الصين والقرن الأفريقي... مطامع جيوسياسية واقتصادية

08 يناير 2022
أنشأت الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي في 2017 (Getty)
+ الخط -

بعد عقود من التركيز على التعاون الاقتصادي مع أفريقيا بما يخدم المصالح الصينية، يبدو أن بكين قد اختارت الانخراط سياسياً على نحو أكبر في أزمات القارة السمراء، خصوصاً في منطقة القرن الأفريقي، التي عادت للاشتعال بالأزمات العسكرية والسياسية.

وشكل إعلان وزير الخارجية الصيني وانغ يي، خلال مؤتمر صحافي، الخميس الماضي، في مدينة مومباسا الكينية، ضمن جولة أفريقية شملت ثلاث دول في شرق القارة، عن اعتزام بلاده تعيين مبعوث خاص للقرن الأفريقي، من دون الإعلان عن اسمه، لدعم السلام والاستقرار في المنطقة، إشهاراً رسمياً للدور الصيني السياسي.

وتثير هذه الخطوة التي تترافق مع تراجع الدور الأميركي في المنطقة ومحدودية تأثيره، انقساماً في الآراء بشأن أسبابها وتوقيتها.

ويرى مراقبون أنها تعكس مدى اهتمام بكين بإعادة الاستقرار إلى المنطقة التي تشهد توترات أمنية وعسكرية، وذلك من أجل ضمان مصالحها الاقتصادية الكبيرة في القارة الأفريقية. 

واعتبرها آخرون جزءاً من مسعى كبير لحشد دول المنطقة ضد العقوبات الأميركية المفروضة عليها، بما في ذلك تلك التي أقرتها واشنطن على أديس أبابا وأسمرة بسبب النزاع في إقليم تيغراي.

ورأى فريق ثالث أن القرار مثال حي على استخدام الصين وضعها كدائن، من أجل انتزاع امتيازات دبلوماسية وتجارية.

وحذر هؤلاء من أن تدفع هذه الاستراتيجية العديد من الدول الأفريقية إلى تحمل مستويات لا يمكن السيطرة عليها من الديون.

وكان المسؤول الصيني قد اختتم، أمس الجمعة، جولته الخارجية الأولى هذا العام، والتي شملت إريتريا وكينيا وجزر القمر، في مواكبة لتقليد صيني قديم يعود إلى العام 1991، حيث دأب وزراء الخارجية على أن تكون القارة السمراء الوجهة الأولى لهم في مطلع كل عام.

وقال وانغ يي، في أعقاب اجتماعه مع سكرتيرة الشؤون الخارجية الكينية رايتشل أومامو، إنه من أجل تقاسم الإجماع السياسي وتنسيق الإجراءات في المنطقة، ستسمي بكين مبعوثاً خاصاً لوزارة الخارجية.

واعتبر أنه يتعين على دول القرن الأفريقي (إثيوبيا، وإريتريا، والصومال وجيبوتي)، أن تقرر مصيرها وأن تعقد مؤتمراً للسلام، وأشار إلى أن بكين تريد المساعدة في تطوير ساحل إريتريا على البحر الأحمر، دون أن يخوض في تفاصيل ذلك.

تسان يان: تعيين مبعوث للقرن الأفريقي نتيجة لفخ الديون

ورداً على فكرة أن بلاده تنصب فخاً للدول الأفريقية، قال "إنها قصة اختلقها أولئك الذين لا يريدون رؤية تطوّر أفريقيا"، واعتبر أنه "إذا كان هناك فخّ، فهو فخّ الفقر والتخلّف".

وشدد على أن القروض المرتبطة بالمشاريع التي تتولاها الصين في القارة تمثل "منفعة متبادلة"، وذلك بعدما انتقد المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس ضمناً سياسية بكين، من خلال تنويهه بـ"الشراكات" التي تقدّمها بلاده للدول الأفريقية "على أساس الفرص المتبادلة والاحترام المتبادل" خلافاً، على حدّ قوله، للمشاريع الصينية.

وقال برايس: "نحن لا نطلب من شركائنا الاختيار بين الولايات المتّحدة ودول أخرى، بما في ذلك جمهورية الصين الشعبية. لا نريد إجبارهم على الاختيار، بل نريد أن نعطيهم خيارات".

ثاني زيارة في شهرين

وتعد هذه ثاني زيارة يقوم بها وزير الخارجية الصيني إلى القارة الأفريقية خلال أقل من شهرين.

وتأتي بعد مشاركته في رئاسة منتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك)، الذي عُقد في السنغال، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي،.

وكان وزير الخارجية الصيني قد انتقل بعدها مباشرة إلى أديس أبابا، في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لتأكيد "ثقة الصين في إثيوبيا ودعمها لحكومة رئيس الوزراء أبي أحمد"، بعد الدور الذي أدته بكين إلى جانب موسكو في تعطيل التوافق أكثر من مرة داخل مجلس الأمن على بيان للدعوة إلى وقف إطلاق النار في إقليم تيغراي. 

كما تأتي جولة وانغ يي الأفريقية في أعقاب زيارة قام بها نظيره الأميركي أنتوني بلينكن إلى أفريقيا في نوفمبر الماضي، والتي هدفت في جزء منها إلى مواجهة نفوذ الصين المتنامي في القارة.

وحول اعتزام الصين تعيين مبعوث خاص للقرن الأفريقي، قال الخبير في الشؤون الدولية بمعهد شيامن للدراسات والأبحاث لي وان تسي، لـ"العربي الجديد"، إنه لفهم قرار بكين يجب وضع الأمور في سياقها الصحيح، وقراءة المشهد السياسي جيداً في تلك المنطقة. 

ولفت وان تسي إلى أن إقليم تيغراي الإثيوبي المتاخم لإريتريا، يشهد منذ أواخر 2020 حرباً أهلية مستمرة، ما تسبب في أزمة إنسانية خطيرة، خلفت عدداً لا يحصى من القتلى، وأجبرت مئات الآلاف من السكان على النزوح.

واعتبر أن رغبة الصين في تعيين مبعوث لها تهدف إلى المساهمة في بناء السلام والوساطة في النزاعات القائمة، ومساعدة البلدان المتضررة من الحرب على حل مشاكلها الملحة، من أجل استعادة السلام والاستقرار في المنطقة. وأشار إلى أن أي قراءة أخرى خلاف ذلك لا تعي حجم ومكانة الصين، كدولة مسؤولة وعضو دائم في مجلس الأمن وشريك أساسي لدول القارة.

تقريب أسمرة من بكين

من جهته، قال الباحث الزائر في مركز تايوان للدراسات الأمنية تسان يان إن قرار الصين له علاقة مباشرة بطموحاتها الاقتصادية والجيوسياسية في المحيط الهندي والبحر الأحمر.

وأشار في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن هناك رغبة لتقريب أسمرة من دائرة نفوذ بكين، خصوصاً بعدما انضمت إريتريا أخيراً إلى مبادرة "الحزام والطريق" في نهاية العام الماضي، في خطوة قد تمنح الصين موطئ قدم مهماً في منطقة القرن الأفريقي. 

وتضم مبادرة "الحزام والطريق" 41 من أصل 55 دولة أفريقية، معظمها يقع على الساحل الشرقي المطل على المحيط الهندي، ولعل أبرزها: إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا الواقعة في منطقة القرن الأفريقي، بالإضافة إلى جميع دول شمال القارة.

واعتبر تسان يان أن القرار ليس مفاجئاً، وأنه يأتي كنتيجة حتمية لفخ الديون الذي نصبته الصين للدول الأفريقية، باعتبارها واحدة من أكبر دائني القارة.

ولفت إلى أن الكثير من الدول الأفريقية اضطرت إلى إعادة هيكلة الديون، بسبب عدم القدرة على الالتزام بموعد السداد، مثل كينيا، التي انتقد عدد من زعماء المعارضة فيها اعتماد الحكومة بشكل كبير على القروض الصينية لتمويل مشاريع البنية التحتية، وبالتالي فإن تعيين مبعوث خاص إلى المنطقة، حسب رأيه، هو محض انتزاع امتياز دبلوماسي باستخدام مصيدة الديون.

الصين تعتبر الدائن الرئيسي لثلاث دول أفريقية

يشار إلى أن الصين تعتبر الدائن الرئيسي لثلاث دول أفريقية، هي جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجيبوتي، وزامبيا، بينما تستحوذ على نسبة كبيرة من الديون الخارجية للدول الأفريقية الأخرى تصل إلى نحو 32 في المائة. 

وحسب بيانات رسمية صينية، فقد بلغت قيمة قروض بكين للقارة في العام الماضي 50.8 مليار دولار.

ويأتي ذلك في إطار منفعة متبادلة تحصل بموجبها الصين على ما تحتاجه من موارد طبيعية، في مقابل قروض لمشاريع بنية تحتية طويلة الأمد.

وكانت بكين قد أقرضت الدول الأفريقية مليارات الدولارات، كجزء من مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في 2013، بما في ذلك 5 مليارات دولار لبناء خط سكة حديد يمتد من مدينة مومباسا الكينية الساحلية إلى العاصمة نيروبي بطول 480 كيلومتراً.

كما مولت وشيدت خط سكة حديد آخر يمتد من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا إلى ميناء جيبوتي على البحر الأحمر.

وأنشأت أيضاً أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في العام 2017، حيث ساهمت هذه القاعدة، التي تضم ما بين 1500 و2000 جندي، في زيادة قوة الصين العسكرية في القارة الأفريقية، باعتبارها قوة رادعة لعمليات القرصنة التي تستهدف خطوط ومسارات تجارتها الخارجية، بالإضافة إلى الإبقاء على تأهبها العسكري لأي صدام محتمل في المنطقة.

تشيانغ: تصاعد التوترات الأمنية دفع الصين لتعيين المبعوث

هذا ترتبط الصين بعلاقات وثيقة مع دول القرن الأفريقي، التي تستحوذ على ما نسبته 25 في المائة من قيمة الاستثمارات الصينية في القارة الأفريقية.

فقد أقامت إريتريا علاقاتها الدبلوماسية مع الصين في اليوم الأول لاستقلالها في العام 1993، فيما تعززت العلاقات بين البلدين في إطار مبادرة "الحزام والطريق". 

وفي ظل التوترات الأمنية الراهنة، تعتبر القوات الإريترية طرفاً فاعلاً في الصراع بإقليم تيغراي في شمال إثيوبيا، وبالتالي كان من المهم بالنسبة للصين أن تقصد أسمرة، في إطار جولة وزير خارجيتها، لبحث سبل تهدئة الأوضاع، بما لا يهدد مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في الموانئ المطلة على البحر الأحمر، والتي تعتبر الشريان الرئيسي النافذ إلى القارة السمراء.

أما كينيا، فهي أيضاً من الدول المهمة بالنسبة للصين، سواء على مستوى مشاريع البنية التحتية في مجال محطات الطاقة وسكك الحديد، والتي وصل إجمالي كلفتها في العام الماضي إلى 8.3 مليارات دولار. 

كما أن كينيا مهمة على المستوى السياسي، باعتبارها لاعباً حيوياً في تسوية الاضطرابات في القرن الأفريقي، حيث كان لنيروبي دور إيجابي في التعامل مع اضطرابات القرن الأفريقي خلال العقود الماضية.

غير أن زيارة وانغ يي إلى كينيا هدفت إلى ضمان ألا تصبح القروض الصينية قضية سياسية بارزة قبل الانتخابات المقررة في أغسطس/ آب المقبل، حيث سيصوت الكينيون لانتخاب رئيس جديد للبلاد بالإضافة إلى برلمانيين جدد.

اهتمام بإحلال السلام في القرن الأفريقي

وحول اهتمام بكين بمنطقة القرن الأفريقي، قال المحلل في المركز الصيني للدراسات الاقتصادية بجامعة فودان تشاو تشيانغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إن لبكين مصالح واسعة في المنطقة، التي تضم أول قاعدة عسكرية لها في الخارج بجيبوتي، بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية، مثل الموانئ والسكك الحديدية.

لذلك فإن لديها اهتماماً كبيراً برؤية انتهاء الأعمال العدائية وإحلال الأمن والسلام، للحفاظ على استثماراتها الضخمة.

واعتبر تشيانغ أن زيارة وزير الخارجية وانغ يي إلى الدول الثلاث تشير إلى تركيز الدبلوماسية الصينية على تعزيز العلاقات مع الجانب الأفريقي المطل على المحيط الهندي، وتعكس أهمية القرن الأفريقي تحديداً، نظراً لارتباطه بأحد أهم المسارات البحرية لمبادرة "الحزام والطريق"، التي تسهل الوصول إلى القارة الأفريقية عبر موانئ البحر الأحمر الإريترية (مصوع وعصب).

وأشار المحلل الصيني إلى أن تصاعد حدة التوترات الأمنية في المنطقة، إلى جانب أزمة الديون التي استخدمتها قوى المعارضة في كينيا كورقة سياسية في محاولة للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في البلاد في أغسطس المقبل، دفعت الصين إلى التفكير في تعيين مبعوث خاص لها.

ولفت إلى أنه ليس من المنطق السياسي أن يتردد وزير الخارجية بنفسه على المنطقة خلال فترات متقاربة لحل الخلافات والنزاعات السياسية والعسكرية ومتابعة تداعيات الاختلال في الميزان التجاري بين الصين وباقي الدول الأفريقية.

هذا، وكانت وسائل إعلام رسمية صينية قد قللت من مخاوف دول غربية بشأن ما يُعرف بـ"مصيدة الديون"، وقالت إن بكين ليست أكبر دائن لأفريقيا، وإن مشكلة ديون القارة ليست خطيرة كما وصفها الغرب، بل هي مخطط مسيّس بقيادة الولايات المتحدة لتقويض العلاقات الصينية الأفريقية.

المساهمون