوضات التسويف والمماطلة. أما المواجهات الحالية، فلن تكون الأخيرة، بل ستستمر ما بقيت القدس محتلة، لأنه لم يبقَ شيء يوحد الشعب الفلسطيني، وهو قادر على تحريكهم، وهم مستعدون للتضحية من أجله سوى القدس والأقصى، لتبقى المدينة ساحة مواجهة دائمة.