العلاقات الفرنسية البريطانية بعد فوز ماكرون: العقدة عند جونسون

29 ابريل 2022
لا يبدو ماكرون متحمساً للتعاون مع جونسون (Getty)
+ الخط -

لم يتأخر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في نشر تغريدة تهنئة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد فوزه مساء الأحد الماضي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

وكتب جونسون على صفحته: "مبروك إيمانويل ماكرون على فوزك بولاية ثانية. فرنسا هي واحدة من أقرب الحلفاء لدينا ومن أهمّهم. أتطلّع إلى متابعة العمل المشترك حول القضايا المفتاحية بالنسبة لبلدينا وللعالم".

قارن ماكرون تداعيات "بريكست" بالتداعيات المحتملة لوصول لوبان إلى الرئاسة

إلا أن ماكرون، من جهته، لا يبدو شديد الحماسة للتعاون مع جونسون، وطيّ صفحة مؤلمة من فتور العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، ومن تبادل الاتهامات، وأحياناً العبارات المهينة.

خلاف فرنسية بريطانية حول "القضايا المفتاحية"

فقد شهدت العلاقات بين البلدين، خلال السنوات الثلاث الماضية، خلافاً على كل "القضايا المفتاحية" التي يتطلّع جونسون إلى "متابعة العمل حولها": المهاجرون وحقوق الصيد واللقاحات ضد فيروس كوفيد-19 واستيراد اللحوم المجمّدة والنزاع حول بروتوكول إيرلندا الشمالية وحول التعاون الدفاعي الثنائي.

لو اعتقد جونسون أن انشغال ماكرون في الانتخابات الفرنسية هو الذي أعاق التوصل إلى حلول في الكثير من تلك القضايا والملفات، فإن المعطيات تشير إلى أنه مخطئ على الأرجح في قناعته تلك.

تبدو الأحداث والتصريحات في سياقها الزمني مثيرة للسخرية بعض الشيء. إصرار "داونينغ ستريت" على أن الأرضية متوفرة لـ"علاقة عمل جيدة" بين الطرفين، يقابله إصرار فرنسي على عدم توفّر تلك الأرضية.

وفي الوقت الذي قال فيه المتحدث باسم رئيس الوزراء من لندن إن "علاقة العمل بين جونسون وماكرون جيدة"، أكد وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير من باريس أن "هذه العلاقة ليست من أولوياتنا القصوى، بل تعزيز الوحدة الفرنسية، للإحاطة بكل المشاغل التي تمّ التعبير عنها خلال هذه الانتخابات".

وتؤكد وسائل إعلام فرنسية مقرّبة من الإليزيه أن ضبط العلاقات الفرنسية البريطانية يقترن بشكل أساسي بوجود جونسون في منصبه كرئيس وزراء أو عدمه. إذ أظهرت السنوات الماضية أن شعبية جونسون لم تفتر في بريطانيا فحسب، بل أيضاً في فرنسا، وتحديداً في الإليزيه.

ليس تفصيلاً بسيطاً في الأعراف الدبلوماسية أن يقارن ماكرون تداعيات "بريكست" بالتداعيات المحتملة لوصول مارين لوبان إلى الرئاسة. فقد حذّر ماكرون الناخبين الفرنسيين من البقاء في منازلهم، والسماح للوبان بالوصول إلى الحكم، بالضبط كما فشل الناخبون البريطانيون في التصدّي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قائلاً: "أؤكّد لكم أنهم ندموا على تلك الخطوة في اليوم التالي".

جونسون ضعيف ومحاصر

من جهة أخرى، يعزز المأزق السياسي الذي يعيشه جونسون على الساحة الداخلية، الأزمات التي يمرّ بها في الخارج ويزيد من حدّتها. فهو إن كان قد بدا في لحظة الخروج من الاتحاد الأوروبي قوياً وواثقاً، فإنه اليوم يبدو ضعيفاً ومحاصراً أكثر من أي وقت مضى، على الرغم من "الفرصة الذهبية" التي أتاحتها له أزمة أوكرانيا.

تحتاج الأزمة العميقة بين البلدين إلى ترميم تدريجي للثقة والوفاء بالالتزامات المشتركة

اليوم، لم يعد جونسون ما كان عليه قبل ثلاث سنوات. لا جدال في ذلك. والأزمة العميقة بين البلدين تبدو أبعد من لحظة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتحتاج إلى ترميم تدريجي للثقة والوفاء بالالتزامات المشتركة. الأمر الذي ستعيقه ضجة الانتخابات المحلية البريطانية المرتقبة بعد أسبوع من الآن. وعلى الأرجح لاحقاً سير تلك الانتخابات ونتائجها، وما ستسفر عنه سياسياً واقتصادياً.

ويبدو حديث جونسون عن "الأرضية المشتركة" للتعاون في ملفات خلافية أساسية عبثياً، في الوقت الذي ترتفع فيه وتيرة الأحاديث عن "تمرّد" مرتقب من حزب المحافظين، ومؤجّل إلى ما بعد انتخابات 5 مايو/أيار المقبل.

كما تلاحق جونسون فضائح "حفلات داونينغ ستريت"، وغرامات الشرطة المتوقعة بحقه بعد الانتخابات، وتقرير "سو غراي"، وملف غلاء المعيشة، والخروقات الأخرى المتعلّقة بالتعامل مع وباء كورونا. ملفّات كثيرة تثقل كاهل الحكومة اليوم إلى حدّ يصعب معه أن نتخيّل قدرتها على التحرّك، ولو ببطء تجاه تلك الملفات العالقة.

يبدو جونسون منفصلاً عن الواقع في تقليله من أهمية النزاعات بين بريطانيا وفرنسا، وهذه ليست المرة الأولى التي يبدو فيها بهذه الحال. فهو ينكر منذ أشهر خرقه للقانون "عمداً". ينكر تراجع شعبيته، والخطر الحقيقي الذي يواجه مستقبله السياسي، والمأزق الذي يعيشه قبل أيام من الانتخابات.

دفاع ماكرون عن "هيبة" فرنسا

كما ينكر أن موقف ماكرون من المملكة المتحدة أبعد بكثير من أن يكون مبنياً على التهديد الذي عاشه قبل الانتخابات، وأن الرئيس الفرنسي في ردة فعله على سلوك بريطانيا إنما يدافع عن "هيبة" فرنسا وعن مصالحها، وهو الذي جعل من الاتحاد الأوروبي ركيزة أساسية لسياساته الداخلية والخارجية.

فهل يعتقد جونسون فعلاً أن تسلّله إلى الحضن الأوروبي عبر أزمة أوكرانيا، سيدفع فرنسا إلى تجاوز صفقة الغواصات النووية "أوكوس" مع أستراليا، والتي كلّفت باريس 37 مليار دولار، ووصفتها الدبلوماسية الفرنسية، في ذلك الوقت، بـ"طعنة في الظهر" و"خرق الثقة" و"الكذب" و"المعاملة غير اللائقة"، وبـ"الانتهازية المستمرة"؟ والمقصود بهذه الأخيرة تحديداً، بريطانيا.

وهل ستتجاوز فرنسا أزمة المهاجرين، والنزاع المحتدم حول بروتوكول إيرلندا الشمالية، خصوصاً أن جونسون لم يعطِ حتى الآن أي انطباع بنيّته تغيير سياسته في هذه الملفات؟ فهو يكتفي بإنكار الواقع، ويعيد تأكيد ما لم يعد في الإمكان تأكيده: بقاؤه في منصبه كرئيس وزراء، و"العلاقات الجيدة" بين بريطانيا وفرنسا.

نتائج الانتخابات البريطانية ستكون مفتاحية بالنسبة للبريطانيين ودول الاتحاد الأوروبي أيضاً
 

صحيفة "لوموند" الفرنسية نشرت مقالاً، أخيراً، بعنوان "بوريس جونسون، رئيس وزراء لا يستحق منصبه"، أوردت فيه أنه "ليس محافظاً أصلياً بسبب انتهاكاته المتكررة للقانون". وأشارت إلى أن "القاسم المشترك بينه وبين نظيره المجري فيكتور أوربان والرئيس البولندي أندريه دودا ومارين لوبان ودونالد ترامب، هو قبل كل شيء العلاقة المرضية التي تربطهم بسيادة القانون".

كما وصفت الصحيفة وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل، في المقال ذاته، بـ"الافتقار إلى الحسّ الإنساني، هي المنحدرة من أصول مهاجرة، والتي تعاملت مع قضية الهجرة بطريقة أكثر ملكية من الملك".

في المقابل، يصعب إغفال ما أحدثه الغزو الروسي على أوكرانيا من عبث، وزعزعة للكثير من المفاهيم والمعادلات السياسية والاقتصادية. ولا يمكن فصل الدور الذي لعبته المملكة المتحدة والدعم "غير المسبوق" الذي قدّمته إلى كييف، عن سياق ذلك العبث وتلك الزعزعة.

بالتأكيد حصد جونسون مكاسب عديدة، قد تكون آنية ومؤقتة، إلا أنها ستؤجّل إلى حين، مواجهة مؤلمة كان لا بدّ أن تحصل بين ماكرون وبريطانيا.

فلن يكون من السهل على ماكرون اليوم إقناع الاتحاد الأوروبي بأن يتعامل بقسوة وحزم مع بريطانيا، التي كان لها "فضل كبير" في الاستجابة السريعة لدعوة حلفائها التقليديين في دول البلطيق وأوروبا الوسطى، بتعزيز الأمن على حدودهم مع روسيا. وبالتالي لن تؤدي المطالب بـ"عقاب" بريطانيا اليوم إلا إلى مزيد من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي.

يبقى أن نتائج انتخابات 5 مايو المقبل، وما قد يليها من "معارك" جانبية، ستكون مفتاحية بالنسبة للبريطانيين ولدول الاتحاد الأوروبي أيضاً. حتى ذلك الوقت، من المتوقع أن يصبّ الرئيس الفرنسي اهتمامه على تعزيز علاقته بألمانيا، ودعم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ضد الغزو الروسي.

يضاف إلى ذلك الكثير من المسائل الداخلية العالقة، وعلى رأسها "معركته" المقبلة في الانتخابات التشريعية المقررة في 12 و19 يونيو/حزيران المقبل. بينما سيتعيّن على جونسون أن يواجه "مصائبه" الداخلية، وأن يعيد تشكيل علاقته بالاتحاد الذي انفصل عنه.