لم تسفر اجتماعات الجولة الخامسة من أعمال اللجنة الدستورية السورية، التي اختتمت أمس الجمعة، عن إحداث خرق حقيقي في الاتفاق على مضامين دستورية، والتسليم بإدراجها في الدستور الجديد للبلاد. وعلى الرغم من محاولة المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن دفع المفاوضات قدماً، إثر قيامه بجولات مكوكية بين موسكو وطهران وأنقرة والقاهرة قبل بدء الاجتماعات يوم الإثنين الماضي، إلا أن مساعيه لم تسفر عن نتيجة، وهو ما ظهر في مجريات الجولة الخامسة. وفي تعبير واضح عن فشل هذه الجولة، قال بيدرسن، في تصريحات مساء أمس، إنه أبلغ أعضاء اللجنة الدستورية بأن هذه الجولة كانت مخيّبة للآمال، لافتاً إلى أن وفد النظام رفض المقترحات التي قدّمها للجنة، ومعلناً أنه لم يتم تحديد موعد للجولة المقبلة من اجتماعات اللجنة. وأضاف أنه سيزور دمشق كما سيلتقي بمسؤولين روس وإيرانيين للمضي في المفاوضات. وفي السياق، استمر النظام السوري بالمراوغة، في سبيل اللعب على عامل الوقت وتجنب مناقشة مضامين الدستور، فزجّ بما سماه "سيادة الدولة" وتحقيقها كشرط للاستمرار في صياغة الدستور. واعتبر وفد النظام خلال الجولة الخامسة من المحادثات أنه من المبكر الدخول في مرحلة الصياغات الدستورية قبل الانتهاء من مناقشة مواضيع السيادة والاحتلالات والوجود الأجنبي، وكلها مواضيع غير دستورية يحاول من خلالها النظام تعطيل المسار. وشكّل حضور ممثلين عن روسيا وإيران وتركيا (الدول الثلاث الضامنة) إلى جنيف السويسرية، في اليوم الثاني لأعمال الجولة، ووجود مسؤولين أميركيين من الأساس، ضغطاً على وفد النظام للانخراط بمناقشة مضامين الدستور، بعدما غلب الجدال على مداخلة الوفد في اجتماعات اليومين الأولين. لكن النقاشات من قبل وفد النظام، في الأيام الثلاثة التالية من عمر الجولة، اقتصرت على الحديث عن المفاهيم الدستورية، من دون الموافقة على كتابة نصوص ووضع صياغات حقيقية.
كان من المقرر مناقشة المبادئ الأساسية في الدستور
في المقابل، حاول حلفاء النظام استغلال حضورهم في جنيف بالتزامن مع أعمال الجولة، ولا سيما الجانب الروسي الذي حضر عنه مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، بالترويج لأهمية حل الخلافات العالقة على مستوى مسار أستانا، بحكم أن اجتماعات اللجنة الدستورية لم تسفر عن نتائج فعلية. في السياق، ذكر أحد أعضاء القائمة الموسعة لوفد المعارضة للجنة الدستورية، لـ"العربي الجديد"، أن الروس ناقشوا بعض أعضاء اللجنة من قائمة المعارضة في جنيف بشكل جانبي، من دون أن تكون هناك اجتماعات رسمية، محاولين إيصال فكرة الذهاب إلى جولة جديدة من مسار أستانا لحل بعض القضايا، من بينها بحث العملية الدستورية. وأضاف أنه سبق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن أعلن عن تحضيرات لعقد اجتماع بصيغة أستانا لبحث الملف السوري، في مدينة سوتشي الروسية، في شهر فبراير/ شباط المقبل، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، يوم الثلاثاء الماضي، في موسكو. وأشار العضو في وفد المعارضة إلى انعقاد اجتماعات جانبية وغير رسمية أيضاً، بين أعضاء من وفد المعارضة مع ممثلين عن تركيا حضروا إلى جنيف، بعد تلويح وفد المعارضة بتعليق مشاركته بأعمال اللجنة الدستورية، احتجاجاً على تعطيل وفد النظام لعمل اللجنة. لكن الجانب التركي نصح بعدم اللجوء لهذا الخيار، مؤكداً أن ذلك سيدفع النظام وحلفاءه لاستغلال هذا الموقف وتوجيه الاتهامات نحو المعارضة بالتعطيل والانسحاب. وكان كل من رئيس هيئة التفاوض المعارضة أنس العبدة، والرئيس المشترك للجنة الدستورية عن المعارضة هادي البحرة، وعضو القائمة الموسعة لوفد المعارضة بدر جاموس، قد التقوا، يوم الأربعاء الماضي، وفداً أميركياً في جنيف، على الأغلب من بعثة الولايات المتحدة الدائمة في الأمم المتحدة هناك، من دون الكشف عن تفاصيل الاجتماع. كما التقى البحرة لافرنتييف، من دون أن ترشح عن اللقاء أي معلومات تذكر، سوى إشارة البحرة في إحاطة قدمها للقائمة الموسعة للجنة عقب اللقاء، إلى أن الأجواء غير مبشرة، وأنه في حال استمر الوضع خلال اجتماعات اللجنة على هذا المنوال، فإنه لا داعي لوجودهم في اللجنة. وفي حين ساد التوتر بين أطراف اللجنة طيلة أيام الجولة الخامسة بسبب الجدل والتعطيل، فقد انتقل هذا التوتر إلى وفد المعارضة. وكشفت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن أصواتاً ارتفعت من داخل القائمة الموسعة للمعارضة بضرورة استبدال أعضاء القائمة المصغرة إلى اجتماعات اللجنة الدستورية، بذريعة قلة كفاءتهم وعدم قدرتهم على التعامل مع ممارسات وفد النظام بالتعطيل والتملص من الدخول بصياغة نصوص الدستور. وأشارت المصادر إلى أنه على الأغلب سيكون هذا الموضوع مطروحاً بعد عودة الوفد من أعمال الجولة الخامسة، داخل هيئة التفاوض والقائمة الموسعة للمعارضة. وكان من المقرر أن تناقش الجولة الخامسة المبادئ الأساسية في الدستور، وفي مقدمتها الهيكل العام للدستور الذي ستبنى عليه باقي فصوله، ويتم من خلالها رسم الملامح الأساسية للدولة الجديدة، كالرؤية العامة لشكل النظام السياسي، وكيفية الفصل المتوازن بين السلطات، وتحقيق استقلالية القضاء، وسيادة القانون، وضمان الحقوق والحريات وغيرها من المضامين الدستورية. غير أن وفد النظام سحب النقاشات لمكان بعيد هذه المرة، معتبراً أن سيادة الدولة منقوصة من خلال وجود احتلالات متعددة، بشكل لا يسمح لها بالدخول بحل سياسي إلا بعد حل هذه المشكلة. وبالتالي لا يمكن صياغة دستور جديد إلا مع إنهاء كل أشكال الاحتلال وإقرار الحل السياسي. كما حاول وفد النظام وضع هذا البند شرطاً للدخول في عملية صياغة الدستور، إلى جانب رفع العقوبات الأجنبية وغيرها، الأمر الذي عطل أعمال اليومين الأولين من اجتماعات الجولة.
من جهتها، أشارت عضو القائمة المصغرة لوفد المعارضة ديمة موسى، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "في الوقت الذي يقدم فيه وفد هيئة التفاوض السورية مضامين دستورية ضمن جدول الأعمال حول المبادئ الأساسية في الدستور، ما زال الطرف الآخر يناقش في العموم ولا يقدم مضامين دستورية". وأضافت: "لا بد أن تكون هناك آلية عمل واضحة لمناقشة جدول الأعمال وجدول زمني محدد، وأيضاً نرى أنه يتوجب أن يكون هناك تكثيف لمدة الاجتماعات للخروج بنتائج حقيقية". وأشارت موسى إلى أن "المطلوب هو وجود إرادة حقيقية لدى الطرف الآخر (النظام) للانخراط بالشكل الجدي المطلوب، ليس فقط في العملية الدستورية، ولكن في العملية السياسية ككل كمخرج وحيد من الأزمة، بل الكارثة التي يعيشها الشعب السوري". كما قدّم وفد النظام مداخلة عن المركزية السياسية، معتبراً أن احتكار وظائف التشريع والقضاء والجيش والنقد والسياسة الخارجية وغيرها من الأمور السيادية، ضرورة أساسية للدولة الحديثة واستقرارها. وشدّد الوفد على ضرورة التنمية المتوازنة كإطار لضمان وحدة البلاد، بدلاً من فكرة التوازن بين المناطق. كذلك شدّد على "العروبة" كسِمَة للدولة الجديدة، مهاجماً بحدة مصطلح "العدالة الانتقالية"، الذي تؤكد المعارضة على ضرورة أن يشكل مرحلة من مراحل الانتقال السياسي. وجادل وفد النظام كذلك بمواضيع لا تتعلق بصلب الدستور، مثل اسم الدولة ورمزيته واحترام سيادة الدولة وعدم قبول التدخل الخارجي، وربط ذلك بالقوانين الدولية، وبأن للدولة كل الصلاحيات لحماية سيادتها من التدخل الخارجي. في المقابل، التزم وفد المعارضة بالمبادئ الدستورية العشرة التي جاء بها إلى الجولة، وضرورة إدراج بعض الأفكار التي كانت واردة في الدساتير السابقة ضمن فصل المبادئ كي تعزز مكانتها. ومن هذه الأفكار، موضوع فصل السلطات وتداول السلطة والكرامة ومناهضة كل أشكال التمييز. كما قدم أعضاء الوفد مداخلات تتعلق بالتعددية الحزبية، والإطار الناظم لتنظيم الأحزاب والجمعيات السياسية وأنواعها وطرق تسجيلها في مختلف الدول، لمحاولة الوصول إلى أفكار يمكن الاستفادة منها في الواقع السوري. كما تحدث وفد المعارضة عن آليات تداول السلطة ودور الأحزاب السياسية في التعبير عن إرادة الشعب. وتمّ الردّ أيضاً على وفد النظام المتمسك بمفهوم "العروبة"، والإشارة إلى ضرورة احترام التنوع وعدم استخدام "العروبة" أداةً سياسية أيديولوجية للتمييز ضد أي مكون من المكونات، وتناول ضرورة إصلاح أجهزة الأمن وإخضاعها للمساءلة.
التزم وفد المعارضة بالمبادئ الدستورية العشرة
وتطرقت مداخلات الطرف الثالث في اللجنة، المجتمع المدني، إلى ضرورة تعزيز مبادئ حماية حقوق الإنسان في الدستور، وتمكين وإصلاح المؤسسات المعنية بحمايتها في إطار عملية "العدالة الانتقالية". واتضح خلال الجولة أن المجتمع المدني منقسم إلى طرفين، قسم مؤيد لطروحات النظام، وهو يمثل كيانات تعمل إلى جانب النظام، وقسم مؤيد لمعظم طروحات وفد المعارضة، وهو يمثل منظمات وجمعيات ولدت خلال الثورة وتعمل إلى جانب المعارضة. لكن كل تلك النقاشات لم تفضِ إلى البدء بوضع نصوص وصياغات دستورية، إذ عارض النظام الوصول إلى هذه المرحلة، على اعتبار أنها تحتاج إلى وقت طويل من النقاش. ويمكن القول إن هذه الجولة انتهت كسابقاتها. وفي السياق، أفادت مصادر لـ"العربي الجديد"، بأن وفد المعارضة وهيئة التفاوض سيلجأ إلى إعادة تقييم الجولة بنقاشات مع حلفائه الغربيين، الأوروبيين والأميركيين بالإضافة إلى الأتراك، لاتخاذ موقف محدد من العملية الدستورية، التي بدأت متعثرة ولا تزال.