الخطاب السياسي الفلسطيني والثوابت الفلسطينية

26 مارس 2023
مجموعة من الكتائب الفلسطينية المسلحة في مدينة نابلس (ناصر اشتيه/Getty)
+ الخط -

 ظهر مصطلح الثوابت الفلسطينية بعد أن نزعت منظمة التحرير إلى قبول قرارات الشرعية الدولية، المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتحديداً قبول حل الدولتين، فكانت الثوابت متغيرة عن الثابت الأساس وهو الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه، فالثابت في الخطاب السياسي الفلسطيني لم يكن ثابتاً، وهو ليس ثابتاً اليوم أيضاً.

مثلث الحقوق؛ التي وصفت بالمشروعة وأحيانا بالشرعية للشعب الفلسطيني، الدولة والعودة والقدس تحت سقفها الطبيعي، هي نتاج لمتغير مستمر للحق التاريخي، الذي خضع لعملية تغيير قهري في ظل اختلال موازين القوى، وتبني منظمة التحرير حل الدولتين على أساس قرار مجلس الأمن  242، الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967،  إلى أن خضعت الثوابت الفلسطينية لعملية إضعاف وتفكيك، خلال مسيرة التسوية وما احتوته من مضامين غامضة، أخلت بالثوابت الوطنية نفسها، الحدود والدولة والقدس العاصمة، سواء ما يتعلق بمكانة القدس، التي انتهكت هويتها ومكانتها التاريخية والحضارية، وطابعها الجغرافي والديمغرافي، أو الإخفاق في جعل الدولة صورة للوطن من حيث الحدود والهوية الوطنية، أو بما يخص وحدة الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات فيما يتعلق بحق العودة، الذي خضع لابتزاز سياسي خطير، يهدد بفقدان أسسه القانونية والتاريخية، عبر الحديث عن سيناريوهات تتعلق بعدد العائدين وأماكن وجهات العودة، ونص المبادرة العربية الذي ربط حق العودة بموافقة العدو، وتفصيلات كثيرة أفرغت كل الثوابت من مضامينها، بل وأعطت إيحاءً سلبياً عن حقوق مشروعة وحقوق غير مشروعة للشعب الفلسطيني.

 

إن الأمل بمواجهة هذا التهديد، يأتي من جيل ناهض من الشبان اليافعين، في أعلى حالة تعبير عن الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني، الذي يتمسك بخط المقاومة طريقاً للحرية والاستقلال

إن المشروع الوطني؛ بالمضامين المشار إليها في خطابنا السياسي والثقافي، باعتباره جوهر الثوابت الوطنية الفلسطينية، ليس سوى متغير متواصل عن متغير قديم، من البرنامج القومي والميثاق القومي، الذي تأسست عليه منظمة التحرير، إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، والذي تم تجاوزه في البرنامج المرحلي، ثم حل الدولتين وصولاً إلى اتفاق أوسلو.

الأخطر أن البرنامج الوطني؛ بثوابته المذكورة، ما زال خاضعاً للتفاوض، وعرضةً للتغيير المستمر، في ضوء الحديث عن العودة إلى مفاوضات تقوم على اختلال موازين القوى، تدفع الفلسطيني إلى إعادة تعريف الثوابت، ما ظهر فعلياً، عبر قبول التبادلية، وتفسيرات المبادرة العربية لحق العودة، ومعايير كلينتون في القدس، ما يبرر القول "إن الثابت في الخطاب السياسي الفلسطيني لم يكن ثابتاً وهو ليس ثابتاً اليوم أيضاً".

لا يوجد ما يوحي بغير ذلك؛ في ظل ارتباك الأداء وعدم الثبات في قرارات القيادة، فهي تقرر من جهة التوجه إلى محكمة الجنايات الدولية، أو وقف التنسيق الأمني، أو تحديد/ تعليق العلاقة مع دولة الاحتلال، لكنها من جهة أخرى تعود عن قراراتها قبل أن يجف حبرها، وقد شهدنا سحب القرارات والتقارير المقدمة إلى مجلس الأمن أكثر من مرة، استجابة إلى الضغط الأميركي، ما دفع القيادة الفلسطينية من أجل تغطية حالة الضعف والعجز السياسي، إلى تبني خطاب تضمن رفع المواقف وتخفيض السياسات، لاستمالة تأييد الشعب أو قطاعاته الحاملة للنظام، بينما تخضع للأمر الواقع المفروض من قبل دولة الاحتلال، وتستجيب للضغوطات الدولية المنحازة لدولة الاحتلال، خاصة الولايات المتحدة.

 

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

يتميز أسلوب رفع المواقف وتخفيض السياسات بالتقلب وعدم الثبات، لعدم التمييز بين السياسات وبين المواقف أحياناً، مدفوعةً بتغليب مسألة الحكم على كل مسألة أخرى، والمراهنة على تغيرات مأمولة في الواقع الدولي قد تساعدها في تحقيق بعض أهدافها "ما يعرف بسياسة الانتظار"، تحاول من خلالها كسب الوقت باستخدام سياسة بيع الوهم وشراء الوقت، حتى نفد كل الوقت الممكن أن تشتريه، ولم يبق سوى بيع وشراء الوهم.

إن أي قيادة تفقد نفسها أدوات الفعل النضالية والسياسية، لا يبقى أمامها من خيارات إلا ما يتركه لها الاحتلال من مساحات للتنفس، فقد انتقلت دولة الاحتلال من استراتيجية الاعتماد على سلطة قوية في بنيتها الإدارية والاقتصادية والأمنية، تقوم بالوظائف المدنية والأمنية، إلى الحفاظ على سلطة فلسطينية ضعيفة، تتنفس من رئة صناعية إسرائيلية، تضيق وتتسع وفقاً لقرارات دولة الاحتلال ومصالحه، ولضرورات وجود عنوان للشعب الفلسطيني يمكن الضغط عليه، ينطبق الأمر نفسه على قطاع غزة، مع فارق بمكونات القوة والضعف، لمنع تطور حالات مقاومة جدّية، أو مواجهات شعبية واسعة مع الشعب الفلسطيني، في هذا السياق جاء لقاء العقبة الأخير، والموافقة على الخطة الأميركية بهذا الخصوص، التي ستنقل كرة اللهب من إسرائيل إلى حضن الشعب الفلسطيني، في حال شرعت السلطة بتنفيذ متطلبات تلك الخطة.

كان قبول القيادة الفلسطينية الأمر الواقع، واستخدام دولة الاحتلال سياسة العصا الغليظة ضد الشعب الفلسطيني؛ متمثلة بالقتل والاعتقال، واستباحة الأرض الفلسطينية وتكثيف الاستيطان وتهويد القدس والضفة الغربية، وتنفيذ مخطط تقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً، وحصار وخنق قطاع غزة، وسلب الأموال الفلسطينية، والبطش بالأسرى، هو الهدف الذي سعت إليه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لتخفيض سقف المطالب الفلسطينية، ودفع الفلسطينيين إلى اليأس من مشروعهم الوطني، وتخليهم عن حلمهم بالحرية والاستقلال والدولة والعودة. وتحويلهم لقبول الحل السياسي وفقاً لاستراتيجية اليمين الإسرائيلي، بقبول كيانية فلسطينية محدودة الصلاحيات، بلا أي سيادة لا على السكان ولا على الأرض، تستمد شرعية وجودها بتفويض من المحتل.

 

كانت الثوابت متغيرة عن الثابت الأساس وهو الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه، فالثابت في الخطاب السياسي الفلسطيني لم يكن ثابتاً، وهو ليس ثابتاً اليوم أيضاً

مع بروز تيار اليمين الفاشي في حكومة إسرائيل، الذي أعلن على لسان وزير المالية وهو الوزير المفوض في وزارة الدفاع الإسرائيلية بكل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، "أمام الفلسطينيين ثلاثة خيارات الأول أن يعيشوا في حدود دولة إسرائيل بلا حقوق، والثاني أن يرحلوا، والثالث أن يرفضوا ويقتلوا"، بدأت دولة الاحتلال بتنفيذ خطة الحسم لتصفية القضية الفلسطينية كلياً، مستفيدةً من افتقاد الفلسطينيين لحلفائهم الطبيعيين على الساحة العربية، بعد انزلاق عدد من الأنظمة العربية إلى هاوية التطبيع مع دولة الاحتلال، وانشغال العالم بالحرب الروسية الأوكرانية.

لم تنحصر أزمة النظام السياسي الفلسطيني في الخطاب الثابت المتغير وتجارة الوهم فقط، بل في الانصياع لضغوط الولايات المتحدة الأميركية، المنحازة تماماً إلى مصالح إسرائيل، والتي تعمل على تطويع وتغيير وظيفة الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها السياسي، بحيث تخرجهما تماماً عن وظيفتهما في استكمال وقيادة عملية التحرر الوطني وإنجاز الاستقلال وقيام الدولة وتحقيق العودة، إلى نظام حكم تحت منظومة الاحتلال، الأمر يهدد بتصفية القضية الفلسطينية.

إن الأمل بمواجهة هذا التهديد، يأتي من جيل ناهض من الشبان اليافعين، في أعلى حالة تعبير عن الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني، الذي يتمسك بخط المقاومة طريقاً للحرية والاستقلال،  تأكيداً لإرادة الشعب الفلسطيني برفض التطويع والاستسلام، لكن هذه الإرادة ما زالت تفتقر للحاضنة السياسية والتنظيم المتكامل، مع غياب لدور فصائل المقاومة، التي تختبئ خلف تضحيات فرسان هذا الجيل العظيم، الذي يفتقد الدعم المالي والخبرة والتدريب والتأهيل اللازم لمواجهة التحديات، لكنه جيل واعد بات يلفت انتباه العالم ويستحوذ على تأييد الشعب الفلسطيني، إذا قُدر له أن يثبت ويُطور طليعته السياسية وحاضنته الوطنية، سوف يكون له أثر كبير في تغير المسار واستكمال عملية التحرر الوطني، إن الحكمة والمصلحة الوطنية تتطلب رعاية هذا الجيل سواء من منظومة الحكم أو من الفصائل، لا إدارة الظهر له أو الاختباء خلفه أو العمل على تفكيك مقومات وجوده.