يقف حزب "العدالة والتنمية" المغربي على أعتاب مراجعات عميقة تتناول بالأساس وثائقه المرجعية، بما فيها الأطروحة السياسية، في ما يبدو أنه محاولة أخرى من أجل إعادة بناء الحزب وآلته التنظيمية، بعد تلقّي أسوأ هزيمة مُني بها حزب يقود الحكومة في انتخابات سبتمبر/ أيلول 2021، وهي خسارة ألقت بظلالها على البيت الداخلي للإسلاميين وعلى مستقبلهم وموقعهم في المشهد السياسي.
وبعد مرور عقد في السلطة وأكثر من عام على الهزيمة يبحث الحزب ذو الخلفية الإسلامية في الفترة الحالية عن طريق لبعث الروح في مكوناته وهياكله ومقاومة انحساره، بعدما فقد الكثير من تجانسه وشعبيته. وأعلنت لجنة الشؤون السياسية والسياسات العمومية ولجنة الأنظمة والمساطر التابعتين للمجلس الوطني (برلمان الحزب)، خلال اجتماعهما في 19 مارس/ آذار الحالي، عن انطلاق ورش مراجعة الوثائق المرجعية تحت إشراف الأمانة العامة.
مراجعة الوثائق في حزب "العدالة والتنمية"
ويسعى الحزب إلى مراجعة وثائقه المرجعية من خلال ورقتين؛ الأولى تتعلق بمنهجية مراجعة الوثائق المذهبية (الرئيسية) للحزب، وأساساً البرنامج العام والأطروحة السياسية. والورقة الثانية مرتبطة بمراجعة الوثائق القانونية للعمل الداخلي، أي النظام الأساسي والنظام الداخلي.
وتأتي المراجعات تنفيذاً لتوصية أقرّها المجلس الوطني في اجتماعه العادي الأول في فبراير/ شباط 2022، بعد محطة المؤتمر الوطني الاستثنائي (30 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) الذي أعاد عبد الإله بنكيران إلى قيادة الحزب، في حين عرفت الدورة الأخيرة لبرلمان الحزب (14 و15 يناير/ كانون الثاني الماضي) تجديد اعتماد هذا الإجراء ضمن 17 إجراء تمت المصادقة عليها ضمن البرنامج السنوي للحزب لعام 2023.
ولم تحسم قيادة الحزب مصير الوثائق بقدر ما اتفقت على منهجية حسمها ومنح مهلة للأعضاء والقيادة، للمساهمة في تعزيزها بمقترحات، وتوسيع الاستشارة مع كل من يمكن أن يساهم في إغناء هذه الوثائق، من خارج أعضاء لجنة الشؤون السياسية والسياسات العمومية ولجنة الأنظمة والمساطر بالمجلس الوطني.
ولئن كان الحزب قد اختبر خلال عشر سنوات من موقع المسؤولية كقائد للائتلاف الحكومي، خيار "الإصلاح في ظل الاستقرار" الذي يترجم أطروحة الحزب حول "البناء الديمقراطي"، بدلاً من "النضال الديمقراطي" في زمن الاصطفاف في المعارضة، فإن أسئلة عدة تطرح حول توقيت فتح ورش مراجعة الوثائق المرجعية وإلى أي مدى يمكن أن يذهب الحزب في مراجعته، خاصة فيما يتعلق بأطروحته السياسية.
نبيل الأندلوسي: تموضع الحزب في المعارضة يفرض عليه تطوير أطروحته السياسية
بالنسبة لعضو المجلس الوطني لـ"العدالة والتنمية"، نبيل الأندلوسي، فإن لخطوة المراجعة دواعي بخلفيات عدة، فبالإضافة إلى عمل الحزب على ملاءمة وثائقه مع المستجدات القانونية المؤطرة للعمل الحزبي والسياسي، فإنه يحتاج بعد ربع قرن من الممارسة السياسية من مختلف المواقع، سواء في المعارضة أو الحكومة، إلى قراءة في مساره واستخلاص الدروس من تجربته وتدارك الأخطاء وتطوير وسائل العمل.
وأضاف الأندلوسي، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن تموضع الحزب في المعارضة يفرض عليه تطوير أطروحته السياسية تفاعلاً مع مستجدات الواقع السياسي والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية دولياً وإقليمياً ووطنياً، خصوصاً أن ما حصل في العقد الأخير من أحداث كبرى كان له تأثير مباشر وغير مباشر على الحياة السياسية في البلاد.
وأوضح الأندلوسي أن الثورات العربية والحراكات التي عرفها عدد من دول المنطقة والثورات المضادة، والآن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ومستجدات الواقع الدولي وقضية الصحراء والتوتر مع الإخوة الجزائريين، والتطبيع، والوضع الاقتصادي داخلياً، كلها قضايا طارئة تستوجب بناء تصور واضح بالنسبة للحزب، حتى يستطيع أن يواكب المستجدات ويبلور مواقف واضحة بشأنها، ويساهم من موقعه في بناء تصوّر وطني جامع بعمق شعبي يستحضر المصالح العليا للوطن.
وأضاف عضو المجلس الوطني لـ"العدالة والتنمية" أن "الحياة السياسية المغربية تعيش فراغاً قاتلاً على مستوى عمل ومردودية العمل الحزبي، وأعتقد أن على حزب العدالة والتنمية محاولة أن يكون استثناءً من خلال هذه المبادرة وغيرها، لأن التطوير الداخلي يحتاج إلى نقد ذاتي ومراجعات دائمة ومتواصلة".
من جانبه، عزا الباحث في العلوم السياسية حفيظ الزهري، في حديث مع "العربي الجديد" فتح ورش مراجعة الوثائق المرجعية لـ"العدالة والتنمية"، بالأساس إلى الوضعية التنظيمية التي أصبح عليها بعد انتخابات 8 سبتمبر 2021، والتي نقلته من كرسي الحكم إلى صفوف المعارضة، حيث وجد حزب بنكيران نفسه على مسافة كبيرة مع المواطن الذي حمّل الحزب مسؤولية الوضعية الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها.
واعتبر الزهري أن "العدالة والتنمية" يحتاج لنفس ورؤية جديدين للعودة إلى المشهد السياسي المغربي، وهو ما جعل قيادة الحزب تدعو إلى مراجعة كبيرة لوثائق الحزب والعمل على ملاءمتها مع الوضعية الجديدة للحزب، وكذلك الوضعية السياسية الوطنية والدولية.
حفيظ الزهري: أستبعد حصول تغيير جذري على صعيد الأيديولوجيا
لا تغيير جذرياً في الأيديولوجيا
لكن الزهري استبعد أن "يكون هناك تغيير جذري في وثائق الحزب، تحديداً من جهة المرجعية الأيديولوجية، إذ سيبقى الإسلام منبع ومؤطر الفكر السياسي لحزب العدالة والتنمية إن لم نقل قد يعود الحزب لمزيد من الانغلاق ومحاولة الوصاية على الدين، وهو ما اتضح في الرسائل المبطنة لقيادة الحزب حول مدونة الأسرة التي طالب الملك بإصلاحها".
وبالنسبة لرئيس مركز "شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية" رشيد لزرق، فإن الهزة التي عرفها الحزب خلال الانتخابات الأخيرة تطرح ضرورة التجديد على الأداة الحزبية بعدما مرّ المشهد السياسي مع قوى التدين السياسي بمرحلة ولّدت خلطاً وارتباكاً في الحياة السياسية.
ولفت إلى أن ضمان الاستمرار والتجدد يمران عبر تحقيق الوضوح والوعي بخطورة المرحلة والتفكير في مصلحة الوطن قبل المواقع الحزبية والسياسية.
وقال لزرق في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن الحزب مدعو لإحداث تغيير مقارنة مع المرحلة السابقة، التي تميزت بلعبه على الخلط بين الدعوي والسياسي، ما ولّد جنوحاً نحو الهيمنة عبر نهج خطاب غايته السيطرة والاستلاب.
وأضاف: "الحزب مدعو للإجابة عن سؤال محوري يفرضه السياق السياسي بعيداً عن منطق الضبابية، وتكريساً لقيم الوضوح السياسي الذي يفرض عليه التمييز بين العمل السياسي والعمل الدعوي. ما يقع اليوم يُظهر بالملموس أن ادّعاء التمايز لا يخرج عن كونه تكتيكا سياسيا فرضته المرحلة، تحت مبرر براغماتي صرف، غايته إسقاط تهمة السعي للتمكين، وأملاه منطق الاندماج المؤسساتي والانحناء لضغوط يفرضها السياق الإقليمي".
وتابع لزرق أن "السؤال الجوهري المطروح حالياً هو: هل العدالة والتنمية حزب سياسي مدني أم أداة وظيفية لحركة التوحيد والإصلاح الدعوية؟"، معتبراً أن الجمع بين الدعوي والسياسي لا يستقيم، لكون الأول يقوم على أساس هداية الأشخاص، عن طريق كسبهم، في حين تكون غاية السياسي هي المغالبة، والجمع بين الكسب والمغالبة يولد اللبس.