منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير/شباط العام الماضي، تسارعت وتيرة جهود الصين لاستغلال الظروف الدولية الناشئة، لتقديم نفسها كقوة عظمى حول العالم، وتصوير الولايات المتحدة على أنها تفقد نفوذها وبعض أدوارها التقليدية في بعض المنطق الحيوية، ومنها العربية والأفريقية.
وبعدما استغلت بكين جائحة كورونا في ربيع 2020 لإحداث اختراق عبر "دبلوماسية اللقاحات"، جاءت الحرب الأوكرانية على وجه الخصوص لتقدّم فرصة كبيرة لقيادة الحزب الشيوعي الحاكم لاختراق أوسع على مستوى العالم.
وأجرى الرئيس الصيني شي جين بينغ، أمس الأول الأربعاء، اتصالاً هاتفياً بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، للمرة الأولى منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
وذكر التلفزيون الصيني أن شي شدّد على ضرورة إجراء مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لأنها "السبيل الوحيد للتسوية"، محذراً في حديثه مع زيلينسكي، من أنه "لا منتصر في حرب نووية". وأكد شي أن الصين تقف إلى "جانب السلام في الأزمة الأوكرانية". وبحسب شي، فإن الصين "لن تقوم بمراقبة النيران من الجانب الآخر ولن تقوم بصب الزيت على النار أو حتى الاستفادة من الأزمة لتحقيق مكاسب".
وأعلنت الصين أيضاً أنها سترسل "ممثلاً خاصاً عن الحكومة الصينية، مسؤولاً عن الشؤون الأوروبية الآسيوية، إلى أوكرانيا ودول أخرى لإجراء محادثات معمقة مع جميع الأطراف من أجل تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية".
وكانت بكين قد نشرت، في فبراير/ شباط الماضي، وثيقة من 12 نقطة تحض موسكو وكييف على الدخول في مفاوضات سلام.
وليست مبادرة الصين للتدخل كوسيط في الحرب الأوكرانية، التجلي الوحيد للمتغيرات التي يمكن ملاحظتها في سياسات بكين الخارجية، بل إنها رعت اتفاق استعادة العلاقات بين إيران والسعودية، ووصلت إلى طرح نفسها وسيطاً في القضية الفلسطينية. ويشير كل ذلك، مع غيره من المؤشرات، إلى أن تغيراً في سياسات شي جين بينغ آخذ في التشكل.
ويرى بعض الباحثين المتخصصين بالشأن الصيني، أن ما يجري جزء من إعادة ضبط شي للسياسة الخارجية لتحقيق الأهداف الأوسع، بتحويل الصين إلى لاعب دولي.
ويترافق ذلك مع محاولة بكين مواجهة سياسات الغرب، واتهامه بأنه ينشئ أجواء حرب باردة في العلاقات الدولية، وبصورة صريحة على وسائل الإعلام الموجهة من بكين والناطقة بالإنكليزية.
واعتبرت هذه الوسائل أن حلف شمال الأطلسي "الناتو" بالأصل "ليس منظمة ذات مصداقية"، وتوسعه بمثابة "حرب باردة من قبل الناتو وأميركا، بما يضع السلم العالمي في خطر". أيضاً تراقب بكين بتوجس جهود الغرب في دعم تايوان، وآخرها ما عبّر عنه مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، في 22 إبريل/نيسان الحالي، حول ضرورة أن تنشط البحرية الأوروبية في منطقة تايوان.
"الوساطة" في المنطقة العربية
حالة العزلة والمقاطعة التي واجهتها روسيا بعد غزوها أوكرانيا، تبدو أحد الدروس التي استخلصتها الصين في علاقاتها الدولية. وتسعى الأخيرة جاهدة إلى جعل الحلف الغربي أقل جاذبية وتأثيراً في بعض الأقاليم المهمة، ويمتد ذلك من أميركا اللاتينية، وترسيخ العلاقة بالبرازيل أخيراً مع عودة الرئيس لولا دي سيلفا إلى السلطة، إلى مناطق مختلفة تعيش نزاعات وعدم استقرار، ومنها أفريقيا والمنطقة العربية.
تسعى الصين جاهدة إلى جعل الحلف الغربي أقل جاذبية وتأثيراً في بعض الأقاليم المهمة
في السياق يمكن ملاحظة كيف أن بكين باتت تسرّع الخطى لترسيخ انطباع بأنها تؤدي "دور الوسيط"، بعد اتفاق إيران والسعودية، لتدخل على خط القضية الفلسطينية من بوابة الوساطة أيضاً. وسلّطت وسائل إعلام صينية في الفترة الأخيرة، بما فيها صحيفة الحزب الحاكم "الشعب"، الأضواء على "القلق البالغ بشأن التصعيد الأخير للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي".
كما نشرت وكالة الأنباء الرسمية "شينخوا" في 18 إبريل الحالي مقالاً حول إجراء وزير خارجية البلاد تشين غانغ اتصالاً مع وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، وعرضه لعب دور نشط في حل النزاع. وقبل ذلك بيوم (17 إبريل) نشرت الوكالة الصينية باللغة العربية مقالاً تحليلياً عما سمّتها "التحوّلات الإيجابية في الشرق الأوسط"، بما في ذلك اتفاق طهران والرياض، وعودة علاقات بعض الدول العربية مع نظام بشار الأسد، باعتبارها تأتي "مدعومة بالرغبة في الحد من الدور الأميركي في الإقليم".
دخول بكين إلى المنطقة العربية، ومن بوابة القضية الفلسطينية، يأتي بعد عقود من الجمود وغياب إرادة دولية حقيقية وجادة في حلها. وقد يدل ذلك على أن بكين تحاول انتزاع زمام المبادرة من واشنطن، في سياق يتعلق بتنافس مصالح عالمي بين الطرفين، وليس بالضرورة لأسباب مرتبطة بمصالح أهل المنطقة العربية، مع شكوك كثيرة حول مقدرتها بالأصل على إلزام الاحتلال الإسرائيلي بالقرارات الدولية. وعلى الرغم من ذلك، يُعتبر الطرح الصيني خطوة رمزية لبكين، من ضمن تحركاتها الدبلوماسية المتزايدة خلال الأعوام القليلة الماضية.
إضعاف صورة الغرب
من الواضح أن حرب أوكرانيا زادت مراهنة الصين على إضعاف صورة الغرب، في الدول النامية على وجه التحديد، وهي "تستهدف إظهار بكين على أنها قوة عظمى تسعى إلى تعدد الأقطاب"، وفقاً لما يقول الباحث الأول في المركز الدنماركي للدراسات الدولية أندرياس بويا فورسبي، لـ"العربي الجديد".
وتحاول بكين من خلال هذه الدبلوماسية القول إن أكبر التجمعات البشرية، أقل ميلاً إلى التأييد التلقائي للسياسات الأميركية، وخصوصاً من بوابة صراع روسيا وأوكرانيا.
تستهدف الصين إظهار نفسها على أنها قوة عظمى تسعى إلى تعدد الأقطاب
ولفت فورسبي إلى أن الصين "تعتقد أنها بصدد إزاحة أوروبا والولايات المتحدة عن خرائط نزاعات وقضايا عالمية، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط". وأوضح أن بكين تحاول تسويق فكرة تعدد الأقطاب على اعتبار أن النظام العالمي "يحتاج إلى نشوء أقطاب. لكنها في الحقيقة تتطلب أقطاباً لديها ما يكفي من القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والتأثير العالمي، وهو أمر غير متوفر لقوى كبيرة إقليمية للعب أدوار عالمية، مثل روسيا على سبيل المثال". ورأى أنه "كلما بدت بكين مسؤولة على المستوى الدولي زادت جاذبيتها التجارية". أي بكلمات أخرى، تأسيس نفوذ دبلوماسي-سياسي في دائرة تبادل التأثيرات.
واعتبر أن "الصين أصبحت مدركة لذاتها أكثر من الماضي"، وفي الوقت ذاته لا يعتقد أن أميركا "تنفصل تماماً عن الشرق الأوسط وأفريقيا". ورأى أن "الطريق لا يزال طويلاً كي تلعب الصين دوراً حاسماً في حل النزاعات الدولية، أما الاتفاق بين الرياض وطهران فهو استثناء وليس القاعدة"، على الرغم من اعتقاده أن "المزيد من دول الشرق الأوسط وأفريقيا تعتقد أن الصين شريك مفضّل، وبالتالي على الولايات المتحدة أن تعتاد على تلك الحقائق".
وتراهن بكين على فكرة أن العالم بدأ يتجه نحو نظام عالمي جديد، وولادة تعددية قطبية، وعلى تسويق إعلامي أن شعوب العالم أكثر انجذاباً لنموذجها في حل المشكلات، وتقديم الغرب على أنه "متطلب جداً" قبل مده يد العون أو الانخراط في حل النزاعات.
ونوّه الباحث في العلاقات بين أوروبا والصين في كوبنهاغن، سفيند أبلغورد، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى "تزايد استخدام بكين للدعاية التي تُسوَّق من غير الناطقين بالصينية". وعلى سبيل المثال، لفت أبلغورد إلى استضافة السفير السنغافوري السابق في الأمم المتحدة، كيشور مهبوباني، عبر برنامج بودكاست صيني شهير (سينيكا)، معلناً تأييده لوجهة النظر الصينية القائلة إن "بلدان الجنوب العالمي سئمت من قيام الولايات المتحدة بالكثير من المطالب قبل أن تقدم لها المساعدة".
أبلغورد: الطموحات الصينية باتت تؤخذ غربياً على محمل الجد، خصوصاً مساعيها لترسيخ الانطباع بأن دبلوماسيتها ناجحة
ورأى أبلغورد أن "الطموحات الصينية باتت تؤخذ غربياً على محمل الجد"، خصوصاً مساعيها لـ"ترسيخ الانطباع بأن دبلوماسيتها ناجحة، ما يدفعها إلى طرح نفسها كوسيط هنا وهناك، مع تشديد موازٍ على أن صورة ومكانة واشنطن تتراجع".
ويسري ذلك على منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي يقلل فيه باحثون، من إمكانات الصين في طرح حل للقضية الفلسطينية. ويشير بعضهم إلى أن استغلال الحرب الأوكرانية، ومحاولة تسويق مبادرتها، "تصطدم بجوهر المواقف الصينية"، ومنها عدم التواصل بشأنها مع كييف، وطروحات تصب في نهاية المطاف في التشكيك بمشروعية واستقلالية الدول التي شكلت الاتحاد السوفييتي السابق، وهو الأمر الذي أثار لغطاً واستنكاراً من دول البلطيق وأوكرانيا، وغيرها، بعد تصريحات السفير الصيني في باريس لو شاي لمحطة "إل سي إي" التلفزيونية الفرنسية مساء الجمعة الماضي.
واعتبر السفير أن الدول المنبثقة عن الاتحاد السوفييتي "ليس لها وضع فعلي في القانون الدولي لأنه لا يوجد أي اتفاق دولي يكرس وضعها كدول ذات سيادة".
على مستوى آخر، لا يخفي المهتمون بسياسات بكين أن أوروبا استيقظت متأخرة على تزايد توغل الصين وروسيا في أفريقيا، وغيرها من المناطق الحيوية. ومع محاولتها لعب دور في الشرق الأوسط فإن ذلك ليس بالخبر السار لجيران منطقة جنوب وشرق المتوسط في القارة العجوز، التي تواجه أصلاً أزماتها ومخاوفها على مصالحها عالميا.
ورأى أبلغورد أن ما يجري هو ترجمة لأفكار الرئيس شي جين بينغ عن مستقبل الصين العالمي، لكنه استدرك أنه "ليست هناك ضمانة لنجاحها، نظراً لظروف الصين وقوتها مقارنة بقوة الغرب وتأثيره".