أثارت وثيقة مسرّبة الأسبوع الماضي، للائحة أعدتها هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والإعلامية والقانونية في البلاد، لاسيما بين الناشطين السياسيين والحركات المدنية السياسية الناشئة، الذين يعارضون شكل العمل السياسي الحالي في البلاد.
لائحة فضفاضة تعزّز تقييد الحريات
ويأتي هذا الجدل، خصوصاً أن اللائحة (لائحة تنظيم المحتوى الرقمي) تضمنت نقاطاً فضفاضة تهدد بتقييد واسع لحرية التعبير والرأي في العراق، من بينها "تهديد استقرار العملية السياسية". وتتوعد الوثيقة بعقوبات تصل إلى السجن لمدد متفاوتة، جزاء منشورات المواطنين أو مقاطع مصورة. وأكثر ما يُثير الناشطين هو "الانتقائية" في التعامل بهذه القضية، واستثناء شخصيات معروفة بالخطاب الطائفي والعنصري.
وتألفت اللائحة المسرّبة من 36 مادة و17 فصلاً، إلا أن المادة السابعة منها تعد الأكثر إثارة للجدل، لا سيما أنها نصّت على عدم إفشاء أو تسريب الوثائق الرسمية أو ما يدور في الاجتماعات الرسمية السرّية إلا بإذن خاص، وهو ما اعتبره صحافيون "جهلاً" لطبيعة العمل الإعلامي في الأنظمة الديمقراطية. كما ذكرت اللائحة عبارات مثل "الأمن القومي وحماية الأفراد وتهديد السلم الأهلي ومنع تداول عبارات الكراهية والطائفية"، دون تحديد أشكال هذه المخاطر من خلال تفسيرات واضحة.
كما تضمنت اللائحة أحكاماً جزائية تبدأ بالتعهد وحذف المحتوى وحجب الصفحة المنشور فيها، وصولاً إلى إحالة الملف على القضاء، فضلاً عن غرامات مالية تبدأ من 500 ألف دينار (350 دولارا) وتصل إلى 5 ملايين دينار (3.5 آلاف دولار). كما رأت الهيئة أن هدف هذه البنود هو "الحد من الاستخدام السيئ للمحتوى الرقمي "الهابط" أو المسيء، ورصد المعلومات الكاذبة والمضللة والتي من شأنها الإساءة إلى كرامة الإنسان والوحدة الوطنية والسلم الأهلي".
نصّت الوثيقة على عدم إفشاء أو تسريب الوثائق الرسمية أو ما يدور في الاجتماعات الرسمية السرّية إلا بإذن خاص
ورغم أن الهيئة قالت بعد انتشار هذه اللائحة وتعرضها للانتقاد، إنها ليست نهائية ومجرد مسودة، لكن يجري واقعياً التعامل بها من خلال اعتقال عدد من صنّاع المحتوى الذي وصف بـ"الهابط". وبعدما أحيل هؤلاء على القضاء، صدرت بحق بعضهم أحكام قضائية بالسجن بين 6 أشهر وسنتين. كما حُظر بثّ برامج تلفزيونية مختلفة كان آخرها قناة "ون نيوز"، بينما تعرّض مقر قناة "يو تيفي" وسط بغداد لهجوم بقنبلة يدوية، إثر نشر القناة حلقة تلفزيونية تعارض انتقائية السلطات في تطبيق القرارات.
وينتقد ناشطون هذه "الانتقائية" في تطبيق القوانين، بين صنّاع محتوى غالبيتهم قليلو التعلم وصغار سن وصحافيون ومقدمو برامج، وبين آخرين من الشخصيات القريبة من الفصائل المسلحة والمليشيات، من صحافيين وكتّاب وإعلاميين يتحدثون يومياً عبر لقاءات متلفزة وعبر "تويتر"، بشأن أحداث سياسية ويمارسون الشتم والطائفية والهجوم على مكونات كبيرة في العراق، ناهيك بتعليقات تؤيد جماعات مصنفة إرهابية والهجمات الصاروخية على دول في الخليج العربي.
وتعليقاً على بنود المسودة، قال الناشط المدني من بغداد، عاصم الجنابي، إن "حكومة محمد شياع السوداني كانت قد وعدت خلال فترة طرح برنامجها السياسي والحكومي، بأنها ستحترم حرية الرأي والتعبير، لكنها مارست الانتقائية في التعامل مع أصحاب المحتوى السطحي بشكلٍ يحمل تشفياً كبيراً، في حين تركت ناشطين محسوبين على الإطار التنسيقي (الأحزاب والفصائل المسلحة القريبة من طهران) يمارسون نشاطاتهم الإعلامية بالاعتداء والتجاوز على شرائح كبيرة داخل المجتمع العراقي".
وأضاف الجنابي أن "الاعتقالات والأحكام السريعة بالسجن على بعض الشخصيات المعروفة على مواقع التواصل الاجتماعي، استثنت الشخصيات المعروفة التي تتحدث يومياً عبر شاشات التلفاز وتويتر، عن مباركتها لقصف دول خليجية ودعمها لجهات مسلحة خارجية مثل الحوثيين وحزب الله اللبناني وغيرها".
واعتبر الجنابي أن "حكومة السوداني قرّبت بعض هؤلاء من مكاتب حكومية مهمة، في حين نالت بشكلٍ مبالغ به من بعض الناشطين على المواقع من الشباب والشابات، فيما هناك تخوف كبير من استهداف النشطاء المدنيين بحجة الإساءة للدولة".
ينتقد ناشطون الانتقائية في تطبيق القوانين، بين صنّاع محتوى وشخصيات قريبة من الفصائل المسلحة والمليشيات
ضرب إضافي لمؤشر الديمقراطية بالعراق
من جهته، بيَّن رئيس حراك "البيت العراقي" محي الأنصاري، أن "مؤشر الديمقراطية في العالم يعتمد على مقياس قوة الحريات المدنية في المرتبة الأولى، وهذا ما تخالفه منظومة الحكم في العراق والتي شوهت كل مبادئ الحكم الرشيد، وحوّلت البلد إلى مساحة تعاني من العديد من الأزمات المرتبطة كلياً بالعملية السياسية المضطربة التي تحكم العراق منذ عام 2003".
وأكد الأنصاري في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الانتقائية بتطبيق القوانين والإجراءات والقرارات، لطالما كانت الرفيق الدائم للنظام الحالي الذي يحارب كل من يمارس حرياته المدنية ويغض النظر عن أصحاب السلاح وخطاب الكراهية".
أما رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي، النائب محمد عنوز، فقد اعتبر أن "اللائحة التي صدرت أخيراً، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، فهي تعكس وجهة النظر الحكومية والحاكمة في العراق، وأنها غير مُنصفة وتحتاج إلى تعديل ينسجم مع حرية التعبير التي كفلها الدستور العراقي".
اللائحة لم تخرق القانون، لكنّ هناك جدلاً بشأن بعض البنود القاسية فيها، بحسب متابعين
ورأى عنوز في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "السلطات عليها أن تُسكت وتعتقل من يروّجون للطائفية والكراهية ويعتدون على المكونات العراقية المهمة، وتمنع سبّ وشتم رموز دينية مهمة لدى شرائح معينة، وكذلك الذين يسبون العراقيين والوطنيين والمدنيين ويشتمون شرف العراقيات بحجة الدفاع عن فكرة سياسية أو دينية معينة".
وأردف عنوز أن "معظم البنود الواردة في اللائحة المسرّبة من هيئة الإعلام والاتصالات هي نسخة من قانون الجرائم المعلوماتية، الذي واجه رفضاً كبيراً من الحراكات المدنية". وأكد أن "هناك حاجة ملحّة لتصحيح هذه المسارات القانونية وخلق قوانين جديدة تنسجم مع الحريات الشخصية وحق التعبير عن الرأي، وحذف فقرات وعبارات من قوانين سابقة كانت تستخدم لأغراض القمع".
بدوره، لفت الخبير القانوني علي التميمي، إلى أن "اللائحة التي صدرت عن تنظيم المحتوى الرقمي، الذي يهدف إلى تحجيم ما يُعرف بالمحتوى الهابط، تستند إلى القانون العراقي النافذ منذ ستينيات القرن الماضي، إضافة إلى قانون هيئة الإعلام والاتصالات الصادر عام 2004، بالتالي فهي لم تخرق القانون، لكنّ هناك جدلاً بشأن بعض البنود القاسية فيها".
وأوضح التميمي في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هيئة الإعلام والاتصالات جمعت في هذه اللائحة مجموعة من العقوبات والقوانين، كبديل مؤقت عن قانون الجرائم الإلكترونية والمعلوماتية".
وأشار التميمي إلى أن "الانتقادات التي وُجّهت إلى هذه اللائحة، باعتبارها قاسية وتتبع لنظام البعث الذي حكم البلاد لعقود ماضية، إضافة إلى كون بعض العبارات الواردة فيها قابلة لتفسيرات كثيرة، فضلاً عن الانتقائية في التطبيق، هي (الانتقادات) حق مشروع للناشطين والمدونين، لكن القانون في الوقت ذاته يحتوي على بعض البنود الهامة، مثل تنظيم وحماية حقوق الملكية الفكرية وحماية المجتمع من المستوى الهابط وحماية الطفولة والمرأة وفئات المجتمع الأخرى".