لم يسعف تقدّم يسار الوسط بثمانية نواب (من 100 إلى 108) من أصل 349 في برلمان السويد الجديد، زعيمة "الاجتماعي الديمقراطي"، ماغدالينا أندرسون، في تشكيل الحكومة المقبلة، معترفة بهزيمة معسكرها، مع اليسار السويدي، بعد 8 سنوات من الحكم.
واستطاع معسكر اليمين الوسط، بفارق 3 نواب، مع احتساب اليمين المتشدد، تحقيق أغلبية 176 مقعداً في مقابل 173 لصالح يسار ويسار الوسط.
بتلك النتيجة النهائية التي انتظرها السويديون حتى مساء أمس الأربعاء، تتجه استوكهولم نحو "اللون الأزرق"، الذي يمثل معسكر البرجوازيين واليمين المتشدد في أحزابه الأربعة. والمفارقة أن اليمين القومي المتشدد في حزب "ديمقراطيو السويد" قفز محققاً 3 نقاط عن انتخابات 2018، ليحصد، بزعامة الشعبوي جيمي أوكسون، 20.6 في المائة (الحزب الثاني برلمانياً)، ويزيح عن صدارة المعسكر الأزرق حزب "الاعتدال" بزعامة المرشح لرئاسة الحكومة أولف كريسترسون.
واختار السويديون إذاً منح اليمين المتشدد تقدماً بـ11 نائباً، ليحقق 76 مقعداً، مقابل تراجع حزب كريسترسون بـ7 نواب محتفظاً فقط بـ67 نائباً، وبذلك يصبح معسكر يمين الوسط في سعيه لتشكيل الحكومة المقبلة، أسير حزب "ديمقراطيو السويد". وما عجّل بخسارة أندرسون تشكيل حكومة البلد المقبلة، أن حزب "اليسار" الذي شكّل أرضية برلمانية لها، تراجع بـ4 مقاعد (من 28 إلى 24 مقعداً)، كما تراجع حزب الوسط بـ7 مقاعد (من 31 إلى 24 مقعداً).
بطبيعة الحال، لا يستطيع اليمين القومي المتشدد الدفع بزعيمه أوكسون إلى المطالبة بمنصب رئاسة الحكومة، لكنه بدهاء لعب لعبته المفضلة خلال 10 سنوات، بنقل حزبه من حزب منبوذ إلى بيضة قبان لأي حكومة مقبلة يشكلها كريسترسون. وأطلق الأخير مباشرة، مساء أمس الأربعاء، وعوداً بـ"حكومة قوية"، معيداً التذكير باتهام حكومة يسار الوسط برئاسة ستيفان لوفين منذ 2014، وأندرسون منذ العام الماضي، بالضعف، ومشدداً على أن السويد "ستكون أفضل حالاً في مسارها الجديد".
في قبضة التشدد اليميني
نشوة الانتصار عند الشعبويين اعترفت بها وسائل إعلام سويدية محسوبة على "الاجتماعي الديمقراطي" والليبراليين، مثل "أفتون بلادت" و"إكسبرسن". من جهته، ردّ أوكسون انتصار خطه السياسي إلى رغبة السويديين في تبنّي سياسات هجرة ودمج مشددة.
صحيح أن الفارق ليس كبيراً بين المعسكرين على مستوى نواب البرلمان، لكن أوكسون ينتهز فرصة غضب الشارع، مما يطلق عليه "تراخٍ" في مواجهة الجريمة المنظمة، التي حصدت بتبادل إطلاق الرصاص في ضواحي مدن البلد 47 ضحية، قبل أن ينتهي العام الحالي، مع زيادة بنسبة تفوق 60 في المائة في حوادث إطلاق النار.
ببساطة، فإن ما يريده زعيم الشعبويين، أوكسون، هو صرف الـ20 في المائة في فرض سياسة الأمر الواقع، بإنزال أحزاب معسكر يمين الوسط عن الأشجار العالية في مواقفها المتصلبة منذ نحو عقد، بعدم منح حزبه "ديمقراطيو السويد" أي مجال للتأثير في سياسات وتشريعات البلد.
وبمجرد إعلان النتائج النهائية بعد فحص 250 ألف صوت، أمس الأربعاء، تبيّن بوضوح أن سلالم النزول عن المواقف التقليدية لأحزاب يمين الوسط بدت أكثر وضوحاً في النتائج نفسها. فحلفاء حزب "الاعتدال"، الذي حكم السويد حتى 2014، وكانت مواقفه معتدلة ومرحبة باللاجئين، لم يحققوا الفوز المرجو لتأمين الأغلبية لتشكيل كريسترسون للحكومة. فعدا عن تراجع الحزب نفسه بـ7 مقاعد، فإن "المسيحيون الديمقراطيون" تراجعوا أيضاً بـ3 مقاعد (إلى 19 مقعداً) والليبراليون بـ4 مقاعد (إلى 16 مقعداً).
الأمور إذاً ليست تقليدية النتائج في استوكهولم هذه المرة، بل انعطافة غير مسبوقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأ معسكر التشدد القومي يغوص في العملية الديمقراطية، في البلد الإسكندنافي الأكثر تقدماً على مستوى الصناعة، والأكثر انفتاحاً منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مع اليد العاملة المهاجرة من مناطق مختلفة من خارج أوروبا، بما فيها جاليات عربية منخرطة في السياسة السويدية بصورة لافتة.
تطبيع مع الشعبويين وانعطافة سويدية
في بعض التفاصيل الصادرة عن متخصصي الانتخابات، وتفسير هذه القفزة نحو أقصى اليمين، يتحدث هؤلاء عن أن "تبني الأحزاب، من مختلف المشارب، للخطاب المتعلق بعالم الجريمة"، وربطه بالهجرة وفشل سياسات الدمج، منح "ديمقراطيو السويد" نوعاً من التطبيع وقبولاً بالتصويت له، حتى من قِبل من صوّتوا تقليدياً لـ"الاجتماعي الديمقراطي" وليمين الوسط التقليدي.
إجمالاً، وبغض النظر عن السجال الذي يندلع الآن في استوكهولم، والذي لن يتوقف قريباً حول هذه النتيجة التي تغير الخريطة السياسية، سيكون صعباً للغاية القفز عن حقيقة أن معسكر التشدد صار له ما يشبه الكلمة الفصل في شكل وجوهر حكومة يمين الوسط بزعامة كريسترسون.
وإذا بدت الأمور في نشوة الانتصار مساء أمس واليوم الخميس سلسة، فإن التوقع هنا أن تكون مفاوضات تبني سياسات حكومية "مختلفة جذرياً"، كما يعد المعسكر الأزرق الفائز، غير معبّدة بالابتسامات والتسهيل. فإذا كانت الوعود الانتخابية حول المهاجرين أخذت، تحت سقف "القانون والنظام"، بعداً صارماً، فستكون في التطبيق خاضعة للتفاوض البرلماني، وخصوصاً أن يسار الوسط واليسار الذي فقد الأكثرية ما زال لاعباً رئيساً في سياسات البلد.
وبالطبع، ثمة قضايا كثيرة أخرى غير الهجرة تستحوذ على اهتمام الناخبين الذين ينتظرون تحقيقها، ومنها لجم التضخم المتزايد، وارتفاع أسعار الكهرباء، والسيطرة على عالم الجريمة المنظمة، واستكمال انضمام البلد إلى حلف شمال الأطلسي.
وفي كل الأحوال، الأيام والأسابيع المقبلة ستكشف ما إذا كان كريسترسون، بعد أن تصدر أسماء نهائية بالفائزين في البرلمان نهاية الأسبوع المقبل، قادرا بالفعل على تجيير أصوات الشعبويين دون الظهور وكأنه مجرد رئيس حكومة ظل لحزب "ديمقراطيو السويد"، إذ من الممكن أن يفجر ذلك معسكر يمين الوسط برمته، ويقلب الطاولة لمصلحة يسار الوسط، والشارع السويدي بانتظار وترقب للتطورات المقبلة.