في الوقت الذي اعتقدت فيه قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أن مفاوضات التسوية مع إسرائيل قد تؤدي لانسحاب قوات الاحتلال والمستوطنين من مناطق الضفة الغربية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، كانت حكومات إسرائيل تسابق الزمن مستغلة المفاوضات لخلق واقع جغرافي سكاني معقد في الضفة يمنع إقامة دولة فلسطينية، بدءاً من حكومة إسحق رابين التي وقعت اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير في عام 1993 حين كان عدد المستوطنين اليهود في الضفة قرابة المائة ألف مستوطن، وحتى آخر حكومة بزعامة المستوطن نفتالي بينت، الذي يعتبر من أشد معارضي اتفاقية أوسلو رغم ما عليها من ملاحظات، ووصل عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية إلى أكثر من ثلاثة أرباع المليون.
بدأ تنفيذ المشروع الصهيوني بتفكيك الضفة الغربية جغرافياً وسكانياً واقتصادياً بعد نهاية حرب عام 1967 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، بطرح ما سمي خطة إيغال آلون والتي تسعى للسيطرة الإسرائيلية على الحد الأقصى من الجغرافيا الفلسطينية بالضفة مقابل تخلي إسرائيل عن عبء إدارة الحد الأقصى من المواطنين الفلسطينيين، عبر إقامة حدود آمنة لإسرائيل مع الأردن، على أن تشمل تلك المنطقة الآمنة جميع المناطق الممتدة من نهر الأردن شرقاً وحتى المنحدرات الشرقية لجبال الضفة الغربية، بدءاً من جبال الخليل جنوبي الضفة الغربية حتى نابلس وجنين بالشمال، وتشمل خطة آلون ضم مدينة القدس إلى إسرائيل، وضم مجمع عصيون الاستيطاني الواقع بين محافظتي الخليل وبيت لحم، لضمان حشر الكتلة السكانية الفلسطينية في شريط طولي ضيق محاصر من الشرق والغرب بكتل استيطانية وعسكرية، فيما يتم فصله بمجمع عصيون والقدس، والذي سيمنع التمدد والتواصل الطبيعي السكاني بين محافظات الضفة.
من أجل تنفيذ مشروع آلون، أصدرت سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي مئات القرارات والأوامر العسكرية لمنع البناء والزراعة والاستثمار في تل المناطق التي يشملها مخطط آلون، وبررت سلطات الاحتلال تلك القرارات والسياسات في حينه بمبررات واهية، سواء بالادعاء أنها محميات طبيعة أو مناطق أثرية أو لدوافع أمنية لتمكين الاحتلال من قمع أي انتفاضة فلسطينية، مع أن الهدف كان سياسياً بامتياز والمتمثل بتفكيك المجتمع الفلسطيني وتحويله إلى جماعات منفصلة معزولة غير قادرة على التعبير عن ذاتها قومياً ودولاتياً مستقبلاً.
بموازاة ذلك بدأت جماعة غوش ايمونيم الاستيطانية ببناء أولى المستوطنات في الخليل في عام 1968، مستغلة أزمة التناقضات والمحاور داخل حزب العمل الحاكم بين شمعون بيرس وإسحق رابين، ودعم بيرس المستوطنين في البناء الاستيطاني في الخليل رغم تحفظ رابين خشية من أن يعيق أي تسوية سياسية مستقبلاً، وألا تصبح الضفة عبئاً سياسياً أمنياً اقتصادياً ديمغرافياً على إسرائيل.
شكلت الانتخابات الإسرائيلية بعام 1977 وصعود اليمين الأيديولوجي للحكم بزعامة مناحيم بيغن، محطة مهمة في المشروع الاستيطاني بالضفة، وتصاعدت عمليات سرقة واغتصاب الأراضي وبناء المستوطنات، واستغل أرئيل شارون موقعه كوزير للجيش في بداية الثمانينيات لإقامة عشرات المعسكرات الجديدة التي تم تحويلها لمستوطنات، وشجع شارون المستوطنين على سرقة الأراضي بالقوة، وقدم لهم الدعم المادي والأمني، إلى أن قام شارون في بداية التسعينيات حين كان وزيراً للإسكان بالإعلان عن مشروعه الذي تمت تسميته بمشروع النجوم السبعة، وأثناء الإعلان عن المخطط قال شارون حرفياً إنه بغض النظر عن أية تسوية مع الفلسطينيين مستقبلاً، سأجعل الخطة أمراً واقعاً لا رجعة عنه، وسأربط مستوطنات الضفة مع إسرائيل برباط متين لا يمكن إضعافه.
تضمنت خطة النجوم السبعة لشارون إقامة 6 مستوطنات على الجهة الغربية للضفة لطمس حدود عام 1967، وربط كل مستوطنات الضفة حتى الصغيرة منها مع إسرائيل، انسجاماً مع نظرية الربط والتفكيك التي تبنتها إسرائيل، بربط كل التجمعات الاستيطانية في فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر مع بعضها البعض، وتفكيك كل التجمعات الفلسطينية عن بعضها وتحويلها إلى كانتونات ومعازل متناثرة في بحر كبير من السيطرة الإسرائيلية، وشملت خطة النجوم السبعة إبقاء وتوسيع التجمع الاستيطاني اليهودي في مدينة الخليل، والذي تبنته رسمياً حكومة بنيامين نتنياهو برفضها الحديث عن إخلاء مستوطني الخليل في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، التي جرت برعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بفترة الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
لعبت اتفاقية أوسلو دوراً مهماً في تجميع وحشر الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية في معازل وكانتونات مغلقة غير مسموح لها بالتوسع، ليس فقط بسبب الشوارع الالتفافية، والمستوطنات والمعسكرات، إنما بسبب تقسيمات أراضي الضفة لمناطق ألف وباء وجيم، حيث شكل قبول منظمة التحرير لتلك التقسيمات، وخاصة منطقة جيم التي تصل مساحتها إلى 62% من الضفة، وذات الصلاحيات والسلطات الأمنية والمدنية وأمور التنظيم والبناء الخاضعة تحت سلطة الحكم العسكري الإسرائيلي. إذاً وقعت قيادة منظمة التحرير في الفخ وألزمت نفسها باتفاقية تمنع عليها البناء والعمل في تلك المناطق، واستغلته حكومات إسرائيل لبناء وتوسيع مستوطناتها، مما أدى إلى إحاطة وتطويق التجمعات الفلسطينية بالمستوطنات الإسرائيلية وتحويل التجمعات الفلسطينية إلى جزر مفككة متناثرة اجتماعياً وجغرافياً واقتصادياً، حيث تتحكم إسرائيل بالحركة والتنقل بين التجمعات الفلسطينية، والأخطر حين نصبت بوابات حديدية على مداخل كل مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية تغلقها متى تشاء، لتتحول إلى أقفاص وسجون كبيرة.
استغلت حكومات أرئيل شارون وبنيامين نتنياهو التحول السلبي في المواقف الأميركية اتجاه القضية الفلسطينية، واستفاد رئيس الحكومة الإسرائيلية أرئيل شارون من اعتراف الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بالكتل الاستيطانية وبقائها في أي تسوية سياسية، ووظف شارون ذلك لتوسيع المستوطنات وتسمينها وزيادة عدد الكتل الاستيطانية والتي أصبح عددها أكثر من 7 كتل موزعة على كل أنحاء الضفة الغربية، تضم بداخلها أكثر من 750 ألف مستوطن يحيطون بالتجمعات الفلسطينية من كل الجهات، كما استفادت حكومة بنيامين نتنياهو من اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمستوطنات، مما دفع حكومة نتنياهو لإقرار مئات المشاريع الاستيطانية الجديدة لخلق الواقع الذي تحدث عنه أرئيل شارون بتفكيك التجمع الفلسطيني جغرافياً وسكانياً وربط كل التجمعات اليهودية من البحر إلى النهر لمنع إقامة أي كيان فلسطيني مهما كان.
وفي نفس السياق، خصصت حكومات إسرائيل منذ عام 2015 مليار دولار سنوياً لشراء أراضٍ وعقارات فلسطينية وازداد عدد الجمعيات الاستيطانية العاملة في الضفة، بالمقابل ازدادت التقييدات على البناء والعمل الفلسطيني، حيث بات الفلسطيني موجوداً في سجون كبيره تحت التحكم الإسرائيلي، وأقرت حكومة نتنياهو نهاية عام 2019 إقامة وتوسيع شبكة طرق وأنفاق جديدة في كل أنحاء الضفة بقيمة تزيد على 300 مليون دولار، لإحكام تفتيت التجمعات الفلسطينية وجعل التنقل من بين المعازل الكانتونات الفلسطينية وإسرائيل أسهل بكثير من التنقل بين المعازل الفلسطينية، وكان التطوّر الأهم في هذا الجانب قيام الصندوق القومي اليهودي الكيرن كييمت بتخصيص 1.2 مليار دولار لشراء أراضٍ بالضفة الغربية بعد توقف استمر لعدة سنوات، حيث انحصر موضوع الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية بالفترة الماضية بيد الحكومة ومؤسساتها فقط، ونجحت في خلق واقع يمنع إقامة أي كيان فلسطيني وهذا ما تم التأكيد عليه من قبل وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي يائير لبيد أمام مجموعة من وزراء الخارجية الأوروبيين حين أخبرهم أن الحديث عن حل الدولتين لم يعد مجدياً ولا قيمة له، كما أن منع إسرائيل إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة في القدس، في الوقت الذي تسمح فيه إسرائيل بإجراء الانتخابات البلدية والمحلية، وتعترف بنتائجها بغض النظر عن توجهات وماضٍ وانتماء الجهة الفائزة، وتقديم التسهيلات لها يكشف حقيقة المشروع السياسي الإسرائيلي للضفة، في المقابل لا توجد استراتيجية فلسطينية وطنية شاملة لمواجهة المخطط الإسرائيلي، مما سهل نجاح المشروع الإسرائيلي ولو على المدى القريب، حيث الكثير من الشواهد التي تؤكد ذهاب الضفة نحو حل الكانتونات وتفكيك المبنى الاجتماعي والسياسي والجغرافي والاقتصادي للضفة الغربية.