أي كلفة يدفعها الاتحاد الأوروبي للحصول، مرة أخرى، على نسخة جديدة من دونالد ترامب؟ سؤال ملحّ سيكون من دون شكّ محلّ نقاش معمّق على طاولة البحث في أروقة الاتحاد، مع فوز خيرت فيلدرز، زعيم "حزب الحرية" اليميني المتطرف، بالانتخابات التشريعية في هولندا، التي جرت يوم الأربعاء الماضي، وبنتيجة أحدثت صدمة قوية داخل الحزب نفسه، قبل خصومه وبروكسل.
الأكثر صدمة ربما أن هذا السياسي الهولندي، المعروف بلسانه السليط وشعره المصبوغ أشقر، ومعاداته للإسلام والمسلمين بشكل مرضي، والذي يعدّ أكبر معّمر كمشرّع في البرلمان (منذ عام 1998)، قد يكون إلى حدّ الآن "النسخة الأسوأ" من دونالد ترامب، إذا ما قورن بنسخ أخرى تواصل اعتلاء مراكز السلطة في القارتين الأميركية والأوروبية، وآخرهم قبل فيلدرز، خافيير ميلي، الذي فاز برئاسة الأرجنتين، والمعجب بترامب وإسرائيل.
وإذا كان يخشى من سياسة ميلي، بما يخصّ منطقتنا، خصوصاً لجهة تماهيه مع دولة الاحتلال، إلا أن إمكانية تشكيل فيلدرز حكومة في هولندا، التي ظلّت لوقت طويل معقلاً لليبراليين، ومرحبة بالمهاجرين، أثارت الذعر لدى الجاليات العربية والمسلمة في هذا البلد، حيث يشغل السوريون والأتراك اثنين من المراتب الخمسة الأولى في نسب المهاجرين، العام الماضي، وقد كان يمكن أن يكونوا الأوائل لولا الهجرة الأوكرانية بسبب الحرب.
وبغض النظر عن مصير المهاجرين، ومنهم السوريون المهدّدون في هولندا بحسب إقاماتهم المؤقتة، إذا ما تمكن فيلدرز من تشكيل حكومة ائتلافية، فإن ما وصفه الإعلام الأوروبي، أمس الجمعة، بـ"الهزّة الأرضية" أو "الزلزال" في هولندا، بعد انتخابات الأربعاء التي حصل من خلالها فيلدرز على 35 مقعداً من أصل 150 في البرلمان، له مسبباته العميقة، وكذلك تداعيات على مجمل القارة، وعلى مصير الاتحاد الأوروبي الذي بات في "خطر"، مع تعزيز المعسكر اليميني المتطرف في أوروبا قوته، وانتقاله إلى مرحلة "العدوى" التي تجتاح القارة، بحسب تعبير صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية أمس.
اليمين المتطرف يوسّع نفوذه
وحتى أبرز المتفائلين، الذين يقدمون بولندا وانتخاباتها الأخيرة مثالاً على وجوب عدم الإفراط في التشاؤم، بعد فوز المعارضة الليبرالية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يحذرون من أن موجة تعزيز اليمين المتطرف في الاتحاد تكبر، وهي من دون شك قد تكون ثمرة جهد متواصل عمل عليه عرّابو اليمين المتطرف حول العالم، أمثال الأميركي ستيف بانون، وساهم في تعزيزه وصول ترامب إلى السلطة، وكذلك العلاقات القوية التي تنسجها روسيا مع هذا التيار، بالإضافة إلى أنشطة اللوبيات الإسرائيلية والصهيونية.
يتعهد اليمين المتطرف في هولندا بسحب الإقامات المؤقتة من المهاجرين
رغم ذلك، فإن عوامل أخرى لا بد من عدم إغفالها مع الحديث عن أسباب هذا الصعود، ومنها الهجرة التي استفحلت إلى القارة، مع توالي الحروب والمآسي في جنوب العالم، والحرب الروسية الأوكرانية التي تترك آثارها المتواصلة على اقتصاد القارة. وفي هولندا مثلاً، احتل بند ارتفاع إيجارات المنازل، والنقص فيها، المرتبة الأولى على لائحة مشاغل المواطنين، وهو الأمر الذي استغله حزب الحرية اليميني المتطرف، الذي صوّب على ارتفاع نسبة المهاجرين إلى البلاد، وهي نسبة ارتفعت بالفعل، العام الماضي، حيث بلغت 403 آلاف مهاجر، بزيادة 150 ألف مهاجر عن العام 2021، علماً أن النسبة الأكبر منهم هم من الأوكرانيين، ويليهم البولنديون.
كما تعهد الحزب بإجراء المزيد من عمليات استخراج النفط والغاز لجذب الناخبين، المستائين من سياسات سلفه مارك روته عن اليمين الوسط (قد تكون سياسات المرحلة السابقة والفساد الذي صاحبها بحسب متابعين من بين أهم الأسباب لفوز اليمين المتطرف الساحق في هولندا هذه المرة).
تهويل من "أسلمة هولندا"
وصوّب فيلدرز، في حملته الانتخابية، على أوكرانيا التي أكدّ أنه سيقطع المساعدات عنها، وعلى الاتحاد الأوروبي التي وعد بإجراء استفتاء للانفصال عنه، بقدر ما هاجم الإسلام والمسلمين والقرآن، بل رأى متابعون أنه خفّف لهجته حيال الإسلام والمهاجرين المسلمين خلال الحملة "تكتيكياً"، للتقرّب من الناخبين المعتدلين. لكن ذلك لا يمحي أن الركن الأساسي من خطابه السياسي يقوم على معاداة المسلمين، وهو ما دفع كلفته نمطاً من الحياة منذ أكثر من عقدين، ظلّ فيهما محاطاً بحماية مشدّدة لكثرة التهديدات بالقتل التي لاحقته بسبب هذا الخطاب، ومنتقلاً من منزل إلى آخر للتمويه. وأدين فيلدرز بسبب إهانته المغاربة خلال حملة انتخابية في 2014، حين وصفهم بـ"الحثالة"، ولوحق قضائياً، كما منع من دخول بريطانيا في عام 2009، بعدما اعتبرت لندن أنه "يهدّد الانسجام الاجتماعي وبالتالي الأمن الوطني".
وكان زعيم "حزب الحرية"، الذي انشق خلال العقد الماضي عن اليمين الوسط و"حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية"، الذي مثّله رئيس الوزراء السابق مارك روته، وأسّس حزبه الخاص، قد دعي في ذلك العام من قبل أحد أعضاء مجلس اللوردات البريطاني لعرض فيلمه "فتنة"، الذي ينتقد فيه القرآن كـ"كتاب فاشي"، الذي أجّج موجة غضب إسلامية حول العالم في 2008.
يهول فليدرز من "أسلمة هولندا"، ومن الإسلام كـ"أيديولوجيا توتاليتارية"
ويهول فليدرز من "أسلمة هولندا"، ومن الإسلام كـ"أيديولوجيا توتاليتارية"، وهو خطاب خفّضه خلال الحملة، لكنه ظلّ منهجياً، عارضاً تجميد الهجرة "غير الغربية" واللجوء الذي يصفه بـ"تسونامي" (ما يؤدي تلقائياً برأيه لخفض "أسلمة" البلاد)، لكنه ظلّ عنواناً كبيراً على موقع حملة الحزب، تحت شعار "هولندا ليست بلداً إسلامياً: لا مدارس إسلامية، لا قرآن، لا جوامع"، بالإضافة إلى حظر الحجاب في المؤسسات الرسمية. كما يتعهد الحزب بحال وصوله للسلطة، بقطع العلاقات الدبلوماسية "فوراً" مع دول تطبق الشريعة الإسلامية، ومن حيث وُجهت إلى نواب هولنديين تهديدات بالقتل.
ويقول زعيم اليمين المتطرف في هولندا إن هذا الخطاب غذّاه اغتيال السينمائي الهولندي المعادي للإسلام تيو فان غوغ، في عام 2004 (اغتيل على يد الهولندي من أصل مغربي محمد بويري احتجاجاً على فيلم فان غوغ "الخضوع" الذي ينتقد فيه الإسلام)، وإقامته لفترة في "كيبوتز" (مستوطنة صغيرة) في إسرائيل. ويشدّد "حزب الحرية" اليميني المتطرف على أنه "صديق رائع للديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط: إسرائيل"، وعلى أن العلاقات مع دولة الاحتلال "سيتم تعزيزها عن طريق نقل سفارتنا إلى القدس، من بين مسائل أخرى"، متعهداً بإغلاق الممثلية الهولندية في رام الله، مقر "السلطة الفلسطينية الفاسدة"، في الضفة الغربية المحتلة.
استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي
ولا ينسحب "الانغلاق" الذي يروّج له فيلدرز، للأمانة، على المسلمين فقط، بل إن حزبه يريد وقف تنقل اليد العاملة بين دول الاتحاد الأوروبي، حيث سيتعين على مواطني الاتحاد الحصول على رخصة عمل في هولندا، كما سيتم خفض عدد الطلاب الأجانب، وإبعاد طالبي اللجوء الساعين لدخول هولندا من "دول مجاورة آمنة". ويريد حزب الحرية "هولندا ذات سيادة، تتولى شؤون عملتها وحدودها وتضع أنظمتها"، متهماً الاتحاد الأوروبي بأنه "مؤسسة تأخذ المزيد من السلطة لنفسها، وتستولي على أموال دافعي الضرائب، وتفرض علينا الإملاءات".
يتعهد فيلدرز بإجراء استفتاء للانسحاب من الاتحاد الأوروبي
وإلى حين تنظيم استفتاء لمغادرة الاتحاد (نيكسيت)، يريد فيلدرز أن تصبح بلاده متلقية صافية لأموال الاتحاد الأوروبي، وليست مساهمة صافية فيها، رافضاً أيضاً أي توسع إضافي للاتحاد الأوروبي، ومطالباً باستعادة حق الفيتو لبروكسل وإنزال علم الاتحاد عن المباني الحكومية في هولندا.
ويبقى الانتظار لمعرفة ما إذا كان فيلدرز قادراً على جذب دعم كاف من الأحزاب السياسية الأخرى لتشكيل ائتلاف ناجح كرئيس للوزراء، بعدما تمكن من جذب الناخبين، خصوصاً المترددين، بحسب متابعين. وبنتيجة الانتخابات، حصل تحالف الحزب العمالي والبيئيين على 25 مقعداً في البرلمان، و24 مقعداً لحزب روته، رئيس الحكومة منذ 2010، فيما حصل حزب العقد الاجتماعي، المنشق عن يمين الوسط في سبتمبر/ أيلول الماضي بزعامة بيتر أومتزيغت، على 20 مقعداً. ورفض اليسار سريعاً أي تحالف مع اليمين المتطرف لتشكيل حكومة، فيما ظلّ اليمين ويمين الوسط غير واضح حتى يوم أمس.
(العربي الجديد)