شهر وأسبوع مرا على بدء روسيا حربها ضد أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، من دون أن تحقق نتائج ميدانية كافية لقلب موازين القوة على الأرض، باستثناء الدمار والقتلى بما في ذلك سقوط الآلاف من قواتها، ومحاصرة المدن وسكانها، في غزو تحوّل إلى ما يشبه معارك استنزاف، انعكست بشكل جلي على معنويات الجيش الروسي الذي بدأ بعض أفراده برفض تنفيذ الأوامر في أوكرانيا، بحسب المخابرات البريطانية والأميركية.
وتثبت المعطيات الميدانية على الأرض إلى الآن، أن تقديرات موسكو لم تكن في مكانها، ولا سيما بشأن سهولة العملية، كما قدّر الكثير من المسؤولين الروس وحتى بعض المسؤولين الغربيين في بداية الاجتياح.
كما تثبت هذه المعطيات فشل فرضية إمكانية الوصول إلى العاصمة كييف في وقت قصير، وبالتالي فرض روسيا سريعاً لشروطها وتنصيب حكم موال لها في جارتها ينفذ إملاءاتها وعلى رأسها إبعاد أوكرانيا عن حلف شمال الأطلسي.
إذ إن دول هذا الحلف كثفت دعمها ولا سيما العسكري لكييف في هذه المعركة، وإن كان ذلك لا يرضي أوكرانيا إلى الآن، التي يواصل رئيسها فولوديمير زيلينسكي، المطالبة بمزيد من الدعم، وكذلك المزيد من العقوبات لشل نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أثبتت المعطيات الميدانية فشل فرضية إمكانية الوصول إلى العاصمة كييف في وقت قصير
خسائر روسية بعد غزو أوكرانيا
وفي وقت يتكتم فيه الروس بشكل كبير على حجم خسائرهم العسكرية في الميدان الأوكراني ويكشفون بين حين وآخر عن القليل منها، تتولى استخبارات الدول الغربية ولا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا، المهمة، وتتحدث عن "آلاف القتلى" في صفوف الجيش الروسي، وعن فقدان التنسيق والتواصل بين قادته، فضلاً عن معاناته من مشكلات عدة تصل إلى حد نقصان إمدادات الطعام.
وقد قتل ما لا يقل عن سبع جنرالات روس كبار في الحرب الأوكرانية، بحسب صحيفة "ذا تايمز" البريطانية، بما في ذلك اللفتنانت جنرال ياكوف ريزانتسيف، الذي قضى قبل أيام في غارة أوكرانية على مطار بالقرب من مدينة خيرسون التي تحتلها القوات الروسية، شمال شبه جزيرة القرم. وريزانتسيف تفاخر سابقاً بأنّ الحرب في أوكرانيا "ستنتهي في غضون ساعات".
كذلك، واجهت القوات الروسية مقاومة شرسة، ليس من الجيش الأوكراني وحسب، بل حتى من قبل متطوعين أوكرانيين، حملوا السلاح للدفاع عن بلدهم، إلى جانب سماح كييف بوصول مقاتلين من الخارج لدعمها، وتسهيل إجراءات ذلك، من دون أن يتضح بشكل دقيق حجم مشاركة هؤلاء في المعركة. ومما ساعد الجيش الأوكراني أن المعركة تجري على أرضه التي يعرف تفاصيلها وتضاريسها.
دولياً، واجهت روسيا حملة عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، وعزلة وإدانات دولية واسعة، ما انعكس على الداخل الروسي، ولا سيما قطاع الاقتصاد الذي سيتضح مدى خسائره بشكل أكبر في مرور الوقت، في ظل تواصل حملة العقوبات ضد موسكو وارتداداتها داخل أوروبا، بما في ذلك إعلان حكومتا فرنسا وألمانيا أمس، أن البلدين "يستعدان" لاحتمال توقف روسيا عن تسليم الغاز، مؤكدتين معارضتهما دفع ثمن الإمدادات بالروبل.
في حين قال الكرملين إنه يمكن أن تستمر "الدول غير الصديقة" في دفع ثمن الغاز الطبيعي بالعملة الأجنبية من خلال بنك روسي يقوم بتحويل الأموال إلى روبل، وفقاً للمرسوم الذي وقعه بوتين أمس ونشرته وسائل الإعلام الرسمية أمس.
واليوم، يبدو الاعتراف الروسي بحقيقة الوضع الميداني، أمراً صعباً، خصوصاً أن مستشاري الرئيس فلاديمير بوتين، "يضللونه" بشأن الحرب في أوكرانيا و"يخشون إخباره الحقيقة"، بحسب الاستخبارات الأميركية والبريطانية.
وهو ما يشير إلى أن الحرب لن تنتهي قريباً وإن بدت روسيا أخيراً تحاول التراجع بعض الشيء وحصر المعركة بشكل أساسي بشرق أوكرانيا وتحديداً إقليم دونباس، بحسب تصريحات مسؤوليها، في ظل عدم تمكنها مع تحقيق النتائج المرجوة من حربها.
الاستخبارات البريطانية: مستشارو بوتين يخشون إخباره الحقيقة
تضليل بوتين حول مسار الحرب في أوكرانيا
واعتبر مدير الاستخبارات البريطانية جيريمي فليمينغ، في تصريحات له أمس الخميس، أن مستشاري الرئيس الروسي "يخشون إخباره الحقيقة" بشأن إستراتيجيته الحربية "الفاشلة" في أوكرانيا. وأضاف "لقد رأينا جنوداً روساً - يفتقرون إلى السلاح ومعنوياتهم متدنية، يرفضون تنفيذ الأوامر ويخرّبون المعدات الخاصة بهم، بل ويُسقطون طائراتهم عن طريق الخطأ".
وتابع "حتى لو كان مستشارو بوتين يخشون إخباره بالحقيقة، فإن ما يحدث ومدى جسامة هذه الحسابات الخاطئة يجب أن يكونا واضحين تماماً للنظام".
ويكرر المسؤول البريطاني بذلك ما أدلى به في اليوم السابق مسؤول كبير في البيت الأبيض لجهة أن بوتين يتلقى معلومات مضللة حول مسار الحرب في أوكرانيا لأن مستشاريه يخشون إطلاعه على الخسائر العسكرية والاقتصادية التي تكبدتها روسيا بسبب غزوها جارتها.
وقال المسؤول في البيت الأبيض طالباً عدم نشر اسمه، وفق "فرانس برس"، إن معلومات استخباراتية أميركية رفعت عنها السرية أظهرت أن "بوتين لم يكن على علم حتى أن جيشه كان يجند متطوعين ويخسرهم في أوكرانيا، ما يدل على انقطاع واضح في حصول الرئيس الروسي على معلومات موثوق بها".
وفيما كان بوتين يصوب أمس، في كلمة له خلال اجتماع حكومي، على الولايات المتحدة متهماً إياها بأنها "ستحاول حل مشاكلها على حساب الآخرين من خلال خلق موجات جديدة من العجز العالمي"، عبّر الكرملين أمس عن "أسفه" و"قلقه" بشأن تقارير المسؤولين الأميركيين والبريطانيين بأن الرئيس الروسي يتم تضليله.
وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، للصحافيين "إنهم ببساطة لا يفهمون ما يحدث في الكرملين، ولا يفهمون الرئيس بوتين ولا يفهمون آلية اتخاذ القرارات وأسلوب عملنا". في الأثناء، وقع بوتين، أمس، مرسوماً بشأن التجنيد الإلزامي في الربيع، والذي يضيف 134 ألف مجند حديث إلى الجيش الروسي.
لا انسحابات للقوات الروسية من أوكرانيا
في غضون ذلك، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أمس الخميس، أنه لا يصدق التعهدات التي أطلقتها روسيا بشأن تقليص عملياتها العسكرية في بلاده، مشيراً إلى أن قواته تتحضّر لخوض معارك جديدة في شرق البلاد.
وجاء إعلان زيلنسكي بعدما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها ستلتزم اعتباراً من صباح أمس الخميس، وقفاً لإطلاق النار في ماريوبول إفساحاً في المجال أمام إجلاء المدنيين من المدينة المحاصرة. وهو ما اعتبرته نائبة رئيس الوزراء الأوكرانية إيرينا فيريشوك "تلاعباً"، بينما أرسلت كييف أمس بالفعل 45 حافلة لإجلاء مدنيين من ماريوبول.
وأعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها تستعدّ لتسهيل الإجلاء الآمن للمدنيين من مدينة ماريوبول اعتباراً من اليوم الجمعة.
وقال زيلينسكي في رسالة مصورة "نحن لا نصدق أحداً، ولا حتى عبارة جميلة واحدة"، مشيراً إلى أن القوات الروسية تعيد انتشارها لمهاجمة إقليم دونباس الواقع في شرق البلاد.
الحلف الأطلسي لا يرى انسحاباً روسياً من أوكرانيا
وكانت روسيا، التي تقول إنها تريد التركيز على إقليم دونباس في الشرق حيث تقع المنطقتان الانفصاليتان دونيتسك ولوغانسك، قد تعهدت يوم الثلاثاء الماضي بـ"الحدّ بشكل جذري من نشاطها العسكري في اتجاه كييف وتشيرنيهيف" في شمال البلاد، بعد المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول.
لكن هيئة الأركان العامة الأوكرانية توقعت مساء أول من أمس الأربعاء، عبر فيسبوك، أن "يزداد إطلاق النار على الوحدات الأوكرانية"، مع اعتبار "مهمّة محاصرة مدينة تشيرنيهيف" هدفاً.
ولفت المتحدث باسم وزارة الدفاع الأوكرانية أولكسندر موتوزيانيك الأربعاء إلى أنه لاحظ خروج وحدات معينة من كييف وتشرنيهيف، لكن "لم يكن هناك انسحاب مكثف للقوات الروسية من هذه المناطق"، على عكس ما تعهّدت به موسكو قبل يوم.
كذلك، قالت وزارة الدفاع البريطانية أمس، إن روسيا تواصل قصف مدينة تشيرنيهيف.
من جهته، أعلن الأمين العام لحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، أمس، أن الحلف لا يرى انسحاباً للقوات الروسية من أوكرانيا وأنه يتوقع "هجمات إضافية". وقال خلال مؤتمر صحافي "بحسب استخباراتنا، الوحدات الروسية ليست بصدد الانسحاب، بل تعيد تموضعها. وتحاول روسيا إعادة تجميع صفوفها وتعزيز هجومها في منطقة دونباس". وأضاف "في الوقت نفسه، تواصل روسيا الضغط على كييف ومدن أخرى".
من جانبه، أعلن قائد اللواء 92 في القوات الأوكرانية أمس أن الوضع "مستقر" في خاركيف (شمال شرق) ثاني أكبر مدن أوكرانيا، لكن الجيش الروسي "يعيد تجميع قواته للهجوم" في شرق البلاد وجنوبها.
وبحسب هيئة الأركان الأوكرانية، فإنه "باتجاه دونيتسك، يحاول العدو السيطرة على بوباسنا وروبيجني والاستيلاء على ماريوبول" حيث يواصل الروس "تنفيذ هجماتهم". وقال فاديم دينيسينكو، أحد مستشاري وزير الداخلية الأوكراني، أمس إن "الروس بدأوا باستخدام مطار بريست (في بيلاروسيا) لقصف أراضينا".
وأعلن الانفصاليون الموالون لروسيا في منطقة دونباس، أمس، أنهم يسيطرون على منطقة لوغانسك بشكل كامل تقريباً بالإضافة إلى أكثر من نصف دونيتسك.
وفي شرق أوكرانيا أيضاً، استعاد الجيش الأوكراني السيطرة على طريق سريع استراتيجي يربط خاركيف بشوهويف. وقال مسؤول في الاستخبارات الأوكرانية لوكالة فرانس برس "هناك جثث روسية منتشرة في كل مكان"، مضيفاً "كان القتال صعباً جداً واستمر قرابة ثلاثة أيام". وغادرت القوات الروسية مدينة تروستيانتس بعد شهر من احتلالها.
وفي إطار الخسائر، قالت أجهزة الطوارئ الأوكرانية، أمس، إن عدد القتلى بعد هجوم صاروخي روسي شن الثلاثاء الماضي على مقر الحكومة الإقليمية في مدينة ميكولايف الجنوبية ارتفع إلى 20، بينما قتل شخصان وأصيب 5 آخرون أمس، في هجوم صاروخي على وحدة عسكرية ومستودع في منطقة دنيبرو بشرق أوكرانيا.
لقاء محتمل لوزيري خارجية روسيا وأوكرانيا
ومن المحتمل أن يلتقي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بنظيره الأوكراني دميترو كوليبا خلال أسبوعين لإجراء محادثات، حسب ما أعلنت تركيا أمس بعد استضافتها وفدين من الطرفين يوم الثلاثاء.
وقال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو في مقابلة تلفزيونية: "قد يحصل اجتماع على مستوى أعلى، على الأقل على مستوى وزراء الخارجية، خلال أسبوع أو أسبوعين"، مشيراً إلى أنه "من المستحيل تقديم موعد".
بدوره، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس، إن تركيا مستعدة من حيث المبدأ لأن تلعب دور الضامن لأوكرانيا، لكن يتعين تحديد التفاصيل اللازمة لنجاح مثل هذه الصيغة.
من جهة أخرى، قال رئيس الشركة الوطنية لتوليد الطاقة النووية في أوكرانيا بيترو كوتين، أمس إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ستشكل فرق مراقبة عبر الإنترنت لمحطتي تشرنوبيل وزابوريجيا النوويتين اللتين تحتلهما روسيا في أوكرانيا.
ويأتي ذلك بعدما أكد مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية الأربعاء، إن القوات الروسية بدأت بالانسحاب محطة تشيرنوبيل.
وفي تداعيات جديدة للحرب الأوكرانية، أُعفي مدير المخابرات العسكرية الفرنسية الجنرال إريك فيدو، من منصبه على خلفية ما اعتُبر تقصيراً في ما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا، بحسب ما علمت وكالة "فرانس برس" أمس من مصادر عسكرية وأخرى مطلعة على الملف.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)