أراد العدوان الأخير على قطاع غزة تحقيق أهداف عديدة. ربما كان الهدف الذي لا تعترف به حكومة يئير لبيد استثمارها في ورقة الدم الفلسطيني لأغراض انتخابية، كما تعتقد أنها نجحت في ترميم آثار معركة سيف القدس في العام الفائت، وفي خلق تناقض بين حركتي حماس والجهاد أيضاً، بعد أن قدمت جملة من التسهيلات لسكان القطاع، لا ترغب حركة حماس في تبديدها وإعادة القطاع إلى الحصار المشدد.
حضرت إسرائيل جيداً للعدوان، واستندت إلى ذريعة واهية بعد اعتقالها القيادي الجهادي الشيخ بسام السعدي في جنين. المعلومات تشير إلى أن حركة الجهاد أوصلت رسائل إلى الوسطاء أنها ستمتنع عن القيام بعمل عسكري ضد إسرائيل، كما تجاوبت حتى آخر لحظة قبيل العدوان مع الوسطاء، لكن ذلك لم يثن إسرائيل عن عزمها. أثارت ملابسات العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع جملة من التساؤلات حول مصداقية ووحدة خطاب المقاومة وغرفة العمليات، إذ ذهب بعض أصحاب المواقف المسبقة والشامتة إلى حد اتهام حركة حماس بصدقية التزامها ببرنامج ونهج المقاومة، وبعضهم اتهمها باستغلال العدوان بغرض السيطرة على حركة الجهاد واحتوائها.
ثمة فهم قاصر للتطورات والأحداث، لا يرى أو ربما لا يريد أن يرى الأمور على حقيقتها، لذلك وجبت العودة إلى بعض المعطيات التي تنصف الحقيقة وتجيب عن الأسئلة المتشككة، في ضوء الوقائع الصعبة التي تتسم بها الأوضاع والعلاقات الفلسطينية في سياق الصراع المستمر مع الاحتلال. خضع القطاع إلى حصار مشدد، وتعرض لأربعة اعتداءات مكلفة وجولتين قصيرتين، وتدهورت أحوال السكان المعيشية، وكان الهدف الإسرائيلي الثابت تقليم أظفار المقاومة، وتحجيم قدراتها العسكرية، وتحييد قطاع غزة عما يجري في ساحات الوطن. بالتزامن، خضعت الضفة الغربية، والقدس خصوصا، إلى عدوان لا يتوقف على الأرض والعرض والبيت والزرع والضرع، وعلى الكرامة، حتى بات عدوانها يمس مباشرة المصالح الفردية، فضلا عن المصالح الوطنية الفلسطينية الجمعية. بأيديهم وانطلاقا من حساباتهم الفئوية والتنظيمية، صنع الفلسطينيون واقعهم تحت رقابة وتدخل الاحتلال، الذي عمل على تأبيد الانقسام والشرذمة وإضعاف الطرفين المنقسمين، حتى بات من الصعب جداً تجاوز هذا الانقسام، الذي اتخذ مع مرور الوقت عمقاً مؤسساتياً.
مقابل برنامج منظمة التحرير الذي يقوم على تحقيق المشروع الوطني عبر المفاوضات والتسوية، بلورت حركة حماس خطاباً يقوم على رفض التسوية وأولوية المقاومة المسلحة، وراكمت المزيد من القدرات العسكرية والأمنية. ثمة قوى أخرى انضمت إلى رؤية "حماس"، من بينها فصائل أساسية في منظمة التحرير، بالإضافة إلى "الجهاد الإسلامي". في حين ظلت المنظمة وحركة فتح ملتزمتين بالرؤية ذاتها، تمكن ملاحظة التطور الذي يشهده خطاب "حماس" في اتجاه التوطين "بمعنى تبني برنامج وطني". تتضح معالم هذا التطور من خلال استعداد "حماس" للانضمام إلى المنظمة، وقبولها برنامج الدولة والعودة وتحقيق المصير والاستعداد لبناء شراكات وطنية. من يتابع عن كثب وبعقل موضوعي خطاب حماس بعيداً عن الأحكام المسبقة والظنية، بإمكانه ملاحظة أن "حماس" اليوم ليست كبدايتها وليست كما كانت في المرحلة الأولى من الانقسام.
فصائل المقاومة متمسكة حتى العظم بأهدافها التحررية وتعلم ثمنها
أسباب ودوافع هذا التطور
أولاً: الضربات الشديدة التي تلقتها جماعة الأخوان المسلمين في المنطقة والعالم، ما يؤشر إلى فشل أو صعوبة تحقيق مشروعها الإسلامي.
ثانياً: فشلت حركة حماس، رغم محاولاتها وعظم التضحيات التي قدمتها، في اكتساب الشرعية، أي شرعية، إن كانت شعبية بسبب غياب الانتخابات، أو ثورية بسبب الانقسام، أو رسمية من قبل النظام العربي وحتى الإسلامي.
ثالثاً: أحكام الجغرافية السياسية القاسية على قطاع غزة، وعدم قدرة "حماس" على تجاهل دور مصر كونها المنفذ الوحيد المتبقي في ضوء تحكم إسرائيل في المنافذ التي تربط بين غزة والضفة والعالم الخارجي.
يمكن القول؛ أدركت "حماس" أهمية وأولوية التنافس على مكانتها ودورها، من خلال المؤسسة الوطنية الفلسطينية، وعبر ميدان الصراع الشامل مع الاحتلال، خاصة في ضوء رحيل جيل المؤسسين الأوائل.
أوجه الشبه والاختلاف بين حماس والجهاد
منذ البداية، قدمت الجهاد نفسها على أنها حركة إسلامية وطنية، تتبنى برنامجاً سياسياً تحررياً جذرياً، وذا بنية كفاحية، ولا تربطها أية علاقات تنظيمية أو إدارية أو مالية مع أي حركة إسلامية أخرى، وذلك بخلاف حركة حماس التي تأسست باعتبارها الفرع الفلسطيني من جماعة الأخوان المسلمين. في حين تعرف حركة حماس ببراغماتيتها، لا تبدي الجهاد أي مرونة إزاء أهدافها الاستراتيجية وأشكال الصراع مع الاحتلال، أما التزامها العقائدي فهو داخلي، في حين التزام حماس داخلي وشعبي. منذ قيام السلطة عام 1994، رفضت الجهاد المشاركة فيها، أو في الانتخابات التشريعية. الأمر مختلف بالنسبة إلى حماس، التي خاضت الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، وحين لم تتمكن من إدارة السلطة، أنشأت سلطتها في القطاع. الطرفان يتبنيان مشروع المقاومة المسلحة، وكلاهما جزء من محور المقاومة الإقليمي، لكن في حين تعتبر حركة الجهاد تابعة لإيران، فإن حماس تؤكد أنها تتمسك باستقلاليتها ودورها الخاص وحساباتها. هذه الوضعية جعلت التوافق بين الحركتين يتغلب على أية خلافات ثانوية خاصة، كما لا تقدم الجهاد نفسها منافساً على شرعية الإسلام السياسي.
العدوان الأخير على غزة الذي استهدف "الجهاد" من قبل الجيش الإسرائيلي، وامتنعت "حماس" خلاله عن الانخراط في المواجهة للمرة الثانية؛ حيث وقعت جولة أولى بين "الجهاد" والجيش الإسرائيلي عام 2019؛ هذه الوقائع أظهرت طبيعة الاختلاف الذي تفرضه طبيعة المسؤولية، واختلاف الحسابات الوطنية والخارجية. تتغنى إسرائيل بإنجاز حققته خلال العدوان يتمثل في تحييد حركة حماس، ربما يعتقد الإسرائيليون أنهم دقوا إسفيناً عميقاً بين الحركتين، لكن تخطئ إسرائيل إن بنت سياساتها على أساس ذلك. في الواقع، فإن سكان القطاع راضون عن أداء الجهاد خلال التصدي للعدوان، وليسوا غاضبين من "حماس"، بل ربما تتفهم الأغلبية الدوافع التي تقف خلف سلوك الحركة.
بالتأكيد ثمة غصة في حلق الجهاد، بسبب امتناع "حماس" عن الانخراط في الرد على عدوان مبيت ومخطط، بادرت إليه إسرائيل، لكنها ظلت في خطابها تصر على وحدة المقاومة، ووحدة الساحات، وتجنبت انتقاد الآخرين.
أسباب قرار "حماس"
أولاً: إن الحاضنة الشعبية مرهقة بعد الاعتداءات المتلاحقة في مايو/أيار من العام المنصرم، التي بادرت إلى مواجهتها المقاومة مجتمعة بهدف الرد على جرائم الاحتلال في القدس. أما أسباب العدوان الأخير، الذي سبقه تهديدات واستنفار من قبل سرايا القدس؛ فكان سببه الانتصار للقائد الجهادي بسام السعدي والأسير خليل العواودة، ما يعني أن الأسباب تنظيمية خاصة بـ"الجهاد" وليست وطنية، وهذا ما أشار إليه بعض الكتاب المحسوبين على حماس.
ثانياً: كان معلوماً وفق الإعلانات الإسرائيلية أن الجولة قصيرة وتستهدف الجهاد، ولذلك استعدت إسرائيل في اليوم الثالث، بعد نجاحها خلال اليومين الأولين؛ لوقف إطلاق النار، وطلبت من مصر وقطر والأمم المتحدة التحرك من أجله.
ثالثا: "حماس" مسؤولة عن قطاع غزة وعن حياة السكان الذين رحبوا بالتسهيلات التي قدمتها إسرائيل، بما في ذلك السماح لأربعة عشر ألف غزي بالعمل في إسرائيل، تتحدث إسرائيل عن إمكانية زيادتهم إلى عشرين ألفاً.
يقول أحد المراقبين المهتمين إن نسبة الأموال التي تصل إلى القطاع من العمالة في إسرائيل تساوي ما نسبته 15% من مجموع ما يدخل إلى القطاع، ويقدر بمئة وعشرين مليون دولار شهرياً.
كان انخراط "حماس" في المواجهة سيعرضها لغضب شعبي، ويؤدي إلى تدمير كبير، خاصة أن "حماس" تحظى ببنك أهداف واسع بالنسبة لإسرائيل.
رابعاً: لا هذه الجولة ولا الاعتداءات التي سبقتها تمثل المعركة الحاسمة، فالصراع مستمر وسيشهد المزيد من الجولات. ثمة اتجاه شعبي واسع داخل قطاع غزة، بما في ذلك النخب، يتساءل ما إذا كان على سكان القطاع، أو في مقدورهم، أن يتحملوا العبء الأكبر من ثمن مواجهة عدوان إسرائيلي مستمر في سياق الصراع المديد.
خامساً: من موقعها المسؤول عن القطاع ودورها العربي والإقليمي، لا تحتمل "حماس" الضغوط التي كانت ستتعرض لها من قبل المحيط العربي والإقليمي.
ستكتشف النخب السياسية والأمنية في إسرائيل أنها لن تنجح في فرض معادلة الأمن والهدوء عبر التسهيلات الحياتية، كذلك فإن عدوانها ومخططاتها المستمرة من دون توقف في الضفة والقدس قد استنفرت الشعب الفلسطيني إلى ساحة المواجهة، من دون أوامر وحسابات فصائلية وغير فصائلية.
لقد اعتمدت إسرائيل هذه المعادلة في الضفة منذ وقت، وهي اليوم تدرك مدى فشل هذه السياسة في ضوء إنكارها حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، واستمرارها في ممارسة سياسة تجريف كل تلك الحقوق. وسيتضح بعد حين أنها ستفشل في فرض هذه المعادلة، أو معادلة الفصل بين غزة والضفة والقدس، لأن فصائل المقاومة متمسكة حتى العظم بأهدافها التحررية، وهي تعرف الثمن الذي تستحقه هذه الأهداف.