تتجه الأنظار، اليوم الإثنين، إلى العاصمة الصينية بكين، حيث تعقد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعاً هاماً يستمر أربعة أيام، من المتوقع أن يمهد الطريق أمام رئيس البلاد شي جين بينغ، لولاية رئاسية ثالثة مدتها خمس سنوات، مما يعزز سلطته المطلقة، باعتباره الرجل الأقوى منذ عهد الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، الذي قاد الحزب الشيوعي بدءاً من عام 1943، ثم الصين بعد نجاح الثورة في عام 1949 حتى وفاته في عام 1976. وحسب وسائل إعلام رسمية صينية، سيجتمع حوالي 370 عضواً من النخب السياسية والعسكرية، لمناقشة وثيقة هامة، قيل إنها تتضمن قراراً تاريخياً حيال الإنجازات الرئيسية والتجربة التاريخية لمساعي الحزب الشيوعي الصيني على مدار مائة عام. ويكتسب الاجتماع أهميته من كونه آخر اجتماع للجنة المركزية 19 (أعلى سلطة تشريعية في البلاد) التي تم انتخابها عام 2017 وستستمر حتى عام 2022، قبل عقد المؤتمر الوطني العام للحزب الشيوعي في خريف العام المقبل، المقرر أن يشهد المصادقة رسمياً على تمديد ولاية شي لفترة ثالثة، بعد عامي 2012 و2017، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحزب.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الصينية لم تورد نص الوثيقة التاريخية، فإن مراقبين يعتقدون بأنها تتمحور حول شخص وإنجازات الرئيس الحالي، وتكريس دوره كقائد أوحد للحزب والدولة، وكذلك تحديد اتجاهات وسياسات الحزب خلال العقود المقبلة، بشأن الملفات والقضايا الداخلية والخارجية. تاريخياً، لم يُصدر الحزب الشيوعي الصيني منذ تأسيسه عام 1921، وثائق من هذا النوع، إلا في مناسبتين سابقتين: الأولى، في عهد الزعيم ماو تسي تونغ، والثانية في أثناء حكم دينغ شياو بينغ، الذي حكم مباشرة وغير مباشرة في الحزب والدولة بين عامي 1978 و1990. وفي كلتا الحالتين كانت البلاد تمر بمراحل مفصلية، ما يشير إلى أن اللجوء إلى هذه الوثائق يأتي في إطار محاولة الزعماء شرح وتبرير خططهم واستراتيجيتهم، تمهيداً لاتخاذ قرارات سياسية حاسمة وهامة وتاريخية. في عام 1945، أصدر ماو، وثيقة تحدث فيها عن الصراعات داخل الحزب على مدار عقدين من الزمن، والتي انتهت بما عرف بـ"حركة يانان التصحيحية" (1942 ـ 1945)، وهي حركة تحرير أيديولوجية استهدفت آلاف المثقفين في البلاد، ووضعت ماو، في مقدمة الحزب كزعيم ملهم.
سيُصدر الحزب الشيوعي وثيقة "تاريخية" في ختام الاجتماعات
أما في عام 1981، فقدّم دينغ شياو بينغ، وثيقة تناول فيها الأحداث التي شهدتها الصين خلال الثورة الثقافية (1966 ـ 1976) التي أشعلها سلفه ماو ضد الرأسماليين، وأدت إلى مقتل الملايين من الناس، فيما بدت محاولة للنأي بالنفس عن تبعات تلك الأحداث، خصوصاً أن الوثيقة كشفت لأول مرة عن مفهوم القيادة الجماعية داخل الحزب، بعيداً عن عبادة الفرد التي كرسها ماو طوال سنوات حكمه.
تفويض مطلق
يشرح أستاذ الدراسات السياسية في جامعة "صن يات سن"، وانغ جو، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الوثائق التاريخية في الصين، بمثابة ملخصات رسمية يقدّمها قادة الحزب إلى النخب السياسية لاستلهام الدروس والعبر، والاطلاع على التوجيهات المستقبلية للخطط والسياسات الداخلية والخارجية. ويضيف أن صياغة الوثيقة تمت بشكل مباشر من أعلى سلطة في البلاد، قبل طرحها خلال اجتماع للمكتب السياسي للجنة المركزية عقد في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، برئاسة شي جين بينغ، الأمين العام للجنة المركزية، مشيراً إلى أن أعضاء المكتب السياسي اطلعوا على الوثيقة، وتقرر تقديمها لاحقاً لنيل الثقة في الجلسة العامة السادسة للجنة المركزية. ويتوقع الأستاذ الصيني، أن ترسخ الوثيقة سلطة شي، عبر منحه تفويضاً مطلقاً، وأن تروّج لأفكار جديدة لها علاقة بخطط استراتيجية طويلة الأمد، لكنه يستبعد في الوقت نفسه أن تتناول الوثيقة تاريخ الحزب بأثر رجعي، على اعتبار أن الهدف منها تسويق إنجازات الرئيس الصيني واستخدامها كمنصة للارتقاء نحو مرحلة جديدة من الإدارة والحكم لا ينازعه فيها أحد.
وكانت وكالة الأنباء الصينية الجديدة (شينخوا)، قد نشرت أخيراً ورقة بعنوان "شي جين بينغ، الرجل الذي يقود الحزب الشيوعي الصيني في رحلة جديدة"، أسهبت فيها في الحديث عن إنجازات الرئيس الصيني، إلى جانب استعراض محطات تاريخية هامة في حياته وعمله الحزبي، فيما بدا وكأنه دعاية انتخابية. وكان لافتاً في الورقة التي تألفت من 4551 كلمة وتُرجمت إلى تسع لغات، ذكر اسم شي 103 مرات، فيما لم يذكر اسم الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، سوى خمس مرات فقط.
تُخطط الصين للعودة إلى الاقتصاد الموجّه بعد عقود من اقتصاد السوق
ملفات على الطاولة
وحول أهمية الاجتماع ودوره في تكريس سياسة الرئيس الصيني الراهنة وإعطائه ضوءاً أخضر للمضي قدماً فيها، يقول عميد كلية الدراسات التاريخية السابق في جامعة سوتشو، غوانغ يوان، في حديث مع "العربي الجديد"، إن شي جين بينغ ليس في حاجة إلى ضوء أخضر للبقاء في السلطة، على اعتبار أن ذلك حدث قبل ثلاثة أعوام، حين ألغت أعلى هيئة تشريعية في الصين البند الخاص بتحديد ولاية الرئيس. وبالتالي، فإن التمديد لفترة ثالثة هو تحصيل حاصل، على حد قوله، وتفويض مسبق لمواصلة الحكم إلى ما لا نهاية.
أما في ما يتعلق بسياسته الراهنة، خصوصاً حيال أولوياته بمسألة تايوان واحتمال شن هجوم عليها، يوضح أن تايوان باتت تشكل صداعاً في رأس الحزب الشيوعي، وأصبحت سؤالاً ملحّاً في دوائر صنع القرار الصيني، خصوصاً بعدما كشفت الرئيسة التايوانية تساي أنغ وين، أخيراً، عن وجود قوات أميركية في الجزيرة، وكذلك إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن، عن استعداد بلاده للدفاع عن حليفتها في حال شنّت الصين حرباً عليها. ويلفت إلى أن قرار الحرب قد يُطرح على طاولة الاجتماع، وربما يكون قد طُرح بالفعل في اجتماعات سابقة، لكن قيادة الحزب الشيوعي تدرك جيداً تبعات اتخاذ مثل هذا القرار، كونه يتناقض مع سعي الصين إلى بناء دولة اشتراكية حديثة تقوم على أساس التنمية والتعايش المشترك.
وعن الصراع بين بكين وواشنطن، يقول غوانغ يوان، إن نهج الرئيس شي جين بينغ، في التعامل مع الولايات المتحدة، يعتمد إلى حد كبير على سياسة النفس الطويل، والرهان الدائم على احتمالات التغيير في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الصين وفق أمزجة الإدارات المتعاقبة، مشيراً إلى فشل هذا الرهان بعد انتهاج إدارة بايدن، نفس سياسة سلفه دونالد ترامب، فيما يتعلق بمحاولات التصدي للهيمنة الصينية. ويفسر ذلك بأنها محاولة من الرئيس الصيني لربط مستقبل البلاد بمصيره شخصياً، مثلما فعل تماماً في مبادرة "الحزام والطريق"، باعتبارها خطة استراتيجية تحتاج إلى استقرار سياسي لكي تحقق أهدافها، وهذا الاستقرار مرتبط ببقاء شي في السلطة، على حد قوله.
وكان شي جين بينغ، قد حدد منذ تولي منصبه أميناً عاماً للحزب الشيوعي في عام 2012، "هدفين مئويين": الأول، جعل الصين مجتمعاً مزدهراً بحلول عام 2021، أي بعد مائة عام من تأسيس الحزب الشيوعي. والثاني، بناء دولة اشتراكية حديثة بحلول عام 2049، أي بعد مائة عام من تأسيس جمهورية الصين الشعبية.
اقتصاد موجه
من جهته، يتحدث الباحث في المركز الصيني للدراسات الاقتصادية في جامعة فودان، تشاو تشيانغ، عن احتمالات التحوّل في سياسات الدولة الاقتصادية وفق الوثيقة التاريخية، لافتاً إلى أن اجتماع اللجنة المركزية قد يكون حاسماً في مسألة شكل الاقتصاد الصيني خلال العقود المقبلة. ويقول في حديث مع "العربي الجديد"، إن الصين قد تشهد عودة جديدة إلى الاقتصاد الموجّه الذي يخضع لسيطرة وتخطيط الحزب، كما كان الحال عليه في أثناء حكم ماو تسي تونغ. ويضيف أن ملامح هذا التحول تبدو واضحة في ظل إخضاع العديد من القطاعات الاقتصادية الكبرى في البلاد لسلطة الدولة، مثلما حدث مع شركات التكنولوجيا والعقارات. ويحذر الباحث الصيني من أن انتهاج هذا النوع من السياسة وتجاوز فكرة اقتصاد السوق، قد يعيق مسيرة التنمية التي ميزت الصين منذ إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح قبل أربعة عقود، نظراً إلى أن التخطيط الموجه يتعارض مع رغبة الدولة في مزيد من الانفتاح، ويقوض هامش الحرية الذي تحتاجه الشركات الاقتصادية الكبرى لمجاراة المنافسة في الأسواق العالمية.
ذُكر اسم شي في تقرير لشينخوا 103 مرات في مقابل 5 مرات فقط لماو
سؤال السلطة
حول شكل المرحلة المقبلة ومدى تأثير ونفوذ سلطة شي، يقول الباحث في معهد كولون للدراسات الاستراتيجية في هونغ كونغ، فرانك تشو، لـ"العربي الجديد"، إن سلطة الرئيس الصيني لم تكن يوماً محل شك، والسؤال الأساسي هو إلى أي حد يمكن أن يستمر في موقعه، في ظل غياب أي معارضة أو منافسين حقيقيين. ويضيف أن قرار التمديد لولاية ثالثة، سيؤكد بشكل أو بآخر أنه لا توجد إرادة داخل الحزب لعزله أو انتخاب بديل له، وبالتالي على المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة، تهيئة نفسها للتعامل مع زعيم لا يمكن الإطاحة به من الداخل.
ويلفت إلى أن ما يخدم بقاء شي، ويعزز صورته كقائد أوحد على غرار ماو، هو سيطرته المطلقة على القيادة العليا للحزب والجيش وأجهزة الأمن ووسائل الإعلام، وحتى اللجان التأديبية التي من صميم عملها محاسبة المسؤولين الفاسدين، وهي لجان شكّلها بنفسه في إطار حملته الشهيرة لمكافحة الفساد عام 2012، والتي طاولت العديد من المنافسين المحتملين. ويضيف شو: "نحن أمام رئيس يتمتع بسلطة مطلقة، لن يتزحزح من مكانه ما دام يتمتع بصحة جيدة حتى وهو على أعتاب السبعين عاماً، وبالتالي لن تكون هناك قوة قادرة على الإطاحة به إلا الموت، مثلما حدث مع الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، الذي بقي في سدة الحكم لعقود طويلة قبل أن يدركه الموت عام 1976، منهياً فصلاً صاخباً من تكريس القيادة الفردية وعبادة الشخصية داخل الحزب الشيوعي الصيني".
يشار إلى أن شي وصل إلى السلطة عام 2012، خلفاً للرئيس السابق هو جينتاو، وفي تلك الأثناء أطلق حملة كبيرة لمكافحة الفساد داخل الحزب الشيوعي طاولت تأديب نحو 1.5 مليون مسؤول، في خطوة اعتبرها مراقبون بأنها تستهدف تصفية الخصوم لتمهيد الطريق أمامه نحو سلطة مطلقة. وعام 2018، ألغت أعلى هيئة تشريعية في البلاد البند الخاص بتحديد ولاية الرئيس بفترتين متتاليتين، كما تم إدراج أفكار شي، في دستور الحزب على خطى زعماء الصين التاريخيين.