الرد الإيراني: المغزى والتداعيات

27 أكتوبر 2024
مؤتمر صحافي لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في دمشق 5 /10 /2024 (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في أكتوبر 2024، شنت إيران هجوماً صاروخياً على إسرائيل رداً على هجمات إسرائيلية واغتيالات لشخصيات بارزة، بهدف استعادة التوازن الإقليمي دون خسائر بشرية كبيرة.
- تزامنت الأحداث مع جهود دبلوماسية إيرانية لتهدئة التوترات مع الدول العربية، وتعزيز العلاقات مع حلفائها مثل حزب الله، الذي تعرض لضغوط إسرائيلية.
- تسعى إيران لتحقيق توازن بين الردع العسكري والتعاون الدبلوماسي، مع تجنب حرب شاملة قد تجر الولايات المتحدة، مما يضع المنطقة في حالة عدم يقين.

مع مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2024، أطلقت إيران نحو مائتي صاروخ بالستي وصلت إلى عمق الأراضي الإسرائيلية، واستهدفت وفق ما أعلنت طهران مواقع عسكرية إسرائيلية حساسة وحيوية، منها تجمعات القوات العسكرية الإسرائيلية في محور نتساريم الفاصل بين شمال قطاع غزّة وباقي مناطقه. جاءت "ليلة الصواريخ الإيرانية" رداً إيرانياً ثانياً على استهدف إسرائيل المتكرر لها ولحلفائها في الإقليم، من حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، إذ كانت "ليلة المسيرات" في إبريل/نيسان 2024 رداً إيرانياً على تفجير قنصلية طهران في دمشق، في ما جاءت ليلة الصواريخ رداً على سلسلة ضربات واجهتها طهران خصوصاً، والمحور عموماً، أبرزها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، أثناء وجوده في طهران، واغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله.

جاءت العملية الإيرانية بعد نحو شهرين من اغتيال هنية، وهي فترة وصفت بفترة الغموض الاستراتيجي، الذي أفضى إلى إرباك حسابات تل أبيب وواشنطن، لكن؛ وعلى الجانب الآخر، بدأ يظهر الشك بمتانة علاقة طهران مع حلفائها، ونيتها الانخراط في المواجهة، واستعادة التوازن الاستراتيجي إقليمياً، خصوصاً بعد ضربات إسرائيلية نوعية وجهت أساساً لحزب الله، كعمليتي البيجر والووكي توكي، اللتين شكلتا صدمةً وضربةً مؤلمةً للحزب وهياكله القيادية، وحالة إحباط في المحور عامةً، خاصةً في ما تلاها من استهدافات، شملت ضرب الحزب على مستوياته القيادية كلّها، العليا والوسيطة والميدانية، وكان أبرزها اغتيال نصر الله.

تجلى المشهد المرتبك في الأمم المتّحدة، إذ قدم بنيامين نتنياهو نفسه قائداً منتصراً يقاتل من أجل "شرق أوسط جديد" تعتليه إسرائيل، وتقود فيه التعاون الاقتصادي، والسيطرة الأمنية، مقابل هلال مظلم تمثله إيران وحلفاؤها، في ما قدم الرئيس الإيراني خطاباً هادئاً يتسق مع القانون الدولي، يدعو فيه للتعاون والسلم في الإقليم، وعزز هذا الخطاب بمقابلات إعلامية أوحى فيها بأن إيران تريد الاقتراب من الإقليم، وترغب بهندسة تعاون إقليمي إسلامي. وبهذا، بدا أننا أمام مشروعين متنافسين على الاستحواذ الإقليمي، كلٌّ بلغته وأدواته.

انعكاسات هذه المواجهة على دول الإقليم، مرتبطة على نحو واضح ومحدد بالرد الإسرائيلي، من حيث شكله وحجمه وطبيعته

حاولت إيران هندسة ردها ليحقق أهدافاً عدّة، من دون أن يتناقض وخطاب رئيسها، ودبلوماسيتها الحالية، ويبدو أن هذا الرد يشير إلى ملامح السياسة الإيرانية الإقليمية الجديدة، التي تقوم على التوازن بين الردع الإقليمي والتعاون، إذ أدى الرد إلى استعادة التوازن في الاشتباك بين طهران وتل أبيب، خاصّةً أن إسرائيل حاولت منذ بداية هذه الحرب الترويج لتفوق دفاعاتها أمام الهجمات الصاروخية، ويبدو أن طهران، ولتحقيق هذا الهدف، ذهبت إلى استهدافات عسكرية مركزة، رمت للوصول وكسر ادعاء التغليف، والحماية المطلقة إسرائيلياً، مع الحرص على عدم إلحاق خسائر بشرية تؤدي إلى نتائج عكسية، وتخرج طهران من مساحتها المحسوبة.

إلى جانب ذلك، أعادة طهران، بهذه الضربة، تأكيد الترابط مع حلفائها، والانتصار لهم، خصوصاً حزب الله، الحليف الأيديولوجي، الذي تلقى الضربات الحادة من تل أبيب، كما سمح هذا الرد للحزب بالتقاط الأنفاس، لمحاولة ترتيب أوراقه الداخلية، في ظلّ تشتت أولويّات تل أبيب في الأيام التي تلت الضربة.

على عكس ليلة المسيرات في إبريل 2024، لم يكن الخطاب السياسي والإعلامي التعبوي الإيراني، وإعلامها المساند في الإقليم حاداً تجاه الدول العربية، بل شهدت المنطقة في الأسابيع التالية للضربة زيارات مكثفة للرئيس الإيراني، ووزير خارجيته لدول المنطقة، خاصّةً دول الخليج والأردن، في محاولة لتحييد دول الإقليم عن الاشتباك الإيراني الإسرائيلي، ورغم توازي هذه الزيارات مع خطاب تحذيري، من الحرس الثوري الإيراني، لدول الخليج العربي تحديداً، من السماح بأي انخراط أميركي بالرد الإسرائيلي من أراضيها، إلّا أن الأساس البادي حتّى اللحظة هو مسار دبلوماسي هادئ، لا تأجيجي.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

لا يمكن اعتبار هذا المسار دبلوماسيةً إيرانيةً طارئةً، فخلال السنوات الماضية، شهدت العلاقات الإيرانية العربية، والخليجية تحديداً، شكلاً متراكماً من تطبيع العلاقات، والبحث في تعاون اقتصادي وسياسي إقليمي، لكن التحديث الذي فرضته الحرب منذ السابع من أكتوبر، وضع تحدياً كبيراً وضخماً أمام مسار كهذا، خاصّةً في ظلّ حساسيات العديد من الدول العربية، من أنصار الله في اليمن، وحزب الله في لبنان تحديداً.

تشير هذه الديناميكيات الإقليمية إلى أن إيران دولة ذات مشروع إقليمي، تكيف أدواتها وتحولات هذا المشروع، لا العكس، وهذا يعني أن طهران تقرأ علاقاتها الإقليمية من هذه الزاوية، فمن المفيد لها على سبيل المثال استثمار علاقتها بالعديد من الدول العربية القريبة من واشنطن، لضمان عدم انجرار الأخيرة نحو حرب إقليمية شاملة، ربما تسحبها تل أبيب إليها، وبهذا الإطار؛ من المقبول لطهران الاستجابة لقواعد لعبة منضبطة، تسمح لها بالرد الضابط للتوازن الإقليمي من جهة، وتحميها من رد فعل إسرائيلي- أميركي مدمر، يطيح مكونات مشروعها، ويعيد تجارب إقليمية قادت إلى تدمير دول مركزية كالعراق. هذا ما سمح بتجاوز الحدة في العلاقة مع بعض الدول المهمة في الإقليم، كالأردن، لتشهد الأسابيع الماضية تبادلاً للزيارات بين طهران وعمّان على مستوى وزراء الخارجية، وعدم انتقاد طهران للموقف الأردني بعدم السماح باستخدام أجوائها في هذه المواجهة.

من المهم هنا الإشارة أيضاً إلى توائم الدبلوماسية الإيرانية الراهنة مع تحولات في دبلوماسية العديد من اللاعبين الإقليميين، وعلى رأسهم السعودية، التي بدأت خلال السنوات الأخيرة في تصفير مشاكلها الإقليمية، والبحث عن نماذج تعاون تربطها مع اللاعبين المركزيين في الإقليم، إلى جانب تركيا التي حاولت اتباع الاستراتيجية ذاتها إقليمياً.

حاولت إيران هندسة ردها ليحقق أهدافاً عدّة، من دون أن يتناقض وخطاب رئيسها، ودبلوماسيتها الحالية، ويبدو أن هذا الرد يشير إلى ملامح السياسة الإيرانية الإقليمية الجديدة

من المهم هنا الانتباه إلى أن الصفحة الجديدة، بانعكاسات هذه المواجهة على دول الإقليم، مرتبطة على نحو واضح ومحدد بالرد الإسرائيلي، من حيث شكله وحجمه وطبيعته، ولن نكرر هنا تفصيل سيناريوهات الرد المتصلة باستهداف البرنامج النووي الإيراني، أو منشآت النفط، أو منشآت عسكرية حيوية، أو استهداف نوعي مركز "اغتيال مثلاً"، لكن نشير إلى أن كلّ رد إسرائيلي سيستدعي رد فعل مباشر، وفق ما أعلنت طهران، يتناسب وطبيعة الاستهداف. وهذا يرتبط بسؤال آخر حول الانخراط الأميركي في الرد الإسرائيلي، والدفاع من رد الفعل الإيراني، ومصدر هذا الفعل الأميركي إن حدث، وربّما نصب منظومات صواريخ ثاد الأميركية، وهي صواريخ دفاع جوي مخصصة لصد الاستهدافات البالستية، تشير إلى سخونة الاحتمالات المفتوحة في المرحلة المقبلة.

بين رغبة نتنياهو برد قوي وتدميري، يضرب المشروع النووي الإيراني، ويجر الولايات المتحدة إلى حرب تستهدف طهران استهدافاً مدمراً، وما بين الضوابط الأميركية، التي لا تريد الانزلاق نحو مواجهة إقليمية، قد تحمل آثاراً مدمرة على الإقليم والولايات المتّحدة على حدّ سواء، تأتي الانتخابات الأميركية مساحةً رماديةً، ليس من الواضح ما ستكون عليه القدرة الأميركية -السياسية- على ضبط تل أبيب ورد فعلها، لكن تبدو فعالية القنوات الخلفية بهذا المشهد، بين واشنطن وطهران، ما تزال عالية حتّى اللحظة.

من هنا، لا يمكن قراءة انعكاسات ليلة الصواريخ الإيرانية على الإقليم بالثابتة والناجزة، فهي ما تزال متحركة تتفاعل وستتفاعل أكثر، ما دامت هذه الحرب مفتوحة، ومرشحة للانزلاق، لتصبح إقليمية في أيّة لحظة، وهذا ما تسعى دول الإقليم المركزية، والخليجية على وجه الخصوص، إلى منعه وتفاديه، لكن قد تكون لتل أبيب كلمة أخرى، تغير المشهد على وقع انشغال واشنطن بانتخاباتها الداخلية في الأسابيع القادمة.

المساهمون