في خطوة مفاجئة، بعد أيام قليلة من تفاقم الخلاف بين أركان الهيئة العليا للمفاوضات السورية، علّقت السعودية عمل موظفي الهيئة على أراضيها، وذلك قبيل أيام قليلة من انعقاد جولة خامسة من مفاوضات اللجنة الدستورية مع النظام السوري. علماً أن الهيئة تتخذ من الرياض مقراً لها منذ تأسيسها أواخر عام 2015. وفيما تثير هذه الخطوة مخاوف على تماسك الهيئة، فإن القلق الأبرز هو من انعكاساتها على أعمال اللجنة الدستورية بما قد يهدد مسارها، وهو ما سيصب مباشرة بمصلحة النظام السوري، الذي يسعى لإجراء انتخابات رئاسية في منتصف العام الحالي لإبقاء بشار الأسد في سدة الحكم لسبع سنوات إضافية.
وأعلنت وزارة الخارجية السعودية عزمها على تعليق عمل هيئة المفاوضات في نهاية الشهر الحالي، من خلال مذكرة أرسلتها إلى مقرّ الهيئة، التي تتخذ من الرياض مقراً لها. وجاء في مرفق لمذكرة الخارجية السعودية أنه "على ضوء استمرار تعطيل أعمال هيئة التفاوض السورية، فقد تقرر تعليق عمل موظفي الهيئة مع نهاية يناير/ كانون الثاني 2021، وذلك إلى حين استئناف الهيئة أعمالها".
بدأت الخلافات بعد اعتماد هيئة المفاوضات الجناح الذي يقوده فراس الخالدي ممثلاً عن منصة القاهرة
وتأتي الخطوة السعودية بعد أيام قليلة من تفاقم خلاف داخل الهيئة، وصل صداه إلى الأمم المتحدة، بسبب رفض 3 أجنحة فيها، هي هيئة التنسيق الوطنية، ومنصة موسكو، وشخصيات من منصة القاهرة، لقرارات صادرة عن اجتماعات وصفتها بـ"غير الشرعية للهيئة"، تضمّنت "مخالفات قانونية". وذهبت المكونات الثلاثة أبعد من ذلك، بتأكيدها أن هذه القرارات "تهدد وحدة اللجنة الدستورية"، وفق ما جاء في مذكرة رفعتها إلى المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن يوم 13 من الشهر الحالي، طالبت من خلالها بالتصرف سريعاً، والدفع نحو التوافق ضمن هيئة المفاوضات. وأرسلت المكونات الثلاثة نسخاً من الرسالة إلى كل من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونظيريه السعودي فيصل بن فرحان، والمصري سامح شكري.
وكانت الخلافات قد بدأت بعد اعتماد هيئة المفاوضات الجناح الذي يقوده فراس الخالدي ممثلاً عن منصة القاهرة، فوافقت على طلبه استبدال قاسم الخطيب، وهو عضو هيئة المفاوضات وعضو اللجنة الدستورية، ليحلّ مكانه نضال محمود الحسن عضواً في الهيئة، وتليد صائب عضواً في اللجنة الدستورية، وهو ما استدعى اعتذاراً من جمال سليمان، ممثل منصة القاهرة في الهيئة، عن حضور الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية، المقررة الإثنين المقبل. كما اعترضت منصة موسكو على استبعاد ممثلها مهند دليقان عن اللجنة، وهو ما يفتح أمام اعتذار هذه المنصة عن الجولة المقبلة من اجتماعات "الدستورية".
ويبدو أن هيئة التنسيق الوطنية، والتي يُنظر إليها باعتبارها ممثلة لمعارضة الداخل، اصطفت إلى جانب منصتي موسكو والقاهرة في الخلاف الذي سيلقي بظلاله على المرحلة المقبلة من مسيرة المعارضة السورية، التي تبدو على مفترق طرق في ظل تعاطٍ إقليمي ودولي غير مجدٍ مع القضية السورية، التي تنهي عامها العاشر في منتصف مارس/ آذار المقبل.
وتؤكد المذكرة السعودية، التي وزعتها هيئة المفاوضات مساء الأربعاء الماضي، أن الرياض اختارت الوقوف مع المنصات السياسية المعارضة للائتلاف الوطني السوري. وأوضح عبد المجيد بركات، عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني، وهو المكون الرئيسي في الهيئة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن القرار السعودي يتعلق بوضع الموظفين في مقر الهيئة "وعددهم قليل"، مشيراً إلى أن القرار "يعكس رغبة الرياض بتفعيل عمل الهيئة بشكل حقيقي". وأوضح أن وزارة الخارجية السعودية أرسلت للهيئة المذكرة التي تلقتها من هيئة التنسيق ومنصتي القاهرة وموسكو، والتي تطعن بقرارات الهيئة، مضيفاً: "هناك خلافات داخل الهيئة انعكست على أدائها".
بركات: القرار يعكس رغبة الرياض بتفعيل عمل الهيئة بشكل حقيقي
وبيّن بركات أن "خطورة القرار السعودي سببها أنه يأتي قبيل الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية"، مضيفاً: "هذا الأمر يضعف ثقة اللجنة بوفد المعارضة السورية المنبثق من هيئة التفاوض". وأكد أن الائتلاف الوطني "يحاول تحييد اللجنة الدستورية عن المناكفات السياسية"، مضيفاً: "هناك رغبة من بعض مكونات هيئة المفاوضات بتعطيل عمل هذه الهيئة". وتابع "ما تقوم به منصتا القاهرة وموسكو وهيئة التنسيق محاولة للضغط على باقي المكونات، وخصوصاً الائتلاف، لتمرير مسألة تمثيل المستقلين في الهيئة، إذ رفض الائتلاف قبول أسماء في الهيئة، عقب اجتماع جرى أواخر 2019 في الرياض، يرى الائتلاف أنه لم يكن شرعياً".
وتعود العلاقة السياسية المباشرة بين المعارضة السورية والسعودية إلى أواخر عام 2015، حين استضافت مؤتمر "الرياض 1" والذي ضم أغلب تيارات وشخصيات المعارضة السورية، والذي انبثقت عنه الهيئة العليا للمفاوضات في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول 2015، لتتولى مهمة التفاوض مع النظام في المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي لم تحقق أي تقدم. وفي أواخر 2017، استضافت العاصمة السعودية مؤتمر "الرياض 2"، والذي أجرى تغييرات كبيرة على بنية هيئة المفاوضات، بإدخال منصتي موسكو والقاهرة فيها، واستبعاد أغلب الشخصيات التي كان لها وزن لها في مشهد المعارضة السورية، وأبرزهم رياض حجاب الذي ترأس الهيئة في الدورة الأولى.
وانعكس التنافس الإقليمي في الملف السوري على المعارضة التي تبدو اليوم أسيرة أجندات تخص الدول الفاعلة في القضية السورية، إذ يتماهى الائتلاف الوطني مع السياسة التركية، بينما تبدو هيئة التنسيق ومنصتا القاهرة وموسكو قريبة من الرؤية الروسية حول الحل، والتي تحاول تجاوز القرارات الدولية ذات الصلة.
وتصب خلافات مكونات هيئة المفاوضات في مصلحة النظام الذي لطالما خلق العراقيل أمام الأمم المتحدة لعدم التوصل إلى حل سياسي. ويمكنه اليوم اتخاذ هذه الخلافات ذريعة لشراء الوقت، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية التي ينوي إجراءها بعد بضعة أشهر، وفق دستور 2012، لضمان استمرار بشار الأسد في السلطة لسبع سنوات مقبلة، وهو ما يجعل من العملية السياسية برمتها بلا قيمة.
وأبدى المبعوث الدولي إلى سورية غير بيدرسن تشاؤمه من مآلات العملية السياسية في سورية. وقال في إحاطته، الأربعاء الماضي، أمام مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الشهري حول سورية: "لا توجد محادثات سياسية بين السوريين إلا على المسار الدستوري، والانتخابات الحرة والنزيهة التي ستجرى بموجب دستور جديد، تحت إشراف الأمم المتحدة، على النحو الذي ينص عليه قرار مجلس الأمن 2254، تبدو بعيدة في المستقبل". وأضاف بيدرسن "لكن الصراع دولي للغاية، إذ تنشط خمسة جيوش أجنبية في سورية. لا يمكننا التظاهر أن الحلول في أيدي السوريين فقط، أو أن الأمم المتحدة يمكنها أن تفعل ذلك بمفردها". وعُقدت 4 جولات من اجتماعات اللجنة الدستورية لم تثمر عن شيء، بل إن الوفود المشاركة لم تناقش حتى الآن "المبادئ الدستورية"، وهو ما يخفض سقف الآمال بتحقيق تقدم في الجولة المقبلة.
أبدى بيدرسن تشاؤمه من مآلات العملية السياسية في سورية
وأشار الباحث السياسي في مركز "جسور" للدراسات وائل علوان، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى "أن هناك خلافات دائمة ومستمرة بين أطياف المعارضة السورية ومجموعاتها، وهو أمر طبيعي". وأشار إلى "أن هناك أسباباً داخلية ضمن صفوف المعارضة السياسية، بمختلف أطيافها، تؤثر على عملها ودورها في الدفاع عن الشعب السوري، كما تؤثر بشكل أو بآخر على مساعي الدول المدافعة عن المعارضة السورية". وأعرب عن اعتقاده بأن الخلافات المستمرة منذ مطلع 2020 "تشير بشكل أو بآخر إلى العطالة المستمرة في هيئة التفاوض"، مضيفاً: "ربما هي (الهيئة) على مفترق طرق الآن، بين الوصول إلى رؤية مشتركة للعمل أو أن تنتهي فعلياً، وعندها سيضطر المجتمع الدولي للتعامل مع اللجنة الدستورية في مفاوضات أشمل من نقاش الدستور فقط".
ورأى علوان أن "معظم مجموعات وأطياف المعارضة تُحسب على مواقف الدول الإقليمية التي أصبح هامش نفوذها السياسي، وغير السياسي، أكبر وعلى حساب القرار الداخلي في المعارضة". وأشار إلى أن "قضية التمثيل والتوازن إحدى إشكالات هيئة التفاوض ومكوناتها بعيداً عن حقيقة التمثيل للحراك الثوري، أو الشارع المعارض الذي يختلف الفرقاء في تمثيله، وجميعهم يعاني أساساً من ضعف التواصل معه، فضلاً عن أن يكون ممثلاً حقيقياً له". واعتبر أن "هناك توجهاً لدى منصة القاهرة وهيئة التنسيق ومنصة موسكو لإعادة هيكلة الجسم التمثيلي للمعارضة، بحيث تتساوى بين الدول المؤثرة في القرار السوري".