الرئيس التونسي يختم الدستور: نظام حكم جديد يحتكر السلطات دون محاسبة

18 اغسطس 2022
يبدأ سعيد في تركيز أسس نظام الحكم الجديد بعد ختم الدستور (Getty)
+ الخط -

ختم الرئيس التونسي قيس سعيّد الدستور الجديد، الذي سيضع به نظام حكم انتقده خبراء القانون الدستوري، كونه يؤسس لنظام رئاسي مختل التوازن لصالح الرئيس، دون أي رقابة أو محاسبة أو مساءلة.

وأعلن سعيّد، أمس الأربعاء، في خطاب بمناسبة إصدار الدستور بعد إعلان النتائج الرسمية النهائية من قبل هيئة الانتخابات، أنه سيتم في الفترة القادمة "وضع قانون انتخابي جديد"، و"إرساء المحكمة الدستورية للحفاظ على علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات بشكل خاص".

وتلتقي مواقف خبراء القانون الدستوري مع المواقف الحزبية والمدنية المعارضة في أنّ الدستور الجديد يكتسي خطورة بالغة، نظراً لدفعه البلاد نحو مرحلة محكمة بالاستبداد والحكم الفردي المطلق.

تكريس النظام الشمولي الاستبدادي

وعلّق رئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية وأستاذ القانون الدستوري، شاكر الحوكي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على خطاب سعيّد، مساء أمس الأربعاء، بالقول إنّ "سعيد يحتفي بمفرده بدستوره، الذي سيكرّس به نظامه الشمولي الاستبدادي، وهو دستور سيجعل منه حاكماً بأمره أعلى من الرؤساء في الأنظمة الرئاسية بصلاحيات سلطانية، فوق أي مراقبة أو مساءلة".

وبيّن الحوكي أن "هذا الدستور الذي تختل فيه التوازنات وتتركز فيه السلطات بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر تحت سلطة الرئيس في محاكاة لما عاشه التونسيون خلال فترة الاستثناء، فهو يسير بالبلاد نحو تقويض المؤسسات وإضعافها وتفكيك أسس الديمقراطية".

واعتبر الحوكي أنّ "سعيّد بعد دسترة الأمر 117 الذي علق به دستور 2014، يسارع لوضع نظام انتخابي جديد عبر مرسوم حتى يؤسس عبره مشروع النظام القاعدي، كما سيعين محكمة دستورية ليثبت بها نظامه الجديد".

ويحرص سعيّد على سنّ مرسوم خاص بانتخاب مجلس نواب الشعب الجديد والمجلس الأعلى للجهات والأقاليم، كما نص عليهما الدستور الجديد، حتى تشرع هيئة الانتخابات في الإعداد للانتخابات التشريعية المعلنة في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.

ويرجح خبراء القانون أن يتم تنظيم قانون الانتخابات بمراسيم وليس بقانون أساسي كما ينص عليه الدستور، باعتبار أنّ البرلمان المختص في التصويت على القوانين، لم يتم تشكيله بعد.

وحذر خبراء وسياسيون من ذهاب سعيّد نحو وضع قواعد اللعبة الانتخابية بمفرده دون تشريك أي طرف كما فعل عند كتابة الدستور، وبالتالي سيتيح ذلك له الذهاب في اتجاه نظام اقتراع قائم على الأفراد بدل القوائم، وترتيب آليات سحب الوكالة المنصوص عليها في الدستور، والتأسيس للنظام القاعدي الذي وعد به أنصاره، كما لم تستبعد أحزاب سياسية معارضة إقصاءها من خلال القانون الانتخابي، بوضع حواجز وموانع للترشح أمام قياداتها ومنتسبيها.

إلى ذلك، لا يخفي سعيّد حرصه على تعيين أعضاء المحكمة الدستورية وفق الدستور الجديد حتى يكتمل البناء الدستوري ويحصن نظام الحكم الجديد من أي انتقادات خارجية ببناء شكلي عبر جهاز موال له، ليس للمحكمة أن تراقب ممارسات الرئيس ولا أن تتصدى لانحراف أي سلطة عن احترام الدستور، بل ستختص في مراقبة دستورية القوانين بحسب ما فسره الخبراء.

واعتبرت أستاذة القانون الدستوري، هناء بن عبدة، في تصريح سابق لـ"العربي الجديد"، أنّ "المحكمة الدستورية حسب الدستور الجديد، من حيث تركيبتها ومدة عضوية القضاة واختصاصاتها لا تحقق الرقابة الدستورية اللازمة".

وفسرت بن عبدة نقاط ضعف المحكمة الدستورية الجديدة في أنّ "جميع أعضائها من القضاة المباشرين لأعمالهم دون اختصاصات أخرى؛ أي إنها محكمة دستورية لا تتضمن أي مختص في القانون الدستوري، فلا علاقة لقضاة محكمة المحاسبات والعدليين بالقانون الدستوري، وربما هناك بعض التقاطع بالنسبة للقضاة الإداريين مع فقه القضاء الدستوري".

وقالت إنّ "أبرز نقاط الضعف أنها محكمة معيّنة من رئيس الجمهورية الذي سيختار قضاة لا يزعجونه، ومن يراهم هو مناسبين له، بحسب سلطته التقديرية".

ويعتبر خبراء القانون أنّ الدستور الجديد سيتيح لسعيّد احتكار كافة السلطات وتحصين نفسه من أي مساءلة أو محاسبة وتغيير طبيعة نظام الحكم بما في ذلك اعتماده على النظام القاعدي.

واعتمد سعيّد، في عدد من فقرات الدستور الجديد على مصطلح "الخطر الداهم" مدخلاً لفرض حالة الاستثناء، ما زاد من مخاوف المراقبين من نوايا سعيّد في الفترة المقبلة، خصوصاً بعد انحرافه في استغلال البند 80 في دستور 2014 لفرض تدابير استثنائية، في 25 يوليو/تموز 2021، مكّنته من بسط نفوذه.

وعوّض سعيّد البند 80 في دستور 2014 بالبند 96 من مشروع الدستور الجديد، واعتمد أيضاً على "الخطر الداهم" في الدستور الجديد في البند 90 لتمديد مدة حكم رئيس الجمهورية عبر قانون، دون تقييد أو رقابة دستورية لتقييم الخطر الداهم وتحديده وإقراره من قبل المحكمة الدستورية أو هيئة مستقلة.

كما اعتمد أيضاً على "الخطر الداهم" في البندين 60 و63 في علاقة باستحالة إجراء الانتخابات التشريعية ولتمديد مدة البرلمان عبر قانون، من دون تحديد رقابة دستورية على ذلك.

واعتبرت أستاذة القانون الدستوري، منى كريّم، في تصريح سابق، لـ"العربي الجديد"، أنّ "سعيّد يبحث عبر نص الدستور لإرساء نظام، يكون فيه الرئيس محور السلطة، يسيطر فيه على كافة دواليب الدولة والسلطات والمحكمة الدستورية".

وأشارت إلى أن ّ"مشروع الدستور يمثل خطوة كبيرة إلى الوراء"، مضيفة أنه "غيّب تماماً الدولة المدنية التي كانت تمثل ضمانة قوية للحقوق والحريات".

وتقول كريّم: "نحن إزاء دستور فيه تغليب واضح وفاضح لسلطة الرئيس، فهو المشرّع والمنفذ والمتدخل في القضاء، ومعين الحكومة والمحكمة الدستورية، ولا وجود لحسيب أو رقيب عليه، رئيس بصلاحيات سلطانية".

نظام رئاسي يحتكر السلطات ولا يخضع للمحاسبة

من جهته، يعتبر أستاذ القانون الدستوري خالد الدبابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "النظام السياسي الذي جاء به الدستور الجديد يؤسس لنظام رئاسي بامتياز، يختل فيه توازن السلطات والصلاحيات لصالح رئيس الجمهورية بطريقة واضحة ومكشوفة، ويحتكر الرئيس السلطة التنفيذية ويهيمن على السلطتين التشريعية والقضائية".

ويشدّد على أنّ "الأخطر مع كل هذه الصلاحيات الواسعة أنّ رئيس الجمهورية غير مسؤول لا سياسياً ولا دستورياً أمام أية هيئة أخرى، فلا يخضع للمحاسبة ولا للمساءلة".

ويبيّن الدبابي أنّ "رئيس الجمهورية هو الذي يضبط السياسة العامة للدولة، والحكومة مسؤولة سياسياً أمامه وهو يعينها ويعزلها، والرئيس أيضاً بإمكانه حلّ البرلمان بغرفتيه، مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للجهات والأقاليم الجديد، الذي لم ينص على كيفية انتخابه".

ويتابع أستاذ القانون الدستوري أنّ "للرئيس الحق في المبادرة التشريعية وله الأولوية في ذلك، كما له الحق في اتخاذ مراسيم إثر تفويض برلماني أو أثناء العطلة البرلمانية أو إثر حل البرلمان. كما يمارس حق الفيتو لرد مشاريع القوانين المصادق عليها من قبل البرلمان، ويمارس سلطات الأزمة إثر إعلان حالة الاستثناء، من دون أي رقابة في ما يخص المدة الاستثنائية، فهو من يقدّر الخطر الداهم وخطورته وزواله لاستعادة الحالة الطبيعية".

ويشدّد الدبابي على أن "هذا النظام غريب، ولا يشبه الأنظمة الديمقراطية المتعارف عليها، فصلاحيات رئيس الدولة هي صلاحيات الوزير الأول (رئيس الحكومة) في النظام البريطاني البرلماني، ومعها صلاحيات رئيس الدولة في النظام الأميركي مجتمعة معاً وفي آن واحد، ومن دون أي رقابة عليه أو مسؤولية لا سياسية ولا دستورية ولا جزائية".

الدبابي: هذا النظام غريب، ولا يشبه الأنظمة الديمقراطية المتعارف عليها

ويقول الدبابي إن "التنصيص على سحب الوكالة من النواب، علاوة على غموضه وكيفية تطبيقه، لن يزيد إلا من إضعاف السلطة التشريعية، وذلك بإرساء برلمان غير مستقر، ونوابه يعملون تحت سيف التهديد والتخويف بسحب الوكالة".

ويقوم مشروع دستور سعيّد على ضرب السلطات بتحويلها إلى وظائف، تشريعية وتنفيذية وقضائية، لينزع منها كل صلاحية ويخضعها إلى سلطة واحدة مستمدة من الانتخابات ومتمركزة في الرئيس.

ويضعف الدستور صلاحيات البرلمان بالحد من اختصاصاته الرقابية على الحكومة وبقية السلطات والهيئات التي كانت في دستور 2014، في مقابل تشتيت سلطة التشريع، عبر إنشاء المجلس الأعلى للجهات والأقاليم، من دون تحديد طريقة انتخابه شعبياً.

وأبقى سعيد في دستوره على هيئة الانتخابات فقط بعد إلغائه هيئة حقوق الإنسان وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وهيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة وهيئة الاتصال السمعي البصري.

كما ألغى الدستور الجديد مبدأ السلطة اللامركزية، بحذف باب السلطة المحلية، بما يعتبره الخبراء تراجعاً عن مبدأ الديمقراطية المحلية واستهدافاً محتملاً للبلديات المنتخبة في عام 2018، ورجوعاً إلى الدولة المركزية كما كانت في دستور 1959، مع إشراف وزارة الداخلية على البلديات وإخضاع الجهات لسلطات المحافظين المعينين من الرئيس.

ويذهب خبراء القانون إلى حد القول إن الدستور الجديد يمسّ بالحريات والحقوق التي كانت مكفولة في دستور 2014، مع إلغاء حق القضاة في الإضراب.

ولا ينص الدستور على مدنية الدولة، لكنه ينصّ على مقاصد الإسلام وتأصيل الناشئة في الهوية العربية الإسلامية، بالإضافة إلى الانتماء للأمة العربية والإسلامية، وهو ما يفتح باب الجدل الواسع حول مدنية الدولة وتوظيف الدين في السياسة.

ولا يتضمن الدستور أيضاً حق المعارضة ودورها، كما كان في دستور 2014، وهو ما يراه المعارضون ضرباً لحق المعارضين والمنافسين، وتمهيداً لتصفية أي نفس معارض مستقبلاً.

المساهمون