منذ تلوّنت صور الحملات الدعائية للانتخابات الأميركية التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وعدد من المتابعين والخبراء يتساءلون عن مستقبل السياسة الأميركية الداخلية للبيت الأبيض، بعد ظهور صوت جمهوري "أبيض" كان بعيداً عن عالم السياسة، وكان يبدو أنه يحاول، كلّما استطاع، أن يكون شعبوياً بخطابه وبسلوكه وبتعامله مع الماكينة الإعلامية.
انتقال السلطة يواجه تحديات
ومنذ بدأ الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة دونالد ترامب ولايته في بداية عام 2017، برز الحديث العام عن سيناريوهات انتقال السلطة في البلاد، والذي ظلّ يقض مضاجع كُثر، بعدما أكد ترامب علناً وفي أكثر من مناسبة عدم رغبته احترام نتائج الانتخابات، ولا سيما إذا انتهت دورة إدارته ولم يحالفه الحظ لأخرى، فضلاً عن تساؤلات عن فعاليته السياسية كأحد أفراد النخبة المنتمية إلى أسواق المال والعقارات.
منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، برز تساؤل حول إمكانية رفضه التسليم بخسارته في أي انتخابات لاحقة
وعطفاً على المخاوف السابقة، أشارت روزا بروكس، أستاذة القانون الدستوري والدولي والأمن القومي في كلية الحقوق بجامعة جورج تاون، في مبادرة محاكاة الانتخابات عام 2020، إلى أن ثمة أربعة سيناريوهات تجعل حال المتابعين مرتبكة. وفي سياق تلك السيناريوهات، ومنذ ذلك الوقت، كُشف عن تساؤل كبير حول تسليم ترامب بنتيجة الانتخابات أو رفضه لها واتهامه الآخرين بسرقتها.
وهذا ما عاد ليتأكد من خلال تغريدات ترامب بعد انتخابات ذلك العام، وفوز جو بايدن بالرئاسة، عن أن الانتخابات قد سُرقت، ومن خلال خطابه التعبوي، وما لحق ذلك من اقتحام أنصاره في 6 يناير/كانون الثاني 2021 مقر الكونغرس (الكابيتول) في العاصمة الأميركية واشنطن، رافعين بنادقهم، متسكعين في مكتب رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة الديمقراطية نانسي بيلوسي.
حقبة ترامب وقدرته الاستثنائية على تحريك جمهوره تعدت كونها حالة فردية في عالم السياسة سطع نجمها ثم هوت، بل تأتي وكأنها ظاهرة تتعلق بمرونة النظم الديمقراطية وآفاقها، وتحتاج إلى مزيد من الفهم في سياق مجتمع أميركي مُسلّح قد يواجه حرباً أهلية في سياق ظواهر جسيمة دموية كالعنف وإطلاق النار.
أما اليوم، وبينما يتحضر المجتمع الأميركي لدورة انتخابية مقبلة ستعقد في نوفمبر 2024، يبدو أن حضور ترامب ما زال يتصدر عنوانين الصحف والأخبار العاجلة في مرحلة ما قبل الانتخابات، لا سيما في ظل ظرفية مواجهته العلنية للوائح اتهامات، أبرز ما جاء فيها يتعلق بقضايا احتيال على الولايات المتحدة، والتآمر لعرقلة إجراء رسمي، والتآمر ضد الحقوق، وتسريب ملفات حكومية وأمنية شديدة الحساسية، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل التحرش الجنسي.
وكانت آخر تلك القضايا محاكمته في سجن مقاطعة فولتون في ولاية جورجيا الأميركية، وخلالها وثّقت أول صورة على الإطلاق لرئيس أميركي مُدان بقضايا جنائية في سجن، ظهر خلالها ترامب بنظرات تحدٍ، بينما وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه "رجل وسيم"، إذ إن كليهما بقيا يتواجهان بطريقة ندية لكنها مألوفة في عالم السياسة.
اللافت للنظر أن ترامب ما زال يتمسك بنوع الخطاب ذاته منذ اليوم الأول لدعايته الانتخابية لولايته الأولى، وهو خطاب ربما تتجذر فيه أبعاد القوة التي تتبنى تخويف الناس من الآخر، وترهيبهم في حال لم يكن صاحب ذاك الخطاب في مشهد الحاضر والمستقبل.
حسن أيوب: ثمة بُعد سيكولوجي له صلة بقدرة ترامب الهائلة على التلاعب بالجمهور والإعلام
ربما تجعل هذه الأفكار القارئ يستأنس بكتاب نيكولو مكيافيلي "الأمير". إذ يقول مكيافيلي إن السياسي لا يستطيع أن يكون صادقاً وجيداً في آن واحد، بل يمكن أن يتظاهر بهما في سبيل الحفاظ على السلطة أو تأمين مستقبله السياسي. وبالتالي يصبح خطاب التخويف أساساً في تشكيل القوة، وهي قوة لا تمثل السلطة تمثيلاً عادلاً انطلاقاً من نظريات العقد الاجتماعي التي صانت علاقات القوة المشروعة بين الحاكم والمحكوم، بل هي قوة من مزيج من تعبيرات مقصودة تنتجها مشاعر سياسية من أجل التأثير على الجمهور في مكان وزمان معينين.
سرقة الانتخابات الأميركية... خطاب مزدوج الرسائل
وفي سؤالٍ مع متابعين عن إصرار ترامب في خطابه على أن الانتخابات مسروقة، على الرغم من كل ما يقف ضده من لوائح اتهام، يجيب أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، الباحث في برنامج "فلبرايت" بجامعة إلينوي أوربانا شامبين في الولايات المتحدة حسن أيوب، "العربي الجديد" بأن "استمرار ترامب بالادعاء بتزوير الانتخابات من شأنه أن يعزز رسالة مزدوجة لمؤيديه: الأولى، بأنه هو الوحيد القادر على تعرية وتحدي هيمنة المؤسسة الرسمية، وبالتالي هو صاحب الحظ الأوفر في الانتخابات المقبلة، وبأن ما يحدث هو ملاحقة سياسية تهدف لمنعه من الترشح للانتخابات. والثانية هي أن المحاكمات التي يتعرض لها لا تخرج عن سياق محاولات إسكات صوت أميركا كما يعبر عنه ترامب من خلال شعار "ماغا"(جعل أميركا عظيمة مجدداً).
ويلفت أيوب إلى أنه "من ناحية أخرى، ثمة بُعد سيكولوجي له صلة بقدرة ترامب الهائلة على التلاعب بالجمهور والإعلام، والتي لازمت صعوده السياسي". وبرأيه، فإن "الإصرار على ذات الادعاء، يحوّله من مجرد ادعاء إلى حقيقة بنظر الملايين من مؤيدي ترامب، ما يجعل قدرته على الحشد ذات أبعاد قياسية، وهو ما تشير إليه استطلاعات الرأي في الحزب الجمهوري، والأموال التي يحصل عليها دعماً لترشحه."
إذاً يُلاحَظ أن ترامب يُمارس في خطابه هيمنة يمكن أن يُقال عنها إنها مضادة لهيمنة المؤسسة الرسمية. وكأن الرجل كفرد يرتكز على تأليب ملايين الجماهير في مواجهة ندية صفرية وغير مألوفة مع نظام ومؤسسات، وكأنه يقول إن ذات المؤسسة لا يُمكن أن تكون عقلانية ومُقدسة إلا إذا كان هو فيها، وما عدا ذلك، فإنها ضرب من ضروب الجنون ومركزاً للتآمر على أميركا، وعلى مصير الشعب.
أميركا التي نعرفها وأميركا ترامب
خديجة ديابي: لا يصدق أنصار ترامب بشكل عام أي منافذ إخبارية تنتقده
وعندما يقول أميركا، يتساءل القارئ عن ذلك، ويبدو أن الأقرب لسلوك الرجل أنه لا يقصد أميركا الجلية بتركيباتها الحالية الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والطبقية والعرقية، أي أن خطابه لا يبدو إصلاحياً فيما لو افترضنا رغبة الإصلاح، بل يظهر وكأنه يقصد أميركا الضيقة المنفتحة على دعمه والتصويت لصالحه فحسب. وبهذا فإن نظرته تصبح نظرة العرق والطبقة في آن، ومنها يتشكل خطابه السياسي الذي يُسمع الآن، والذي قاد إلى تسريع وتيرة الصراع داخل المجتمع في مراحل معينة بين أعوام 2017 و2021، كان أبرزها اقتحام الكابيتول في عام 2020.
وفي سياق الحديث عن الجهات التي يستهدفها ترامب في خطابه، تقول خديجة ديابي، الباحثة الأميركية في برنامج دكتوراه إدارة الصراع الدولي في ولاية جورجيا الأميركية، لـ"العربي الجديد": "أعتقد، بناءً على ما أراه، أن ترامب يعزز قاعدته... يعتقد أنصاره أنه لا يمكن أن يرتكب أي خطأ، لذلك فهو يعمل لصالح الشعب ذاته". وتضيف: "أعتقد أن ترامب قال في عام 2016 إن وسائل الإعلام (أي وسائل الإعلام التي لا تتماشى مع طموحاته) مصدر للأخبار المزيفة وإنهم يسعون للقبض عليه. لذلك، لا يصدق أنصار ترامب بشكل عام أي منافذ إخبارية تنتقده إلا إذا جاءت من مسؤولي ترامب أو مصادر يمينية أخرى. ولذلك، فإن الكثير من أنصار ترامب سوف يعتبرون أولئك الذين ينتقدونه خائنين".
يأتي التنافس القائم اليوم بشكل أكثر قرباً إلى تنافس إقصائي صريح، وكمواجهة مفتوحة بين المؤسسة الرسمية وبين ترامب، وبين قطبين ديمقراطي وجمهوري يعتبر أحدهما (أي الجمهوري المناصر لترامب) أنه يدافع عن عظمة أميركا وعن الشخصية التي تستطيع جعل ذات البلد عظيمة. ولهذا، ستكون الأيام المقبلة ربما مليئة بفيض من المفاجآت التي وإن حدثت أشدها ضراوة، كالحرب الأهلية مثلاً، فإن صيرورةً ما ستطرأ على العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي والديمقراطية.
وعن المستقبل، تجيب الباحثة الأميركية ديابي: "لدينا انتخابات رئاسية في العام المقبل، وبالتالي فإن الانتخابات التمهيدية للجمهوريين ستجرى في أوائل عام 2024. لذا، أعتقد أن ترامب يحاول إثارة غضب قاعدته الانتخابية وإصرارها على الخروج للتصويت معه. وحتى عندما خسر أمام بايدن، حصل على ما يقرب من 100 مليون صوت على الرغم من وجود أدلة عديدة على خرقه القوانين".
يتبين أن القاعدة تدعم الهرم، ووفق ذلك، ربما يوظف ترامب خطابه السياسي، ويصر على خوض غمار الانتخابات، ويمضي مؤكداً أنه لا يُمكن أن يرحل، مهما حدث أو سيحدث.
وفي تساؤل عن أهلية ترامب لخوض الانتخابات، يقول أستاذ القانون في جامعة ميسوري فرانك بومان، في مقابلة مع شبكة "صوت أميركا"، في أغسطس/آب الماضي، إنه "ما دام المرشح لم يُدن بالتمرد، ويطابق شروط الأهلية الثلاثة: كأن يكون المرشح مواطن أميركي بالولادة، وأن يبلغ من العمر 35 عاما على الأقل، وأن يكون قد عاش في البلاد لمدة 14 عاما على الأقل، فإنه أهل للترشح".
ولكن لو سُجن ترامب لإدانة أخرى غير التمرد، فإن الإجابة على هذا السؤال رهينة الوقت، ولكن حدث في تاريخ الولايات المتحدة أن تكون دعاية انتخابية لمرشحين من وراء القضبان مثل يوجين ف. دبس، المرشح الرئاسي عن الحزب الاشتراكي في عام 1920، والناشط السياسي ليندون لاروش في عام 1992. إذاً، يبدو أن ترامب يمكن أن يقود حملته الانتخابية من داخل غرفة سجنه فيما لو جرت إدانته وسجنه، لكن إذا حدث ذلك، فيمكن أن يكون المجتمع الأميركي على صفيح ساخن جداً.