السودان: هكذا تطيل خلافات القوى المدنية انقلاب 25 أكتوبر

25 أكتوبر 2022
كانت "الحرية والتغيير" رأس حربة بمواجهة نظام البشير (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

قبل عام، نفّذ عسكر السودان انقلاباً على السلطة المدنية. فشل الانقلابيون في تحقيق معظم أهدافهم، لكنهم نجحوا في أمر وحيد، هو تقسيم القوى السياسية في البلاد التي قادت الثورة على نظام عمر البشير، مستفيدين من التباينات بين هذه القوى، والتي كانت قد بدأت تظهر منذ إطاحة نظام البشير.

في العام 2018، تواثقت القوى السياسية السودانية على إسقاط نظام الرئيس عمر البشير، وشكلت تحالفاً عريضاً تحت مسمى قوى إعلان الحرية والتغيير. ضمّ التحالف يومها غالبية الأحزاب المعارضة، ومعهم الحركات المتمردة التي تقاتل النظام في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وتألفت بشكل أساسي 4 تحالفات رئيسة هي: نداء السودان، وقوى الإجماع الوطني، والتجمع الاتحادي المعارض، وتجمع المهنيين السودانيين. وقادت "الحرية والتغيير" الحراك الثوري وأوصلته في 11 إبريل/نيسان 2019 إلى نقطة سقوط نظام البشير بعد الانحياز الظاهري لقادة الجيش لمطالب الحراك الثوري.

تصدعات في جسد "الحرية والتغيير"

منذ اليوم الأول لنجاح الثورة، بدأت التصدعات تظهر على جسد تحالف الحرية والتغيير. فقد تحفظت حركات الكفاح المسلح على الخطوات التي تمّت في إطار التفاوض بين "الحرية والتغيير" والمجلس العسكري الانتقالي لتشكيل هياكل السلطة الانتقالية. ووصل ذلك إلى درجة اتخاذ الحركات قراراً بالتفاوض بصورة منفردة مع العسكر لوقف الحرب، وتحقيق السلام، والمشاركة في السلطة الانتقالية.

بدأت التباينات تظهر بين قوى الثورة، منذ إطاحة نظام البشير

وبمرور الوقت حدثت خلافات أخرى، وصلت إلى حدّ تجميد حزب الأمة القومي، أكبر الأحزاب المعارضة، لعضويته في تحالف الحرية والتغيير قبل أن يعود للعمل معهم مرة أخرى في العام 2021. وبعد حزب الأمة القومي، انشق تجمع المهنيين السودانيين لفصيلين، وأخيراً، وفي نهاية 2020، انسحب الحزب الشيوعي كلّياً من التحالف وتبعه تجمع المهنيين.

مع بداية ظهور إرهاصات إعداد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للانقلاب، حاول تحالف الحرية والتغيير لملمة أطرافه بطرحه ميثاقاً سياسياً للوحدة من جديد في سبتمبر/أيلول 2021. وسعى التحالف يومها إلى إصلاح هياكله الداخلية، بما يستوعب التناقضات والخلافات، وعملية اتخاذ القرار الداخلي، ودعم حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك التي كان يسيطر عليها التحالف بنسبة كبيرة.

موقف
التحديثات الحية

لكن تلك المحاولات قُوبلت بالصدّ، سواء من قبل الحركات المسلحة الموقعة في 2020 على اتفاق سلام مع الحكومة، والتي انشقت من التحالف وشكّلت جسماً موازياً باسم الحرية والتغيير - التوافق الوطني، أو من جانب القوى السياسية الأخرى، مثل الحزب الشيوعي وواحد من فصيلي تجمع المهنيين السودانيين.

3 كتل متباينة الأهداف

عقب تنفيذ الانقلاب في 25 أكتوبر 2021، وجدت ذات القوى السياسية التي توحدت في إطار تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير من أجل إسقاط البشير، نفسها منقسمة إلى ثلاث كتل رئيسية، لا يوجد ما يجمعها.

الكتلة الأولى، هي كتلة الحرية والتغيير - التوافق الوطني، وهي كتلة تمكن المكون العسكري من استمالتها إلى صفّه قُبيل تنفيذ الانقلاب، ونفذ عبرها في سبتمبر 2021 اعتصاماً بمحيط القصر الرئاسي للمطالبة بتدخل الجيش لحلّ حكومة حمدوك، وإقصاء قوى إعلان الحرية والتغيير عن المشهد السياسي كلياً. ومثلت الكتلة خلال الأشهر الماضية حاضنة سياسية للانقلاب، ودافعت عنه سياسياً وإعلامياً، تحت مزاعم تصحيح مسار الثورة.

ويشعر التحالف الذي يعتمد أساساً على الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، وأبرزها حركة العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان بقيادة أركو مناوي، بقلق بالغ من التحركات الحالية نحو التسوية بين العسكر وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير. وتتعزز هذه المخاوف بعد ما رشح عن التسوية من توجه لإقصائهم من مناصبهم في الحكومة التي احتفظوا بها حتى بعد الانقلاب.

إعلان ميثاق كتلة "الحرية والتغيير" المنشقة، أكتوبر2021 (أشرف الشاذلي/فرانس برس)
إعلان ميثاق كتلة "الحرية والتغيير" المنشقة، أكتوبر2021 (أشرف الشاذلي/فرانس برس)

ويحاول هذا التحالف بقدر المستطاع إفشال التسوية، مع الإبقاء على تحالفه مع العسكر، وفي الحد الأدنى يسعى إلى عدم المساس باتفاقية السلام ومكاسبهم فيها. وتكتيكهم في ذلك، التهديد والتلويح بالعودة للحرب. لكن وبحسب مصادر تحدثت مع "العربي الجديد"، فإن التحالف يتعرض لضغوط كبيرة من المجتمع الدولي للقبول بالأمر الواقع المستجد.

أما الكتلة الثانية، فهي كتلة قوى إعلان الحرية والتغيير، والمتحمسة بشكل لافت لما تسميه العملية السياسية لإنهاء الانقلاب وترفض إطلاق اسم التسوية عليها. وتسعى الكتلة عبر مشروع الدستور الانتقالي لنقابة المحامين، الذي طرح في سبتمبر الماضي، إلى تحقيق أهداف ترضي الشارع الثوري.

وعلى رأس هذه الأهداف، إعادة العسكر إلى الثكنات، وتشكيل سلطة مدنية على مستوى مجلس السيادة ومجلس الوزراء، والمواصلة في مشاريع تفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير، والحيلولة دون عودته إلى مفاصل السلطة باعتباره الخصم الرئيس لها. ويضاف إلى ذلك مساعيها للاحتفاظ بحق ترشيح رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة.

تمكن العسكر من استمالة كتلة من قوى الحرية والتغيير، تشعر اليوم بقلق من فرص التسوية

ومن اللافت أن هذا التحالف الذي يضم كلاً من حزب الأمة القومي، والتجمع الاتحادي، والمؤتمر السوداني، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزابا أخرى صغيرة، نجح في الفترة الأخيرة في ضمّ حزب المؤتمر الشعبي، الذي كان يتزعمه الراحل حسن الترابي والحزب الاتحادي الأصل، لمواقفه الداعمة للتسوية السياسية. كما حصل تحالف قوى الحرية والتغيير على دعم من جماعة أنصار السنة، وهي واحدة من الجماعات الدينية ذات الثقل الكبير وتحمل رمزية يحتاجها التحالف المتهم من قبل خصومه بمعاداة التوجهات الدينية في السياسة.

في المقابل، ربما يفقد التحالف بعض أحزابه، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي أو حركة القوى الحديثة التي ترفض حالياً عملياً التسوية الجارية بشكلها الحالي، ما لم تتضمن نصوصاً تُبعد قادة الانقلاب نهائياً عن أي موقع ولو كان في مجلس الأمن والدفاع.
الكتلة الأخيرة، هي التي أطلقت عل نفسها اسم "التحالف الجذري"، بقيادة الحزب الشيوعي، ويعتمد فيها بالأساس على النقابات ولجان المقاومة السودانية. ويرغب "الشيوعي" في انضمام الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور إلى تحالفه. 

وتقوم فكرة الكتلة على رفض أي تفاوض أو مساومة مع العسكر، مع تحريك العمل الجماهيري بقوة لإسقاط الانقلاب وإعداد برامج لإحداث تغيير جذري سياسي واقتصادي واجتماعي. ولا يقف هذا التحالف في تبرير رفضه عند عدم جدوى التسوية داخلياً وحسب، بل يتعداه برفضه التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السياسي الداخلي.

تسعى كتلة قوى إعلان الحرية والتغيير عبر مشروع الدستور الانتقالي لنقابة المحامين، إلى تحقيق أهداف ترضي الشارع الثوري

ويتهم "التحالف الجذري" دولاً بأنها تعمل بالنسبة للمسألة السودانية على تحقيق مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. كما كرّر في أكثر من مناسبة مطالبه بسحب القوات السودانية التي تعمل في السعودية واليمن ضمن تحالف استعادة الشرعية، ويرفض في ذات الوقت، إقامة أي قواعد عسكرية في ساحل البحر الأحمر.

يقول مدني عباس مدني، والذي شغل منصب وزير التجارة والصناعة في حكومة حمدوك، في حديث مع "العربي الجديد"، إن المعركة السياسية في وجه العسكر بدأت قبل شهر من الانقلاب، بعد خطابهم عقب محاولة انقلابية فاشلة في 21 سبتمبر من العام الماضي، وكذلك عقب سعي العسكر لبناء حاضنة سياسية موازية لقوى الحرية والتغيير، لا سيما أن قوى "الحرية والتغيير" بدأت يومها الحديث عن وجوب تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين بموجب الوثيقة الدستورية.

ويستطرد مدني أنه "مع اقتراب لحظة الانقلاب، لم تمتلك القوى المدنية غير سلاح حشد الشارع وشرح الموقف للبعثات الدبلوماسية، وتنفيذ حملة إعلامية". وينبّه إلى أنه في ذلك الوقت، كانت توجد فجوة بين قوى الحرية والتغيير والشارع نتيجة لتجربتها في الحكم خلال العامين السابقين.

ويوضح الوزير السابق أن الانقلابيين اعتقلوا عدداً من قادة الأحزاب اعتقاداً منهم بأن هذا الفعل سيُضعف مقاومة الانقلاب، لكن لجان المقاومة سدّت الفراغ وحرّكت الشارع بقوة لإيقاف مسار الانقلاب.

ويلفت مدني إلى أن "اللجان برزت كصوت وحيد للعمل المقاوم وتماهت القوى السياسية مع توجهاتها حتى نهاية العام الماضي، قبل بروز أصوات داخل القوى المدنية تطالب باستخدام الأدوات السياسية لإنهاء الانقلاب حتى وصلنا إلى المرحلة الراهنة". وبرأيه، فإن هذا التطور زاد الشقاق بين قوى الثورة وأضعف فكرة وجود جبهة مدنية موحدة ضد الانقلاب، وفشلت كل الجهود في هذا المضمار نتيجة غياب الثقة. ويُضاف إلى ذلك، برأيه، الاعتقاد بضعف الانقلاب ونظر البعض إلى معارك ما بعد سقوطه والسيطرة على المشهد المستقبلي كنوع من الطمع السياسي.

ويعتبر مدني أن كل ذلك قاد إلى إطالة أمد الانقلاب على الرغم من ضعفه وعزلته، إذ استفاد من انقسام القوى المدنية لفكّ عزلته وتسويق نفسه للمجتمع الدولي كجزء من الحل.

من جهته، يرى المتحدث الرسمي باسم قوى إعلان الحرية والتغيير، شهاب إبراهيم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن تشرذم قوى الثورة أطال أمد الانقلاب العسكري الذي ما كان له أن يُكمل عامه الأول لولا الخلافات والتباينات الثورية. ويشير إلى أن القوى الثورية استهلكت الكثير من الوقت بحثاً عن الوحدة الكاملة أو التنسيق على الحد الأدنى.

3 مراحل للمعركة

ويوضح إبراهيم "أن الحرية والتغيير من جهتها أدارت معركتها مع العسكر على ثلاث مراحل: الأولى خلال الفترة الأولى من عمر الانقلاب واستخدمت فيها خطاباً مضاداً لخطاب الانقلاب القائم على التخوين والاتهامات الباطلة. كما نظمت مع الآخرين الحراك الجماهيري المناهض للانقلاب ما أفقده شرعيته تماماً خصوصاً ما يتعلق بحديثه عن أنه داعم ومنحاز للثورة". ويبين أن "واحداً من أهم شعارات تلك المرحلة الأولى هو اللاءات الثلاث، أي لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية".

ويوضح إبراهيم أنه في المرحلة الثانية، شرعت قوى الحرية والتغيير في وضع تصورات واقعية للحل السياسي بما يلبي تطلعات الشارع. وبرأيه، فإن ذلك "أسهم في أن تتفهم كثير من القوى المناهضة للانقلاب مواقف الحرية والتغيير".

ترفض كتلة التحالف الجذري أي تفاوض أو مساومة مع العسكر

أما في المرحلة الأخيرة، فيلفت إبراهيم إلى أن "الحرية والتغيير ارتضت الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع العسكر لإنهاء الانقلاب بطريقة تحقق أهداف الثورة السودانية وتحقق في ذات الوقت الإصلاح الأمني والعسكري كهدف استراتيجي". ويشير إلى أن "المرحلة الثالثة اتسمت بقدر كبير من الشجاعة والشفافية والطرح الموضوعي، عبر مسودة الدستور الانتقالي لنقابة المحامين السودانيين والتحاور مع لجان المقاومة وأسر الشهداء". ويؤكد المتحدث باسم قوى إعلان الحرية والتغيير، أن "الحرية والتغيير تسعى الآن بكل ما أوتيت من قوة لأن يكون الحل السياسي مرضياً للحركة الجماهيرية".

ويلفت إبراهيم إلى أن إدارة المعركة مع العسكر أثمرت نتائج إيجابية بتجريد الانقلاب من أي دعم داخلي وخارجي وكشفت الغطاء عن تناقضاته الداخلية، وعملت على الحيلولة دون حدوث صدام بين الجيش و"الدعم السريع". ويشير إلى أن ذلك الصدام كان محتملاً حسب كل القراءات.

في موازاة ذلك، يستبعد ابراهيم "حدوث تصدعات في تحالف الحرية والتغيير، سواء بسبب العملية السياسية مع العسكر أو خلافه، لأن التحالف، ورغم تعدد وتنوع مدارسه الفكرية والسياسية، قادر على إدارة تلك الخلافات، وحرص في الفترة الأخيرة على إدارة حوارات شملت مكونات سياسية واجتماعية في العاصمة والولايات".

لكن القيادي في الحزب الشيوعي حسن عثمان، يرى في حديث مع "العربي الجديد"، أن رؤية حزبه وكل قوى "التغيير الجذري" تختلف كلياً مع الرؤى الأخرى، ليس بعد الانقلاب، ولكن منذ 11 إبريل 2019 (تاريخ عزل الجيش للبشير). ويوضح أن الحزب اعتبر ما حدث في ذلك اليوم انقلاباً نفذته اللجنة الأمنية لنظام البشير، وبالتالي فإن ما تلاه هو امتداد للنظام البائد بما في ذلك أيام حكومة حمدوك حيث بقي النظام بكل أدواته المعروفة.

ويؤكد عثمان لـ"العربي الجديد"، أن ما يسميها "قوى الهبوط الناعم"، سعت خلال العام الماضي إلى إبرام تسوية سياسية للتغطية على الانقلاب بغلاف مدني. ويتمسك بـ"أهمية التغيير الجذري للانعتاق من التبعية اليمينية والتبعية الطائفية والتبعية للمحاور الإقليمية والدولية".

ويلفت إلى أن "قوى التغيير الجذري ماضية في نقاشات عميقة مع القوى السياسية والمجتمعية وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية بقيادة الحلو لبناء سودان جديد ليس فيه مكان للمليشيات مثل الدعم السريع والحركات المسلحة".
وبرأي عثمان، فإن "المعركة طويلة مع الانقلاب وتحتاج إلى تضحيات وتطور الحركة الجماهيرية الاحتجاجية الحالية وصولاً للإضراب السياسي والعصيان المدني لقفل الطريق أمام الانقلاب العسكري، وكل الانقلابات في المستقبل".