تمثل القرارات الأخيرة الصادرة عن المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية في مصر، برئاسة رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي، نقلة نوعية في تاريخ العمل القضائي في البلاد. فللمرة الأولى يتم التحكم في جميع شؤون القضاة، من تعيينات ورواتب ودرجات وندب بصورة مركزية، من خلال المجلس الأعلى الذي تم استحداثه في التعديلات الدستورية الأخيرة في إبريل/نيسان 2019، والذي كانت فكرة إحيائه قد ظهرت منتصف 2018، بمناسبة دراسة النظام لمشكلة ندب القضاة، التي فجرت وقتها خلافات بين الهيئات القضائية المختلفة ووزارة العدل. ووجدت الرئاسة وقتها أنه يجب العمل على توحيد آراء القضاة تجاه الملفات المختلفة التي قد تثير أزمات بين الهيئات وبين الدولة لتسهيل التعامل ومحاصرة مساحات المعارضة.
وعلى الرغم من أن الدستور ينص على أن المجلس الأعلى يضم جميع الجهات والهيئات القضائية المنصوص عليها في الدستور، فقد تم استثناء القضاء العسكري من حضور اجتماع أمس الأول مع السيسي، الذي دعت الرئاسة رؤساء الهيئات إليه صباح يوم الاجتماع فقط، ما يؤكد أن حضورهم كان شكلياً فقط لاعتماد قرارات معدّة سلفاً، ومقصود تمريرها في هذا الوقت تحديداً، قبل نهاية العام القضائي الحالي بنهاية يونيو/حزيران الحالي.
تم استثناء القضاء العسكري من حضور الاجتماع مع السيسي
وقال مصدر بوزارة العدل، لـ"العربي الجديد"، إن استبعاد القضاء العسكري من الاجتماع كان لسببين، أولهما أن القرارات المتخذة جميعها لا علاقة لها به، فهو لا يشترك مع باقي الهيئات في مسألة طريقة التعيين، أو المساواة الوظيفية، أو في الدرجات، وكذلك في مسألة الندب، وبالتالي كان حضوره واستثناؤه في الوقت نفسه من هذه القرارات سيثير انتقادات بين القضاة وتساؤلات عامة. أما السبب الثاني فيتمثل في مسألة تعيين الإناث تحديداً. فرغم أن المادة 11 من الدستور تنص صراحة على تعيين الإناث في القضاء بشكل عام، وأن القضاء العسكري أصبح فرعاً من هذا القضاء، فإنه سيكون حالياً الجهة الوحيدة التي لا تُعيّن الإناث بذريعة طبيعته العسكرية، وهي "مسألة حساسة". وقالت المصادر إن بعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى أثاروا هذه القضية في اجتماع سابق مع وزير العدل عمر مروان في إطار مماطلتهم في قبول تعيين الإناث بالنيابة، وبالتالي ارتأى السيسي استبعاد القضاء العسكري من الجلسة تماماً، لتكريس وضعه المميز داخل الدستور والمجلس الأعلى، فهو يجمع بين امتيازات الجيش والقضاء، ويحظى بتمييز وظيفي في آن.
ولكي يكون هذا الاستبعاد منطقياً، أخطرت وزارة العدل جميع الهيئات بأنه نظراً لعدم صدور القانون المنظم لعمل المجلس الأعلى حتى الآن، بعد الخلاف الذي ثار بشأنه صيف 2019، فإن القانون المنظم لعمل المجلس الأعلى للهيئات القضائية الصادر عام 1988 سيتم تطبيقه، وهو بالطبع كان يخلو من أي ذكر للقضاء العسكري الذي كان وقتها لا يعدو كونه فرعاً داخلياً من الجيش، وليست له صفة قضائية كاملة بموجب دستور 1971. علماً بأن هذا التفسير يعتبر مناقضاً للنص الدستوري الحالي.
أما مسألة تعيين الإناث، فرغم التوجيهات السابقة الصادرة من السيسي بها في مارس/آذار الماضي، فإن مجلس الدولة وحده هو من اتخذ خطوات تنفيذية بشأنها، بفتح باب التقدم للسيدات عضوات النيابة الإدارية وقضايا الدولة الحاليات للتعيين في درجتين فقط من المجلس، لكن النيابة العامة لم تعلن شروط التعيين فيها ولم تفتح الباب لذلك. ولهذا السبب كان اجتماع، أمس الأول، مهماً، لأنه وضع سقفاً زمنياً يلزمها بإنهاء إجراءات التعيين قبل أول أكتوبر/تشرين الأول المقبل، بما يعني وجوب مسارعة مجلس القضاء الأعلى لفتح باب التقدم لتعيين دفعة خاصة من الإناث، وهو أمر كان المجلس ينوي تأجيله لحين تعيين الدفعة المقبلة من الذكور أيضاً. وبحسب المصادر فإن السيناريو الأقرب للتنفيذ، في ظل ضيق الوقت وعدم جاهزية مقار النيابة العامة واستراحاتها في العديد من المحافظات لسكن الإناث، هو فتح الباب لتعيين عدد محدود من عضوات النيابة الإدارية وقضايا الدولة أيضاً، ثم وضع ضوابط لذلك في السنوات المقبلة.
أثار القرار الخاص بمساواة الدرجات الوظيفية والمالية للهيئات القضائية جدلاً واسعاً
وأوضحت المصادر أن القرار الخاص بمساواة الدرجات الوظيفية والمالية للهيئات القضائية أثار في الساعات القليلة التالية للاجتماع جدلاً واسعاً، لأنه استبعد المحكمة الدستورية العليا من مضمار المساواة، على الرغم من أن معظم الخلافات السابقة والدعاوى القضائية المرفوعة من القضاة لزيادة رواتبهم كانت بخصوص المساواة مع قضاة الدستورية. وفسرت المصادر هذا الأمر بأن القرار مقدمة لأن يعمل المجلس الأعلى، بعد تنظيمه رسمياً بقانون، في تحقيق رغبة السيسي في خفض الميزانيات المخصصة للهيئات القضائية -ومجلس الدولة تحديداً- حيث سيتم إسناد عملية توزيع المخصصات المالية لكل هيئة إلى المجلس الأعلى، بناء على الترقيات التي يحدد هو شروطها، مع حرمان كل هيئة من رفاهية توزيع فوائض الميزانيات على أعضائها في صورة مكافآت أو بدلات، كما كان يحدث في السنوات الست السابقة على التعديل الدستوري الأخير. وربطت المصادر بين هذه المسألة وتكرار التأكيد على حظر ندب القضاة لأكثر من جهة حكومية واحدة، حيث إن القانون المنظم للمجلس الأعلى سيتضمن نصاً يجعل من سلطته وضع القواعد الخاصة بالندب على جميع الهيئات، ولن تعود كل هيئة مختصة بشؤون أعضائها هذه، مع إلغاء كل المسميات والأوصاف الأخرى التي كانت تسمح بالتحايل على قرار حظر الندب لأكثر من جهة، مثل المهام القومية والمهام الخاصة والندب الجزئي.
وكان عدد من القضاة المنتدبين في عدة جهات قد سعوا، منذ عام ونصف العام تقريباً، لدى الجهات الحكومية المنتدبين فيها من وزارات ومصالح وشركات قابضة وتابعة، للضغط على إدارة مجلس الدولة للتراجع عن قرارها بتوحيد جهة الندب، ومنع عمل القاضي كمستشار قانوني في أكثر من جهة واحدة، أو إرجاء تطبيقه. كما أبدى بعض الوزراء لرئيس الحكومة مصطفى مدبولي تضررهم من حرمانهم من انتداب القضاة كمستشارين، أو تخيير مستشاريهم للبقاء في جهة ندب واحدة، بناء على قرار رئيس مجلس الدولة الذي صدر وفقاً لتعليمات دائرة السيسي، لكن رئيس الحكومة رفض التدخل في القضية.
وينص الدستور الحالي على إلغاء الندب تماماً خلال خمس سنوات من تطبيقه، أي كان يجدر إلغاؤه منذ عامين ونصف العام. لكن حاجة الحكومة للمستشارين القانونيين من أعضاء الهيئات القضائية عطلت تنفيذ النص الدستوري. بينما اكتفى السيسي بالتضييق عليهم بمنعهم من الندب لأكثر من جهتين، ثم لجهة واحدة فقط، ثم بتوحيد جهة صرف المستحقات، ثم تطبيق ضريبة الدخل على القضاة بصورة صارمة من خريف 2019 للمرة الأولى، بعد فشل محاولات رؤساء الهيئات القضائية التوصل لحل وسط مع وزارة المالية، لإعادة احتساب الضريبة، وتخفيض الشريحة الخاصة بالقضاة واستبعاد بعض البدلات من صافي الراتب الذي تحتسب الضريبة على أساسه.