منذ احتلالها من قبل قوات الجنرال ألنبي في عام 1917، دخلت فلسطين إطار القانون الدولي بشكل فعلي، وظلت مسألة فلسطين (كما اعتادت الأمم المتحدة تسميتها) إحدى المسائل التي تتداولها الأطر الدولية التي تعنى بالقانون الدولي كعصبة الأمم ولجنة الانتداب والأمم المتحدة. اقترنت مسألة فلسطين بالقانون الدولي لدرجة أنه من الممكن تدريس تاريخ القانون الدولي في القرن العشرين عبر تدريس تاريخ فلسطين، والعكس هو أيضا صحيح. لكن هذا الاقتران لم يُقابل تاريخيا باهتمام عربي/فلسطيني بالقانون الدولي. هذا التوجس لم يكن بالأمر المفاجئ، فالقانون الدولي والمؤسسات الدولية أعطت غطاء شرعيا لقيام إسرائيل وجميع أعمال التهجير والقتل والنهب التي حدثت في مرحلة النكبة.
بعد حرب عام 1967 طرأ بعض التغيير على مقاربة الحقوقيين العرب لموضوع القانون الدولي والقضية الفلسطينية. بعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وسطوع نجمها على الحلبة الدولية واعتمادها من قبل الأمم المتحدة ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، أبدت المنظمة تفهما أكبر لدور القانون الدولي. فالاعتراف الأممي بالمنظمة ومنحها صفة مراقب أعطاها شرعية دولية واعترافا بأنها حركة تحرر وطني، لا جماعات "مخربين" كما كانت تدعي إسرائيل. مع أنها لم تكن دولة، إلا أن هذه الاعترافات جعلتها جهة معترفاً بها - أصبحت لاعبا على مستوى القانون الدولي. وقد عكست أفعال أخرى هذا التوجه نحو التعامل مع القانون الدولي مثل الإعلان الأحادي الجانب من قبل المنظمة بقبولها لجميع التزامات معاهدات جنيف الأربع والبروتوكول الإضافي والتي تُعنى جميعها بالقوانين التي تتعلق بالحرب.
وقد كان المناخ السياسي السائد في الأمم المتحدة في تلك المرحلة (السبعينيات والثمانينيات) متعاطفا إلى حد كبير. فالكثير من الدول التي عانت تحت الاستعمار والتي نالت استقلالها بعد كفاح طويل انضمت إلى الأمم المتحدة في تلك المرحلة، وقد كان زعماؤها من قادة الثورات ضد الاستعمار، الأمر الذي خلق جوا مناهضا للاستعمار ومتعاطفا مع حركات التحرر الوطني كمنظمة التحرير ومنظمة شعب جنوب غرب أفريقيا (SWAPO) وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC). هذا المناخ أعطى زخما لتبني عدد من المعاهدات والإعلانات كالمعاهدة الدولية لمنع ومعاقبة جريمة الأبارتهايد (التفرقة العنصرية على غرار جنوب أفريقيا).
اختلفت مقاربة المنظمة للقانون الدولي في بداية التسعينيات عند توقيع اتفاقية أوسلو. فبعد اعتماده أداة لاكتساب شرعية على المستوى الدولي، لم يكن هناك اهتمام كاف بالقانون الدولي في سياق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، والاتفاقيات التي وقعت في إطارها. فقد غُيبت مبادئ القانون الدولي التي كان من الممكن الاستفادة منها كمرجعية وكرافعة في المفاوضات إلى حد كبير. أحد أهم الأمثلة على ذلك هو موضوع الاستيطان. فالمعاهدات الدولية كاتفاقية جنيف الرابعة تمنع دولة محتلة من استجلاب وتوطين مواطنيها في الأراضي التي تحتلها. لم تطرق اتفاقيات أوسلو لهذه الموضوع إطلاقا، بل أدرجت الاستيطان كموضوع بحث في إطار مفاوضات الحل الدائم التي كان من المفروض أن تنتهي في عام 1999. استخدمت إسرائيل غياب موضوع المستوطنات عن الاتفاق ذريعة لمواصلة الاستيطان وتوسيع رقعته حيث تضاعف عدد المستوطنين منذ ذلك الوقت. كانت الحجة الإسرائيلية أنه طالما أن مفاوضات "الحل الدائم" مستمرة، وبما أنه لا يوجد أي بند في الاتفاقيات ينص على وقف الاستيطان، فإن إسرائيل غير ملزمة بوقفه. تجدر الإشارة هنا إلى أن منع الاستيطان في القانون الدولي تعمقّ بعد اتفاقيات أوسلو، إذ إن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (الذي تم اعتماده في عام 1998 ودخل حيز التنفيذ في عام 2001، أي بعد أوسلو) صنّف الاستيطان جريمة حرب.
أخطاء مماثلة حصلت في مواضيع أخرى متعلقة باتفاقيات أوسلو كموضوع المياه والعلاقات الاقتصادية. المحصلة النهائية هي أن بعض بنود الاتفاقيات أصبحت توفر الحجج القانونية (بغض النظر عن مدى سلامة وقوة هذه الحجج) لإسرائيل للاستمرار في سياساتها الاستعمارية.
من الطبيعي أن يعيد الفلسطينيون النظر في أدائهم في ما يتعلق بالقانون الدولي في مرحلة أوسلو. ومن الواجب مقاربته من منظور المصلحة الفلسطينية واستعماله كرافعة. لكن ما حصل منذ عام 2011، عندما قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس التوجه إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف بدولة غير موجودة، هو عكس ما حصل في أوسلو. فمن إهمال القانون الدولي، هرولت القيادة الفلسطينية مسرعة باتجاه المؤسسات الدولية والقانون الدولي. لقد كان حماس القيادة الفلسطينية الذي رافق هذه الحملة (حملة العضو 194) ومظاهر الاحتفالات المفتعلة التي رافقتها توحي بأن القانون الدولي هو المُخلص، وأن الأمم المتحدة تملك بيدها جميع المفاتيح. كان فشل هذه الخطة بمقدار الحماس لها. فقد كانت محاولة من الهروب من السياسة بسبب فشل المفاوضات لكنها أثبتت أن القانون لا يستطيع تبديل السياسة. قد يُخدع المرء بسبب الاحتفاليات والخطاب المتطور الذي يُحتّمه التعامل مع القانون الدولي، إلا أن دراسة متروية للأمر تشير إلى أن هذا التوجه ينم إما عن سذاجة غير مسبوقة أو جهل بطبيعة القانون الدولي والعلاقات الدولية.
فالقانون الدولي نفسه هو نتاج علاقات قوة وتعبير عنها. هو نوع من السياسة لكن بقواعد مُعينة ومنطق مختلف بعض الشيء. وبسبب طبيعته وتاريخه ودوره الوظيفي، فهو يعتمد بدرجة كبيرة على مواقف وأفعال الدول (أي السياسة) ويفتقر إلى آلية تنفيذ مركزية الأمر الذي يبقي التنفيذ في يد الدول التي تتعامل مع الموضوع بحسب مصالحها (أي السياسة مرة أخرى). لذا يجب ألا نفاجئ بأن العديد من المصائب التي حلت بالفلسطينيين هي صنيعة القانون الدولي.
الإيمان الأعمى بالقانون الدولي بدون دراسة عوامل القوة السياسية وتسخيرها في سبيل الهدف السياسي محكوم بالفشل. هذا طبعا لا يعني أن على الفلسطينيين تجاهل القانون الدولي في نضالهم. على العكس، فإن تجاهله هو أيضا محفوف بالمخاطر. الاستراتيجية الأمثل هي استراتيجية سياسية شاملة تستعمل القانون الدولي كواحدة من الأدوات العديدة للوصول للهدف السياسي، لا كبديل للسياسة.
(محاضر في القانون الدولي، جامعة سيتي/ لندن)
اقــرأ أيضاً
وقد كان المناخ السياسي السائد في الأمم المتحدة في تلك المرحلة (السبعينيات والثمانينيات) متعاطفا إلى حد كبير. فالكثير من الدول التي عانت تحت الاستعمار والتي نالت استقلالها بعد كفاح طويل انضمت إلى الأمم المتحدة في تلك المرحلة، وقد كان زعماؤها من قادة الثورات ضد الاستعمار، الأمر الذي خلق جوا مناهضا للاستعمار ومتعاطفا مع حركات التحرر الوطني كمنظمة التحرير ومنظمة شعب جنوب غرب أفريقيا (SWAPO) وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC). هذا المناخ أعطى زخما لتبني عدد من المعاهدات والإعلانات كالمعاهدة الدولية لمنع ومعاقبة جريمة الأبارتهايد (التفرقة العنصرية على غرار جنوب أفريقيا).
أخطاء مماثلة حصلت في مواضيع أخرى متعلقة باتفاقيات أوسلو كموضوع المياه والعلاقات الاقتصادية. المحصلة النهائية هي أن بعض بنود الاتفاقيات أصبحت توفر الحجج القانونية (بغض النظر عن مدى سلامة وقوة هذه الحجج) لإسرائيل للاستمرار في سياساتها الاستعمارية.
فالقانون الدولي نفسه هو نتاج علاقات قوة وتعبير عنها. هو نوع من السياسة لكن بقواعد مُعينة ومنطق مختلف بعض الشيء. وبسبب طبيعته وتاريخه ودوره الوظيفي، فهو يعتمد بدرجة كبيرة على مواقف وأفعال الدول (أي السياسة) ويفتقر إلى آلية تنفيذ مركزية الأمر الذي يبقي التنفيذ في يد الدول التي تتعامل مع الموضوع بحسب مصالحها (أي السياسة مرة أخرى). لذا يجب ألا نفاجئ بأن العديد من المصائب التي حلت بالفلسطينيين هي صنيعة القانون الدولي.
الإيمان الأعمى بالقانون الدولي بدون دراسة عوامل القوة السياسية وتسخيرها في سبيل الهدف السياسي محكوم بالفشل. هذا طبعا لا يعني أن على الفلسطينيين تجاهل القانون الدولي في نضالهم. على العكس، فإن تجاهله هو أيضا محفوف بالمخاطر. الاستراتيجية الأمثل هي استراتيجية سياسية شاملة تستعمل القانون الدولي كواحدة من الأدوات العديدة للوصول للهدف السياسي، لا كبديل للسياسة.
(محاضر في القانون الدولي، جامعة سيتي/ لندن)