مثلت الرياضة مساحة اشتباك دائم بين المشروع الصهيوني والثورة الفلسطينية، سعت الأولى إلى رسم جذور اصطناعية لها في الأرض عبر الرياضة، وتثبيت إسرائيل كدولة كاملة المعالم، رياضياً وسياسياً، بينما سعت الثانية إلى تحقيق هدفين واضحين: أولاً؛ تجسيد الرياضة للكيانية الوطنية الفلسطينية، عبر نيل اعترافات قارية ودولية بالاتحادات الفلسطينية وضمان حضور لاعبيها المنافسات الدولية كافة، وحصار إسرائيل وطردها من الاتحادات القارية والدولية، على اعتبارها كيانا محتلا غير شرعي ثانياً.
احتدم الاشتباك في سبعينيات القرن الماضي، بعد إنشاء مؤسسة ناظمة للشباب والرياضة في منظمة التحرير، وتوالي دخول الدول العربية والإسلامية في اتحادات آسيا، إلا أن الرياضة وظفت مبكراً في الصراع من قبل الحركة الصهيونية والنخبة السياسية الفلسطينية والاحتلال البريطاني، كل بطريقته.
لم تكن الرياضة غائبة عن المشروع الصهيوني منذ بدايات تركزه في فلسطين، إذ عمدت الحركة الصهيونية إلى تنظيم أولمبياد خاص بالفرق التي تمثل اليهود حول العالم، التي كانت تعرف بأندية "المكابي"، وفي خضم تقييد الهجرة إلى فلسطين أواسط ثلاثينيات القرن الفائت، كانت بطولات" المكابيات" غطاءً سمح بإدخال عشرات آلاف الشباب، الذين لم يغادروا بعد انتهاء بطولتهم، بل كانوا عصب العصابات الصهيونية المسلحة؛ الأرغون والهاغاناه.
أما فلسطينياً، فكانت بدايات المؤسسات الرياضية مبكرة أيضاً، فكان النادي العربي في القدس من أوائل الأندية التي تأسست بصبغة سياسية قومية، حمل أدواراً سياسية مرتبطة بالمشروع القومي العربي، وأخرى مرتبطة بمناهضة المشروع الصهيوني، على سبيل المثال، وقف رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحسيني وكبار الشخصيات الوطنية، في العام 1929، على شرفة النادي، خاطبوا الجماهير الغاضبة بحماسة، كأول انطلاقة مركزية لهبة البراق، فيما كان الحاج أمين الحسيني من أهم مؤسسي هذا النادي، الذي احتضن ملتقى الشبيبة العربية في فلسطين، وحمل شعار "الأرض لنا"، كما ظهر النادي الأدبي، الذي لعب أيضاً دوراً سياسياً بارزاً، وأفرز مع النادي العربي نواة النخبة السياسية الفلسطينية لاحقاً.
بقي الاشتباك الرياضي الإسرائيلي الفلسطيني- المدعوم عربياً- محتداً حتى نهاية السبعينيات، كان لا يقل عن معركة يتنقل فيها المتحاربون من بطولة إلى بطولة
بتواطؤ بريطاني؛ نجحت إسرائيل في اختطاف تمثيل المؤسسة الرياضية في فلسطين الانتدابية، استحوذت الحركة الصهيونية على الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم مع تأسيسه عام 1928، إذ أقصت الفرق العربية وشكلت مجالس إدارة من اليهود، رغم احتجاجات الفلسطينيين الرسمية للفيفا، ومطالباتهم والعرب بتأسيس اتحاد فلسطيني مستقل، أو تصحيح مسار الاتحاد القائم على الأقل، إلا أن هذه الجهود دوماً ما كانت تصطدم بالحضور الصهيوني القوي في الاتحاد الدولي، الذي نجح في عرقلة جهود انضمام الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم إلى الاتحاد الدولي حتى تسعينيات القرن الماضي.
بعد تأسيس منظمة التحرير؛ بدأ التنبه لأهمية الرياضة في معركة التحرر الوطني بوقت متأخر نسبياً. في العام 1969، تأسس المجلس الأعلى للشباب والرياضة، الذي بدأ معركة متواصلة لتثبيت الكيانية الفلسطينية عبر الرياضة، من خلال الحضور في المحافل الإقليمية والقارية والدولية، ومواجهة الحضور الإسرائيلي دولياً، التي كانت من جهتها قد أسست شبكة مناصرين منخرطين في كثير من الاتحادات الدولية، ومنها الاتحاد الدولي لرفع الأثقال وكمال الأجسام.
في الثالث عشر من سبتمبر/أيلول عام 1974؛ افتتح الاتحاد الآسيوي لرفع الأثقال وكمال الأجسام مؤتمره في مانيلا، وبعد كلمة رئيس الاتحاد الآسيوي بختوري رانا، وتلاوة التقارير الإدارية والمالية، تأتي كلمة سكرتير الاتحاد الدولي لرفع الأثقال أوسكار ستايت، الذي طالب باستبعاد فلسطين من البطولة والمؤتمر: "هي ليست دولة وشعبها ليس له وجود". وقف رئيس الوفد الفلسطيني وقدم اعتراضه، مؤكداً شرعية الكيان المعنوي للشعب الفلسطيني؛ منظمة التحرير، واستنكر ما تقدم به المسؤول الدولي الرفيع، الذي وصفه الوفد الفلسطيني لاحقاً بالصهيوني.
وسط أخذ ورد، أقر المتحدث باسم الاتحاد الفيليبيني للعبة طلب الاتحاد الدولي من خارجية بلاده منع الوفد الفلسطيني من الدخول والمشاركة أو إلغاء البطولة كاملة، إلا أن رئيس الاتحاد الفيليبيني كان قد خالف موقف خارجية بلاده، حين خاطب الفلسطينيين في رسالة سابقة قائلاً، "احضروا إلى مانيلا ولو سباحة".
مع فشل جهود ستايت، حاول إغراء الوفد الفلسطيني عندما عرض عليهم 50 ألف دولار مقابل الانسحاب، وسط استهجان ورفض مطلق من الجانب الفلسطيني، هنا تدخل رئيس الاتحاد الآسيوي الذي خاطب ستايت: "لن نسمح لأحد بالعبث في نظامنا الداخلي، سيشارك وفد فلسطين شئتم أم أبيتم"، لكن ستايت صعد من خطابه متسلحاً بوزارة الخارجية الفيليبينية، وعاد ملوحاً بإلغاء البطولة، فأعلن الوفد الفلسطيني تكفله بإقامة البطولة واستضافة كاملة وعلى نفقته.
اتصل الوفد الفلسطيني بالقنصلية المصرية طالباً تدخلها وحماية الوفد، بالفعل؛ تدخلت مصر دبلوماسياً، ووقفت الوفود العربية إلى جانب الموقف الفلسطيني. في المقابل؛ بدأت حملة إعلامية إسرائيلية منظمة تظهر في وسائل الإعلام الفيليبينية، تطالب بمنع المشاركة الفلسطينية، على التوازي مع جهد إسرائيلي دبلوماسي للسماح لوفد إسرائيلي مقابل بالمشاركة، لكن الجهود العربية نجحت في تثبيت الحضور الفلسطيني ومنع المشاركة الإسرائيلية، كما استمرت الجهود حتى العام 1978، حينها توجت بطرد إسرائيل من الاتحاد الآسيوي، بعد أن رفض الأخير تهديد الاتحاد الدولي بمعاقبة المشاركين في البطولة القارية إن لم تشترك إسرائيل.
انتكاسة الجهود الإسرائيلية في الفيليبين توازت مع ضربة عربية قاتلة للكرة الإسرائيلية كانت تعد في ماليزيا. ففي حين كان الكونغرس الآسيوي لرفع الأثقال وكمال الأجسام يجتمع في مانيلا، كان كونغرس الاتحاد الآسيوي لكرة القدم يناقش تجميد عضوية إسرائيل في الاتحاد بكوالالمبور. ورغم أن إسرائيل كانت دولة مؤسسة في الاتحاد الآسيوي عام 1954، استحوذت على بطولاتها لعقدين، إذ حاز منتخبها على البطولة القارية مرة واحدة من أصل ثلاث مناسبات وصل فيها إلى النهائي، فيما حازت أنديتها على دوري أبطال القارة في ثلاث مناسبات أيضاً، إلا أن ظهور الكويتي أحمد السعدون وقيادته جهودا عربية وإسلامية لإقصاء إسرائيل من الاتحاد، قد بدل الأحوال.
بدأت أولى خطواتها العملية في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول عام 1974، حين تقدم السعدون بطلب تجميد عضوية إسرائيل، وسط انضمام مزيد من الدول العربية إلى الاتحاد، وهذا ما حدث بعد عامين، إذ بقيت الكرة الإسرائيلية بلا اتحاد قاري حتى مطلع التسعينيات.
فلسطينياً؛ لعب المجلس الأعلى للشباب دور الناظم لقطاعي الرياضة والشباب، وحمل التمثيل والمشاركة ونقل القضية الوطنية عبر الرياضة على اعتبارها هدفاً مركزياً، استثمر المجلس علاقات منظمة التحرير مع المعسكر الاشتراكي والقوى الثورية في العالم من أجل تحقيق هذا الهدف، يمثل حصول فلسطين على عضوية الاتحاد الآسيوي للتنس مثالاً على ذلك.
في العام 1972؛ عقدت الصين الشعبية المؤتمر التحضيري لإنشاء الاتحاد الآسيوي للتنس، استثمر المجلس الأعلى فرصة عقد المؤتمر في دولة صديقة، توجه وفد فلسطيني إلى بكين، يرأسه مدير عام المجلس، وانخرطت فلسطين في التحضيرات لتأسيس الاتحاد، وحصلت على صفة عضو مؤسس، بل قاد الدعم من الدولة المستضيفة إلى أن تترأس فلسطين لجنة تشكيل قيادة الاتحاد وتحصل على منصب نائب الرئيس.
في العام 1977؛ شاركت فلسطين في بطولة العالم للجودو والكاراتيه في اليابان، مع الافتتاح ودخول الوفود إلى ساحة المنافسات، لوح أحد أعضاء الوفد الإسرائيلي بعلمه بمشهد استفزازي، فنزع أحد لاعبي البعثة الفلسطيني علم إسرائيل من يد حامله؛ الذي كان على رأس الوفد الإسرائيلي، وألقاه أرضاً، لتشهد الساحة مطاردة بين الجانبين، بثت على التلفزيون الياباني مدة ربع ساعة. لاحقاً، منع الفلسطينيون من المشاركة في النسخ التالية لهذه البطولة، بعد ضغط إسرائيلي دبلوماسي كبير على الاتحاد الدولي.
بقي الاشتباك الرياضي الإسرائيلي الفلسطيني- المدعوم عربياً- محتداً حتى نهاية السبعينيات، كان لا يقل عن معركة يتنقل فيها المتحاربون من بطولة إلى بطولة، حتى العام 1982، حين تراجع الحضور الفلسطيني الدولي؛ رياضياً، وتراجع التضامن العربي المتصل بهذا الحضور متأثراً بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام، ومن ثم بالعدوان الإسرائيلي على لبنان، الذي قوض مؤسسات منظمة التحرير، وضمنها المجلس الأعلى للشباب والرياضة. لكن ذلك الاشتباك ترك آثاراً ما زال بعضها راسخاً في منظومة الرياضة الفلسطينية والعربية، أهمها بقاء بعض معاقل المقاطعة الرياضية، التي ترسخت في تلك الفترة، ثابتة حتى اليوم.